“ثيو أنجيلوبولوس”.. سينما اليونان المتكئة على تاريخها الشعري الباذخ

أيوب واوجا

“كرجلين عجوزين يجلسان في مقهى وقت الربيع وهما يشاهدان العالم يمر أمامهما، أحدهما يسأل الآخر: إلى متى سوف نجلس هنا ونشاهد فحسب؟ فيجيبه الآخر: حتى النهاية”. هكذا يصف المخرج اليوناني “ثيودوروس أنجيلوبولوس” عشقه للسينما التي وهبها عمره حتى الرمق الأخير من حياته، حيث يظهر حبه للسينما من خلال أسلوبه الشعري، ولقطاته الطويلة التي تفتح للمشاهد لحظات للتأمل في الزمن والمعنى.

“ثيودوروس أنجيلوبولوس” هو مخرج يوناني اشتهر بأعماله السينمائية ذات الرؤية العميقة والموضوعات الفكرية المرتبطة بمفاهيم الموت والحياة، والتاريخ والهوية. يقول عنه المخرج الياباني “أكيرا كوروساوا”: “أنجيلوبولوس” يرصد الأشياء بهدوء ورصانة من خلال العدسات، إن ثقل هدوئه وحِدّة نظرته الثابتة هي التي تمنح أفلامه قوتها.

ولد “ثيودوروس” في أثينا سنة 1935، وعاصر الحرب العالمية الثانية، وتعاقبت على بلده الحكومات الديكتاتورية والهزات الاقتصادية، إضافة إلى عدد من الأحداث الأخرى التي وجدت طريقها لتستقر في أفلامه فيما بعد. فقد عاش “ثيو” حياة معنونة بالسفر والعودة منذ رحيله إلى باريس للدراسة، وهناك احتك بعالم السينما فقرر أن يصبح مخرجا، حيث يقول: لفترة وجيزة عملتُ كمرشد للجمهور في صالة السينيماتيك الفرنسية، ليس فقط لإعالة نفسي ماديا، لكن أيضا لمشاهدة الأفلام العالمية التي كانت تُعرض هناك، وأظن أنني شاهدت كل الأفلام المعروضة في تلك الفترة، أي كل تاريخ السينما.

 

“إن ما يُكتب في سنوات طفولتك لا يمحى أبدا”

لفهم سينما “ثيو أنجيلوبولوس” أكثر، لا محيد عن الرجوع لسيرته الذاتية والأحداث التي طبعت حياته، فأفلامه محاولة متكررة لحكي ما يشغل باله، وهذا ما يجعلنا نعي أن أفلامه عبارة عن فيلم طويل بشخصيات مختلفة، بحيث تبدو أعماله عبارة عن سيرة ذاتية لجوانب ومراحل معينة من حياته.

يقول “ثيو”: “إن ما يُكتب في سنوات طفولتك لا يمحى أبدا”. فقد تشكلت طفولة المخرج وهو طفل بالحرب الأهلية والاحتلال الألماني وغياب الأب، أما أبطاله فهم انعكاس لحياته، فالتقاطعات بينهم متقاربة جدا، سواء في العلاقات الاجتماعية أو المهنية.

واحدة من أشد التجارب قسوة في طفولة “ثيو” هي غياب الأب الهارب من حكم الإعدام، لذلك تتكرر في أعماله فكرة غياب الأب والبحث عنه. ويقول “ثيو”: الحقيقة أن شخصيات أفلامي هي صور مركبة، هناك جزء أصغر أو أكبر من ذاتك في كل شخصية، وهناك أيضا أفراد آخرون كنت تعرفهم ليسوا أنت، لكن يقينا يوجد هناك دوما جزء منك في تلك الشخوص، وكلما ذهبت إلى مدى أعمق في هذه الشخصيات، اقتربت من ذاتك أكثر.

عشق “ثيو” الشعر وكتبه في شبابه، وتأثر بأعمال الشاعر اليوناني “جيورجوس سيفريس”، وانتقل هذا التأثر لمقاربته السينمائية التي توصف بأنها قصائد مرئية، ومثلما يقدم “سيفريس” في قصائده رحلات من التاريخ اليوناني القديم بقالب معاصر، كذلك تلامس أفلام “ثيو” معاناة القرن العشرين بلمسة شاعرية واقتباسات من قصائد “سيفريس” و”إليوت”.

 

“الأبدية ويوم واحد”.. هدم الحاجز بين الحلم والحقيقة

تعتمد الأفلام عادة على بناء سردي يُسمى “نظرية الصراع المركزي”، وتتشكل فيه قصة الفيلم حول قضية محورية تتصاعد تدريجيا أثناء الفيلم، بينما تقصى أي عناصر جانبية لا تُغذّي القصة المحورية، ويحمل هذا الأسلوب السردي المخرج على أن يتخلّى عن المشاهد التي لا تخدم الحبكة كالمشاهد الطبيعية أو اللقطات الطويلة، لكن المخرج التشيلي “راؤول رويز” ينتقد هذا الأسلوب في السرد، ويصف المشاهد المقصية من الحبكة على أنها خامة الشعر السينمائي.

يفتتح “ثيو أنجيلوبولوس” فيلمه “الأبدية ويوم واحد” (Eternity And A Day) الصادر سنة 1998 بلقطة طويلة لمنزل مطل على البحر، حيث تصلنا أصوات أطفال يتحدثون حول مدينة ابتلعها البحر، يليها مشهد للطفل “ألكسندر” يتسلل من بيته ليسبح في البحر مع صديقيه.

بعدها ينتقل لمشهد الخادمة وهي توقظ الشاعر “ألكسندر” بطل الفيلم الذي يستيقظ وطعم ماء البحر في فمه، فقد تسرّب الطعم من الحلم معلنا هدم الحاجز بين الحلم والحقيقة. يتماشى الأمر مع نظرية المخرج الإيطالي “بازوليني” عرّاب السينما الشاعرية حول الصورة الإشارية النابعة من الأحلام والذكريات لتشكل منبعا رئيسا للصورة الشعرية.

يعيش بطل الفيلم آخر أيام حياته في صراع مع مرض عضال محاولا التصالح مع ماضيه الذي عاشه منعزلا عن العالم، وفي طريقه نحو ذاته يحكي قصة شاعر عاش في القرن التاسع عشر يُدعى “سولومون” لطفل لاجئ صادفه في الشارع. يعاني “سولومون” من الشعور بالغربة في بلده التي عاد إليها بعد الاغتراب، ويحاول تمجيد الثورة في بلده، لكن اللغة تخونه، لذلك كان يتجول في المدينة ليشتري الكلمات من الناس.

تتقاطع قصة الشاعر مع بيت شعري لشاعر أثرت أعماله في سينما “ثيو أنجيلوبولوس”، وهو الشاعر “قسطنطين كافافيس” الذي يقول في قصيدته:

جرح من طعنة سكين رهيب لا طاقة لي على احتماله
إليك أهرع أيها الشاعر يا من تعرف ما يداوي
قد يكون لديك من الخيال والكلمات ما يذهب آلامي.

 

“الإسكندر الأكبر”.. أسطورة طغيان المسيح المُخلّص

تتكرر الاقتباسات الشعرية في سينما “ثيو أنجيلوبولوس”، ففي فيلمه “الإسكندر الأكبر” (Alexander The Great) الصادر عام 1980؛ يُجسّد “ثيو” قصيدة “سيفريس” التي يقول فيها:

صحوتُ وبين يدي رأس رخامي
يرهق مرفقي ولا أعرف أين أضعه.

ويضم الفيلم توليفة من عدة أساطير إغريقية مروية في شكل ديني بيزنطي، فالفيلم مبني بشكل جزئي على حدث تاريخي يوناني في القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام قطّاع طرق يونانيون باختطاف سيّاح إنجليز، غير أن الفيلم بشكل عام يستمد فلسفته من الفانتازيا والسريالية، ويُعيد قراءة أسطورة يونانية قديمة عن بلد ينتظر مُحرِّرا شبيها بالمسيح المُخلّص يتحول بعد ظهوره لطاغية.

ويقول “ثيو أنجيلوبولوس” عن الفيلم: هذا الفيلم تأمل فلسفي سياسي في مسألة السلطة، وبالتالي فهو يمثل النتيجة النهائية المريرة لأفلامي الثلاثة السابقة “أيام 36″ (Days of 36) و”الممثلون الجوالون” (The Travelling Players) و”الصيادون” (The Hunters)، وكل ما يمكن تعيينه كأمل إنساني في أعمالي يتجه إلى التكمش في هذا الفيلم، وهذا أمر مأساوي.

 

مدرسة “أنجيلوبولس”.. انتصار اللقطات الطويلة والمشاهد الصامتة

في عام 1970 أخرج “ثيو أنجيلوبولوس” فيلم “إعادة الإعمار” (Reconstruction)، وهو أول فيلم طويل له، وقد نجح في تقديم جمالية مميزة ستبصم على مسار صاحبه المهني فيما بعد. ومن بين جميع المخرجين اليونانيين ظهر اسم “ثيو أنجيلوبولوس” كالمخرج الأكثر تحيزا للتصوير بالاعتماد على اللقطات الطويلة، وذلك كاستعارة لحركة التاريخ الدائمة، ورحلة الإنسان الوجودية.

يعتمد “أنجيلوبولوس” على اللقطات الطويلة لما توفره من بلاغة تُعطل الإحساس بالزمن وتمدد اللحظات، في دعوة منه للتأمل وإدراك عملية تشكل الحدث كما يقع في العالم الواقعي. حيث يقول عنه الممثل الأمريكي “هارفي كيتل” الذي عمل معه في فيلم “تحديقة يوليسيوس” (Ulysses’ Gaze): إن الوقت الذي يستغرقه “ثيو” في تصوير لقطة واحدة يكفي لأن يصور فيه “تارانتينو” (مخرج أمريكي) فيلما كاملا.

يقول “ثيو أنجيلوبولوس”: بالنسبة لي أسلوبي هو طريقتي لمحاولة استيعاب الزمان والمكان، بحيث يصبح المكان مجالا لمرور الزمن. على سبيل المثال مشهد واحد من الفيلم يدور في حجرة واحدة هو ليس في زمن حقيقي على الإطلاق، إذ تمر خمس سنوات أثناء رقصة فالس قصيرة، خمس سنوات من تاريخ عائلة واحدة، تاريخ رومانيا وتاريخ أوروبا، من معسكرات الاعتقال إلى الستالينية.

يفضل “أنجيلوبولس” المشاهد الصامتة، فالحوارات في أفلامه قليلة، وشخصياته صامتة في الغالب، وقصص فيلمه لا تحتاج غوصا في عوالم الشخصية النفسية كما هو الحال في معظم الأفلام الدرامية، فالانتصار للصمت في أفلامه فرصة لاكتشاف التفاصيل بزاوية مغايرة.

 

رحيل شاعر الشاشة.. إرث اليونان السينمائي في المحافل

توفي “ثيو أنجيلوبولس” سنة 2012 عن عمر ناهز 76 سنة في حادث سير بموقع تصوير فيلمه الجديد “البحر الآخر” الذي لم يُكتب له الظهور، تاركا خلفه إرثا سينمائيا يكاد أن يمثل لوحده تاريخ اليونان بأساطيرها وأدبها وتاريخها ومقاومتها وجماليتها.

إن حاولنا تصنيف سينما “أنجيلوبولوس” فسنصنفها في خانة السينما التي تسبر أغوار الوحدة والغربة، وتذيب الفوارق بين الأزمنة، بين الموت والحياة، بين الأسى والفرح، بين الواقعية والشاعرية، فالعالم حسب “ثيودوروس أنجيلوبولوس” يحتاج الآن إلى السينما أكثر من أي وقت مضى، فربما هي الشكل الهامّ الأخير من أشكال مقاومة العالم المتدهور الذي نعيش فيه.