“إدوارد سنودن”.. ابن المخابرات الأمريكية الذي أفشى أعمق أسرارها

في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، خط مُزارع روماني يدعى “لوسيوس كونكتيوس سينسيناتوس” اسمه في عمق التاريخ، حين تولى السلطة لإدارة الطوارئ في روما، من أجل مواجهة هجوم لقبيلة “الآيكي”. وقد أنهى “سينسيناتوس” المعركة في 16 يوما، ثم ترك منصبه طوعا ليعود إلى مزرعته.

أصبحت شخصية ذلك المزارع أسطورية وملهمة على مر التاريخ، لكن لم يتخيّل أحد أن تدفع روحه أحد الشبان الأمريكيين عام 2013 لمخاطرة كبيرة، وهي كشف أسرار استخباراتية أمريكية في غاية الخطورة للعالم.

كان ذلك الشاب هو “إدوارد سنودن”، وهو موظف سابق في وكالة الاستخبارات ووكالة الأمن القومي بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد كشف الستار عن برنامج للتجسس على ملايين الأشخاص، حين قرر نشر وثائق حكومية سرية هزت الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تخفّى في البداية تحت اسم “سينسيناتوس”، نسبة إلى “لوسيوس كونكتيوس سينسيناتوس”.

كان “سينسيناتوس” يمثل لدى “سنودن” نموذجا للفضيلة ورمزا لاستخدام السلطة السياسية في سبيل المصلحة العامة، والتخلي عن السلطة الفردية من أجل المجموعة. ومنذ ذلك العام، أدخل “سنودن” إدارة الرئيس “باراك أوباما” في دوامة داخلية وخارجية، فصارت تلاحقه وكالات الأمن القومي الأمريكية ودول غربية أخرى، فاختار مظلة قوية للاحتماء بها، ألا وهي روسيا.

“أنا سيد الزمن، أنا حر”.. بذرة التمرد والعصيان والاختراع

تحظى عائلة “سنودن” بعلاقات تاريخية مع النشاط الأمني والبحري، فقد قاتل جل أفراد عائلته في كل حروب التاريخ الأمريكي، وكان والده يعمل في خفر السواحل. أما “إدوارد” نفسه فقد كان شغوفا بالأساطير اليونانية والرومانية، وقد بدأ شغفه بالتلاعب بتكنولوجيا بسيطة، وهي عقارب الساعة، وفعل ذلك لكسر قيود القواعد الصارمة التي ضربتها عائلته في توقيت النوم.

“إدوارد سنودن” المطلوب الأول لدى الولايات المتحدة الأمريكية

يقول في مذكراته “إدوارد سنودن.. الذاكرة الحية”: أول شيء اخترقتُه هو الوقت الذي يرسلونني فيه إلى السرير، فلقد وجدت أنه من غير العدل أن يجبرني والداي على الذهاب إلى السرير قبلهما وقبل أختي، حتى لو لم أكن متعبا، وكان ذلك أول ظلم صغير يثير حفيظتي.

لذلك فقد تضمنت معظم الليالي الـ2000 الأولى من حياتي أعمال عصيان مدني، فبكيت وتوسلت وهربت، حتى اكتشفت أمرا عندما كان عمري 6 سنوات، كان ذلك في حفلة عيد ميلادي. لقد أمضيت واحدا من أفضل أيام حياتي مع أصدقائي، واحتفلنا بعيد ميلادي وحصلت على الهدايا، ولم يكن هناك شك في التوقف عند هذا الحد لسبب وجيه وبسيط، وهو أن الآخرين يجب أن يعودوا إلى ديارهم. فذهبت سرا لتأخير ساعات المنزل عدة ساعات، وعندما رأيت أن والديّ لم يلاحظا أي شيء، أحسست بالانتصار وركضت حول غرفة المعيشة. أنا سيد الزمن، لن أُرسل إلى السرير مرة أخرى، أنا حر.

عالم الحواسيب.. شغف الطفولة ومضمار العبقرية

كان “لوني سنودن” ذا فضل كبير على ابنه “إدوارد” في تنمية شغفه بعالم الإلكترونيات، فقد جلب له لعبة “نينتندو” (لعبة تمسك بكلتا اليدين) حين كان ابن 6 سنوات، ثم علّمه تفكيكها وإصلاحها، ثم جلب له حاسوبا للمنزل، وعلم ابنه أساسيات استخدامه، لكن “إدوارد” لم يكتف بتلك الأساسيات، فأصبح الحاسوب منذ ذلك الوقت رفيقه الأوحد، فتعلم البرمجة وبرع فيها.

منذ نعومة أظفاره، كان إدوارد سنودن يلعب بالكمبيوترات ويتعلم برمجتها

وحين بلغ 9 سنوات، انتقلت عائلته إلى ولاية ماريلاند، فواصل الابن تعليمه هناك، ويقول إن المنطقة الجديدة التي سكنها كانت يومئذ مأهولة بموظفين في الحكومة، أو ممن يعملون في الشركات التي تتعامل مع الحكومة، ومنهم والداه، فقد كان والده يعمل في خفر السواحل، وعملت والدته كاتبة في جمعية للتأمين تعمل مع وكالة الأمن القومي.

ومنذ انتقاله إلى ولاية ميريلاند، حكمت كل الظروف على “إدوارد سنودن” الطفل بأن يسلك طريقين سيتقاطعان في شبابه، الأول رفقته الدائمة للحاسوب في ظل عزلته في مدرسته، والثاني العمل مع الحكومة الأمريكية.

“لوني سنودن” يمسك بصورة ابنه “إدوارد”

يقول “سنودن” في مذكراته إن الإنترنت وفر له الحرية في ابتكار شخصية جديدة تماما خلف شاشة الحاسوب، فانضم إلى المنتديات، ولم يكن يكشف عن عمره الحقيقي للأشخاص الذين يتحدث معهم، وبات مقتنعا أن المدرسة “نظام غير شرعي” حسب قوله، لذلك أصبحت علاقته بالمدرسة فاترة، وببلوغه 13 عاما أصبح يقضي وقتا أقل في المدرسة، بينما يعمّق صلته بالعالم الافتراضي، وينمي مهاراته في البرمجة.

“لوني سنودن” يمسك بصورة ابنه “إدوارد”

ويروي أن أول عملية اختراق قام بها أدت إلى إثارة المشاكل، فقد زار الموقع الإلكتروني لمختبر “لوس ألاموس” الوطني، وهو منشأة للأبحاث النووية، وتفطن لثغرة أمنية كبيرة مكنته من الوصول إلى دليل مجلدات المنشأة، مما يكشف عن المواد المكتبية السرية ومعلومات عن الموظفين هناك، ثم أرسل بريدا إلكترونيا إلى مشرف الموقع ينبهه فيه على الثغرة الأمنية، وترك اسمه ورقم هاتفه في الرسالة. وبعد أسابيع اتصل شخص من المختبر، وقال إن المشكلة قد حُلت، وعرض وظيفة على “إدوارد”.

حرب العراق.. شعلة الوطنية والالتحاق بصفوف الجيش

ببلوغه 16 عاما، أصبح “إدوارد” يعيش منفردا، وعمل مصمم ويب مستقلا مع صديق له ياباني، حينها صمم على نيل شهادة في اختصاص التكنولوجيا، حتى ينال وظيفة جيدة، لذا سجل في دورة للتكوين لدى “مايكروسوفت”، وكان ذلك عام 2001، تزامنا مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.

كان الصحفي الأمريكي “غلين غرينوالد” أول صحفي سرب له “سنودن” الوثائق السرية، وهو يتحدث في كتابه “لا مكان للاختباء.. إدوارد سنودن، والولايات المتحدة، ودولة المراقبة الأمريكية” قائلا: تغيرت آراء “سنودن” السياسية جدا بعد هجوم 11 سبتمبر/ أيلول سنة 2001، وأصبح وطنيا بدرجة أكبر بكثير. وفي 2004، التحق بالجيش الأمريكي وقد بلغ العشرين، من أجل القتال في حرب العراق التي ظنها محاولة نبيلة من بلاده لتحرير الشعب العراقي من القمع.

الممثل “جوزيف غوردون” في دور “إدوارد سنودن”

لكنه وجد بعد بضعة أسابيع فقط من التدريب، أن الحديث عن قتل العرب كان أكثر من الحديث عن تحرير أي شخص، وعندما كسرت كلتا ساقيه في التدريب وأُرغم على ترك القتال، كان قد أصبح متحررا كليا من الوهم المتعلق بالغاية من الحرب، لكن “سنودن” كان لا يزال واثقا بالخير الكامن في الحكومة الأمريكية، ولهذا السبب قرر أن يحذو حذو عائلته، فتوجه للعمل في وكالة فدرالية.

يروي الكاتب “غرينوالد” أن “إدوارد” استطاع إيجاد فرص لنفسه من غير أن يكون ذا شهادة ثانوية، حتى أنه وجد عملا تقنيا مقابل 30 دولارا في الساعة قبل بلوغه 18 عاما، وفي 2002 أصبح مهندسا مُجازا من شركة “مايكروسوفت”.

لكنه ظل ينظر للعمل في الحكومة الفيدرالية على أنه شيء نبيل وواعد، ولهذا لم يفوت فرصة العمل حارسا أمنيا في مركز الدراسات اللغوية المتقدمة في جامعة ميريلاند، وهو مبنى تديره وكالة الأمن القومي وتستخدمه سرا، ومع أنه لم يكن ذا شهادة أكاديمية، فقد مكنته موهبته وذكاؤه من نيل فرص أكبر في العمل، فانتقل في 2005 من وظيفة حارس أمني، إلى منصب خبير تقني في وكالة الاستخبارات الأمريكية.

“إدوارد سنودن”.. صيد ثمين في يد المخابرات الأمريكية

في حديثه مع الصحفي “غلين غرينوالد”، يقول “إدوارد سنودن”: إن المنظومة الاستخباراتية الأمريكية كلها كانت بحاجة لتوظيف خبراء تقنيين لديها، ولهذا السبب اضطرت وكالات الأمن القومي إلى اللجوء لمصادر غير تقليدية للمواهب لتجنيدهم، وعادة ما يميل الأشخاص الذين لديهم مهارات حاسوبية متقدمة إلى أن يكونوا منعزلين، وغالبا ما يخفقون في التعليم الرسمي.

وقد أدت مهارة “سنودن” ودائرة علاقاته الاجتماعية الضيقة نسبيا، إلى أن يكون صيدا ثمينا لدى وكالة الاستخبارات ثم وكالة الأمن القومي، وأصبح موظفا يلقى التقدير الكامل، لأنه كان أوسع معرفة وأكثر كفاءة من معظم زملائه الأكبر سنا الحاصلين على شهادات جامعية.

تدرج “إدوارد سنودن” سريعا في وظيفته، وتمكن في 2006 من اقتلاع وظيفة ذات دوام كامل في وكالة الاستخبارات الأمريكية، بعد أن كان تقنيا متعاقدا، وبعد ذلك بعام انتقل للعمل مع الوكالة في سويسرا، وبقي في جنيف ثلاث سنوات، بعد انتدابه تحت غطاء سري.

يقول كتاب “لا مكان للاختباء”: يصف “سنودن” عمله في سويسرا بمدير أنظمة، فقد كان يعد التقني وخبير الأمن المعلوماتي الأعلى في سويسرا، وقد تنقل إلى مناطق كثيرة هناك لحل معضلات تقنية لم يكن غيره قادرا على إصلاحها. وفي 2008، كان ضمن وفد الرئيس الأمريكي في قمة الناتو برومانيا، لكن مع كل ذلك النجاح بدأ القلق يتسرب لنفسه تجاه ما تقوم به حكومة بلاده.

كانت شخصية “إدوارد سنودن” كالفراشة، فكلما زاد اقترابه من خزائن الحكومية السرية، ازدادت فرص احتراقه، ففي 2009، تحرر من وهم نُبل ما يفعله تحت غطاء الحكومة، وقرر أن يترك وكالة الاستخبارات المركزية بعد نهاية مهمته في جنيف، وبدأ بالتفكير في تسريب أسرار تكشف أخطاء وتجاوزات حكومة بلاده، لكنه عدل عن ذلك، لأنه كان يأمل أن يؤدي انتخاب “باراك أوباما” إلى إصلاح تلك الانتهاكات، لكن حصل العكس كما يقول، فقد وسع “أوباما” صلاحيات الدوائر الرسمية لتقترف انتهاكات أكبر.

ترك “سنودن” العمل في وكالة الاستخبارات، والتحق بشركة “ديل” التي كانت متعاقدة مع وكالة الأمن القومي، وفي 2010 أُرسل إلى اليابان، وهناك منحت له صلاحيات الوصول إلى أسرار المراقبة أكثر من أي وقت كان.

يقول “سنودن”: إن الأشياء التي رأيتها بدأت تثير غضبي حقا، فقد كان بوسعي مراقبة الطائرات من دون طيار، أثناء مراقبتها الأشخاص الذين قد تقتلهم. وكان بوسعي مراقبة قرى بأكملها ورؤية ما يفعله الجميع. وقد راقبتُ وكالة الأمن القومي وهي تتعقب بعض الناس على الإنترنت وهم يكتبون، لقد أدركتُ الاتساع الحقيقي لهذا النظام، ولم يكن هناك أحد تقريبا يعرف أن ذلك كان يحدث.

“نقف عند مفترق طرق تاريخي”.. ناقوس الخطر

يعرّف الكاتب “غلين غرينوالد” العالم الافتراضي قائلا: ليست الإنترنت مجالا منفصلا ومستقلا نؤدي فيه بضعة أعمال تتعلق بحياتنا اليومية، ولا سيما لدى الأجيال الشابة، إنه ليس صندوق بريدنا فحسب، بل هو مركز عالمنا، المكان الذي ينجز فيه كل شيء تقريبا، فيه نكتسب الأصدقاء الجدد، وفيه نختار الكتب والأفلام، وفيه ننظم نشاطنا السياسي، وفيه ننشئ ونخزن معظم بياناتنا الخاصة. إنه المكان الذي نطور فيه ونعبر فيه عن شخصياتنا وجوهر ذواتنا.

ثم يقول: إن تحويل هذه الشبكة إلى نظام مراقبة شامل، له نتائج محتملة ومختلفة عن أي برامج مراقبة حكومية سابقة، فجميع أنظمة التجسس السابقة كانت أكثر محدودية وقابلية للتفادي. من هنا، فإن السماح للمراقبة بالتجذر على الإنترنت يمكن أن يعني تعريض كل أشكال التفاعل والتخطيط وحتى الفكر البشري لتفتيش حكومي شامل، مما يهدد بإنتاج أشد أسلحة التدخل الحكومي قمعا وتطرفا في التاريخ البشري، وهذا ما يجعل المعلومات التي كشفها “سنودن” مذهلة وهامة على نحو حيوي، فقد أوضح لي “سنودن” أننا نقف عند مفترق طرق تاريخي.

وقد صاغ “غرينوالد” باقتضاب الهواجس التي دفعت “إدوارد سنودن” بشكل لا رجعة فيه، لكشف برامج الحكومة الأمريكية للتجسس على الجميع دون استثناء.

في 2011، انتهت مهمة “سنودن” في اليابان، وعاد للعمل في شركة “ديل”، ونُقل إلى مكتب تابع لوكالة الاستخبارات، وعمل ذلك المكتب مع شركة “مايكروسوفت” وشركات تكنولوجية أخرى لبناء أنظمة استخباراتية آمنة. يقول “سنودن”: شاهدت بشكل مباشر أن الدولة -ولا سيما وكالة الأمن القومي- كانت تعمل يدا بيد مع الشركات التكنولوجية الخاصة، لإتاحة إمكانية الوصول إلى اتصالات الأشخاص كافة.

“حينها قررتُ أن أقول الحقيقة”

في 2012، وصل قلق “إدوارد سنودن” من نظام حكومته إلى اتخاذه القرار بكشف انتهاكاتها، وهو يقول: أدركت أنهم كانوا يبنون نظاما يهدف إلى إزالة كل الخصوصية على مستوى الكرة الأرضية كلها، فلا يكون أي إنسان قادرا على التواصل إلكترونيا من دون أن تمتلك وكالة الأمن القومي الأمريكي القدرة على جمع المعلومات وتخزين البيانات وتحليل الاتصالات.

في ذلك العام نُقل “سنودن” إلى هاواي، وأمضى فترات من ذلك العام في تحميل وثائق كان يرى أنها يجب أن تصل للعالم، وفي بداية 2013، بدأ يفكر بجمع أكبر عدد من الوثائق حتى يتمكن من شرح الصورة كلها، وكان لا بد له من أن يخطط للوصول إلى وظيفة جديدة خارج شركة “ديل” وهي وظيفة محلل للبنية التحتية.

ولذلك تقدم لوظيفة في شركة “بوز ألين هاملتون”، وهي من أكبر الشركات المتعاقدة مع البنتاغون، وحصل على تلك الوظيفة، وأنهى آخر فصول مهمته في جمع الأدلة على المراقبة السرية، التي كانت وكالة الأمن القومي تقوم بها على كامل البنية التحتية للاتصالات في أمريكا.

معلقة لصورة سنودن في شوارع هونغ كونغ

يقول “إدوارد سنودن” في مذكراته “إدوارد سنودن، ذاكرة حية”: عندما كنت ابن 28 عاما، نِلتُ ترقية سريعة في فريق الاتصال الذي كان بمثابة جسر بين شركة “ديل” ووكالة المخابرات المركزية. كان من المتوقع أن أساعد رؤساء الأقسام الفنية في وكالة المخابرات المركزية بحل أي مشكل يخطر على بالهم، وقد أسهم فريقي بتطوير نظام جديد لتكنولوجيا المعلومات، وهو السحابة، وهو أول جهاز تكنولوجي يسمح لأي وكيل أينما كان بالوصول إلى البيانات التي يحتاجها أينما وجد.

كان علي أن أذهب إلى هاواي لأفهم المنطق الكامن وراء مهمتي بإنشاء نظام عالمي للمراقبة الجماعية، ففي نفق محفور تحت حقل أناناس، كان يضم فيما مضى مصنعا لصناعة الطائرات؛ وُضعت أمام محطة أتاحت لي إمكانية الوصول غير المحدود تقريبا إلى الاتصالات من أي شخص اتصل برقم أو كتب على جهاز كمبيوتر.

وكان من بينهم 320 مليون أمريكي، يُتجسس عليهم يوميا، وذلك انتهاك صارخ، لا لمبادئ الدستور الأمريكي فحسب، بل أيضا للقيم الأساسية لأي مجتمع حر. حينها قررتُ أن أقول الحقيقة، فجمعتُ وثائق داخلية تظهر مخالفة أجهزة المخابرات للقانون.

كان البرنامج الذي اكتشفه “إدوارد سنودن” هو برنامج “بريزم” الذي يسمح لوكالة الأمن القومي بالحصول على أي شيء تطلبه من شركات الإنترنت التي يتخذها ملايين الأشخاص حول العالم وسائل أساسية لتواصلهم.

وفي منتصف مايو/أيار 2013، طلب “إدوارد سنودن” إجازة أسبوعين، من أجل تلقي العلاج للصرع، وحزم أمتعته إلى هونغ كونغ، ومن هناك خطط لتسريب الوثائق التي بحوزته.

“دافعي الوحيد إعلام الناس بما يُفعل باسمهم وضدهم”

اختار “إدوارد سنودن” بعناية من سيسرب له تلك الوثائق، فانتقى الصحفي “غلين غرينوالد”، وصانعة أفلام وثائقية تدعى “لورا بويتراس”، وبدأ التواصل معهما من دون أن يكشف هويته الحقيقية.

بدأ التسريب الأول لـ”غلين غرينوالد” بإرسال 25 وثيقة، كانت بمثابة عربون ثقة بينهما، وسرعان ما تبين لـ”غرينوالد” أنها تحمل معطيات بمثابة القنبلة. وكانت الوثيقة الأولى دليلا تدريبيا لوكالة الأمن القومي الأمريكية، لتعليم المحللين العاملين بها كيفية التنصت على أهدافهم من خلال البريد الإلكتروني وأرقام الهواتف ضمن برنامج “بريزم”، وقد اكتشف “غرينوالد” من تلك الوثائق أن شركات منها “غوغل” و”ميكروسوفت” و”فيسبوك” و”سكايب” و”يوتيوب” و”آبل”، قد التحقت بذلك البرنامج.

يقول الصحفي “غرينوالد”: من الوثائق التي رأيتها قرارٌ سري من محكمة مراقبة الاستخبارات الخارجية (FISA) التي أنشأها الكونغرس الأمريكي. وكانت الفكرة من تشكيل هذه المحكمة تتمثل في أنه يمكن للحكومة أن تواصل المراقبة الإلكترونية، لكن يجب عليها استصدار إذن من محكمة (FISA) قبل القيام بذلك. إن هذه المحكمة هي من أكثر المؤسسات سرية في الحكومة، وكل أحكامها تصنف تلقائيا بأنها فائقة السرية، ولا يحق إلا للقليل من الأشخاص الاطلاع على قراراتها.

“سنودن” في مقابلة مع الصحفي الألماني “هوبرت شيبل” سنة 2014

إن القرار الذي قرأتُه على متن الطائرة كان مذهلا لعدة أسباب، لقد أمرت المحكمة -بموجب هذا القرار- شركة “فيريزون” بتسليم كل سجلات المكالمات التفصيلية إلى وكالة الأمن القومي فيما يتعلق بالاتصالات بين الولايات المتحدة والخارج بما في ذلك المكالمات المحلية، وهذا يعني أن الوكالة كانت تجمع سرا وعشوائيا السجلات الهاتفية لعشرات الملايين من الأمريكيين على الأقل.

ويعرض ملف في هذه الوثائق المسربة معطيات تبرهن أن وكالة الأمن القومي جمعت في ظرف شهر واحد من سنة 2013 أكثر من 3 مليارات عينة من بيانات الاتصالات من أنظمة الاتصالات الأمريكية وحدها. يقول كتاب “لا مكان للاختباء.. إدوارد سنودن، والولايات المتحدة الأمريكية، ودولة المراقبة الأمريكية”: يبين ذلك كذب وكالة الأمن القومي التي قالت للكونغرس إنها لا تمتلك البيانات ولا عدد المكالمات ومراسلات الأمريكيين الذين تعرضوا للمراقبة، وإنه ليس بوسعهم الاحتفاظ بمثل هذه البيانات، وإن مدير المخابرات في إدارة “أوباما” -وهو “جيمس كلابر”- كذب على الكونغرس عندما سأله السيناتور “رون وايدن” في 12 مارس/ آذار 2013، هل تجمع وكالة الأمن القومي أي نوع من البيانات عن الأمريكيين؟ وكانت إجابة “كلابر” وجيزة بقدر ما كانت كاذبة: لا يا سيدي.

وعند تسريبه الوثائق الحكومية بالغة السرية، كتب “إدوارد سنودن” يقول: إن دافعي الوحيد هو إعلام الناس بما يُفعل باسمهم، وما يُفعل ضدهم. إن الحكومة الأمريكية بالتواطؤ مع دول تابعة مثل المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، فرضت على العالم نظام مراقبة سريا شاملا لا مكان للهرب منه.

معركة الملاحقة واللجوء.. مفجّر القنبلة الذي تطلبه الدول الغربية

يقول الكاتب “غلين غرينوالد”: عندما كُشفت هوية “سنودن” لاحقا، حاول بعض الصحفيين تصويره على أنه تقني معلومات عادي وجد صدفةً بعض المعلومات السرية، لكن الحقيقة كانت مختلفة لحد بعيد. فخلال عمله في الـ”سي آي إيه” ووكالة الأمن القومي، أخبرني “سنودن” أنه دُرب بشكل مستمر كي يصبح تقني معلومات رفيع المستوى وقادرا على اختراق الأنظمة العسكرية والمدنية لدول أخرى، من أجل سرقة معلومات، أو التحضير لهجمات من دون ترك أي أثر، وقد تلقى ذلك التدريب في اليابان، وأصبح مجازا رسميا، بوصفه عميلا تقنيا رفيع المستوى.

ومنذ نشر الوثائق التي فضحت الحكومة الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية، أصبح “إدوارد سنودن” المطلوب الأول لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وفشلت محاولاته في نيل اللجوء في فرنسا بعد رفض الحكومة الفرنسية ذلك.

ووصل الحد إلى إغلاق فرنسا وإيطاليا والبرتغال مجالها الجوي في وجه طائرة الرئيس البوليفي “إيفو موراليس”، في يوليو/ تموز 2013، وكان يحضر مؤتمرا في روسيا للدول المصدرة للغاز، وقد عبّر عن استعداد دولته لدراسة ملف طلب لجوء “سنودن” لها. وقالت تقارير إن الطائرة الرئاسية فُتشت حين هبطت في مطار فيينا بعد انتشار معلومات عن وجود “إدوارد سنودن” على متنها.

ومنذ يوليو/تموز 2013، ظل “إدوارد سنودن” مقيما في روسيا إقامة مؤقتة، ثم حصل على اللجوء السياسي الدائم هناك، وتذكر تقارير أن لجوء الروس لخبرة “سنودن” الأمنية، أدت إلى إلغاء لقاء مبرمج بين الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” و”فلاديمير بوتين” خلال قمة مجموعة العشرين في سانت بطرسبرغ.