جمال سليمان.. النجم الذي أضاعته السينما السورية

ممثل تلفزيوني برع في تقمّص شخصيات متنوعة، لكن رغم امتلاكه مقاييس النجم السينمائي وامتداد تجربته الفنية لأكثر من 35 عاما؛ فإن الفنان جمال سليمان لم يأخذ من نصيبه السينمائي إلا النزر اليسير جدا، وذلك بما لا يتوافق إطلاقا مع إمكانيات هذا الفنان الذي تدرّج على سلالم النجومية في بلده سوريا، حتى وصل ذروة متميزة يصعب أن ينافسه أحد عليها، ليحقّق انتشارا عربيا واسعا خاصة في مصر.

تجربة الفنان جمال سليمان السينمائية مثار أسىً على ما لم يتحقق لها، وما لم يُضف إليها، وهي التي كانت طيلة العقود الأربعة الماضية مؤهلة للمزيد كما هي مؤهلة الآن ومستقبلا.

إنها مثار أسى على الأقلّ لأن جمال سليمان هو نموذج باهر للفتى الذي أضاعته السينما السورية أولا، ولم تتعرّف عليه السينما العربية بالشكل الصحيح، وبالتالي تمّ ترك الفرصة شبه كاملة للدراما التلفزيونية، وهي الميدان الأوسع لإبداع جمال سليمان.

ولعل شخصية “أبو صالح” التي قدّمها جمال سليمان في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” للمخرج حاتم علي عام 2004؛ تبقى تجربة مثيرة لغيرة السينمائي قبل التلفزيوني.

بين “عائد إلى حيفا” و”المتبقي”

تتميز التجربة السينمائية المتحقّقة في مسيرة جمال سليمان الفنية في أنها تُقارب التوثيق السينمائي وتغازله، حتى في تلك الأفلام الروائية الخالصة المُقتبسة عن أعمال أدبية أو مكتوبة خصيصا للسينما، فثمة توثيق يلاحظه المشاهد في معظم أدوار جمال السينمائية، ومثال على ذلك ما يتعلق بشخصية “دوف” وشخصية “الدكتور سعيد”، وكذلك شخصية “أبي فهد” و”مجدي العمروسي” و”شكري”، فالشخصية الحقيقية منها والدرامية يمكن الانتباه إليها واكتشافها.

وللوقوف على التجربة السينمائية نعود إلى عام 1982، وذلك عندما أرادت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحقيق خطوة جديدة في سينما الثورة الفلسطينية بإنتاجها أول فيلم روائي طويل لهذه السينما، فكانت تجربة فيلم “عائد إلى حيفا” عن النص الشهير للأديب الشهيد غسان كنفاني.

ويلعب جمال سليمان في هذا الفيلم دور الشاب الصهيوني “دوف”، وهو ذاته الطفل خلدون الذي تركه والداه الفلسطينيان مُكرَهين ومجبرين خلال سقوط حيفا في أبريل/نيسان 1948، ليصبح الطفل حينها بحيازة أسرة يهودية أخذته ورعته وربّته ودجّجته بالفكر الصهيوني، لينشأ صهيونيا كما ينبغي.

جاء الفيلم بتوقيع المخرج العراقي قاسم حَوَل، والدور الرئيسي في الفيلم كان من نصيب الفنان جمال في أول إطلالة سينمائية له. القصة أشهر من أن تُعرَّف، وفي غنى عن المرور عليها، لكن الأمر المهم هنا هو أن جمال الذي كان حينها في أوائل العشرينيات من عمره؛ قدّم دوره السينمائي الأول كما ينبغي لممثل بدا أنه يعرف طريق صعوده الفني المؤسس بامتلاك الثقافة والمعرفة، فضلا عن سمات الوسامة والجاذبية من دون الاكتفاء بهما طبعاً.

يعود الفنان جمال ليلعب الدور الأساسي في فيلم “المتبقي” من إخراج الإيراني سيف الله داد عام 1995. ومن غرائب المقادير وحُسن الحظ أيضا أن هذه المرة كان عليه القيام بدور الدكتور سعيد عودة والد الطفل خلدون المتروك كراهة في البيت، لكن بتحوير كبير في القصة الأصلية وفق ما شاء المخرج الإيراني للحكاية أن تكون، حتى لو خرجت عن منطوق ما أراده غسان كنفاني نفسه من عمله الأدبي، وتحوّلت من فكرة أن الإنسان هو القضية إلى تمجيد الكفاح المسلح.

وبينما كانت مدينة حيفا تُسطّر آخر نبرات الصمود والمقاومة في أبريل/نيسان 1948 والخطر الصهيوني الداهم يحيق بفلسطين، كانت العصابات الصهيونية المُنظّمة تقضم المدينة حياً بعد آخر، حيث كان الفلسطينيون بين قتل وطرد، لذا لا يجد الدكتور سعيد دورا له سوى المزيد من محاولة تضميد جراح المصابين، واستنقاذ حيواتهم من براثن الموت، لكن مع نفاد الدواء نفد الوقت، فضاقت الدوائر بالدكتور سعيد إلى درجة الاختناق، إذ لم يجد سبيلا للعودة إلى البيت من أجل إنقاذ زوجته وطفله.

بدا الطريق إلى البيت محفوفا بعصابات القتل الصهيونية، كان طريقاً إلى النهاية، وإلى قتل بدم بارد على الرصيف، تماماً أمام نافذة البيت التي يطلّ منها صراخ الطفل الرضيع، حيث تكوَّم والداه جثتين مضرجتين بالدماء، ومغزولتين بصنارة الموت التي وحَّدهما ولفّهما وأصابعهما تنشد الوصول إليه؛ إلى المستحيل.

مرّت 15 عاما بين الفيلمين المُقتبسين عن رواية “عائد إلى حيفا”، ولا تزال شواهد إبداع الفنان جمال حاضرة من خلال انتقاله من أداء دور الابن إلى أداء دور الأب.

يبدو أن جمال لم يمرّ به الوقت عبثاً، فالأداء الواثق والقوة في الحضور والعلوّ في القامة رغم اختلاف الشخصيتين بشكل كبير إلى حدّ التناقض؛ يبقى مهيمناً على الفيلم كله، على الرغم من أن دوره ينتهي في الثلث الأول من الفيلم في واحد من أجمل مشاهد الفيلم وأقواها، بالتشارك مع الفنانة المتميزة “جيانا عيد”.

“الترحال”.. محطة سينمائية مميزة

في فيلم “الترحال” إخراج ريمون بطرس وإنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا عام 1997، يغيب أبو فهد كثيرا عن الرؤية، فتارة في فلسطين وقد آثر البقاء مع المجاهدين السوريين المتطوعين مع إخوانهم الفلسطينيين خلال ثوراتهم ضد الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، وتارة عندما يُسجن أو عندما يفرّ وراء الحدود، لكنه يبقى حاضرا بقوة سواء من خلال أثره العميق على الزوجة (الفنانة سمر سامي) والأولاد، أو من خلال مسيرة البحث عنه والتعلّق به.

وعندما يحضر أبو فهد عبر الفنان جمال سليمان في مساحة الرؤية، نجد أنفسنا أمام قامة سينمائية عالية متمكنة الاشتغال على هذه الشخصية التي تحمل جراحاً في الجسد والروح معا، وممزوجة بصمود وأنفة ورغبة في مستقبل أفضل.

أبو فهد نحّات الحجر، أو الفنان في نحت الحجر وتشييد العمائر الرائعة التي تبقى في وجه عاتيات الزمن؛ لم يستطع ممارسة حياته بهدوء، ولم يتمكّن من انتشال زوجته من حفرة الهمّ، ولا إنقاذ ابنته من تلاعب خالها (أداء جيد للفنان سلوم حداد)، ولا صون أحلامه بوطن حر وشعب سعيد. كل ما بين يديه يتسرّب كأنما يذهب للهباء، حتى تكون النهاية الغامضة على حافة الوطن، وعند حافة أحلامه التي بدّدها “الترحال”.

أحسن المخرج ريمون بطرس عندما اختار الفنان جمال سليمان للقيام بهذا الدور، خاصة عندما ننتبه إلى أن شخصية أبو فهد لم تكن تحتاج المواصفات الخارجية للبطل السينمائي المتوفرة لدى جمال، بل إنها كانت تحتاج ممثلا بارعا قادرا على تلمّس عمق هذه الشخصية، واكتشاف مخزونها الداخلي الثريّ، والصراع الذي تعيشه بين جرح في الكتف وجرح في الروح، وهزيمة ضارية تترصد بمصيرها المُفجع.

تمتلئ شخصية أبو فهد بالضجيج الداخلي، في الوقت الذي يظهر على سطحها هدوء ملفّع بغيوم الحزن، ولا شك في أن الفنان جمال وُفّق كثيرا في أن يكون عند الرهان.

“نوافذ الروح”.. إبداع فنان التوثيق السينمائي

أما في وثائقي “نوافذ الروح” (2011) إخراج الليث حجو وعمّار العاني بإنتاج مشترك بين المؤسسة العامة للسينما ومديرية الآثار والمتاحف بالتعاون مع مؤسسة جذور؛ كانت المساحة كاملة للفنان جمال سليمان ليثبت مجددا أنه فنان التوثيق السينمائي، سواء عندما لعب الدور دراميا مُجسِّدا شخصيات مكتوبة، وكذلك وهو يقدّم الوثائقي ويقود حواراته ويمشي مع انتقالاته الواعية من أوغاريت عام 1300 ق. م عندما اختُرعت النغمة الموسيقية وابتُكر التدوين الموسيقي، إلى وادي الفرات الأوسط حيث مملكة ماري واكتشاف الزراعة ونشوء المدن في الألف التاسعة قبل الميلاد، ومن ثم إيبلا والكتابة المسمارية مرورا بكل من كنعان وتدمر وحلب ومعلولا والمدن المنسية ما بين حلب وإدلب، وانتهاء بدمشق حيث المدينة القديمة والجامع الأموي وقاسيون وفجر التاريخ والحضارة الإسلامية.

السينما المصرية.. بصمة بين الكبار

تبدو حصة الفنان جمال سليمان من السينما قليلة جداً، ولن يغيّر من هذا الأمر حقيقة مشاركته التالية في فيلمين مصريين لم يبتعدا أيضاً عن العزم على خلق التوثيق السينمائي.

دخل جمال بوابة السينما المصرية عبر مشاركته في فيلم “حليم” إخراج شريف عرفة عام 2005، وهو فيلم وثائقي عن سيرة المطرب عبد الحليم حافظ.

أما المشاركة الثانية له فكانت في فيلم “ليلة البيبي دول” من إخراج عادل أديب عام 2008، وهو فيلم على إيقاع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

لم يغيّر هذا الحضور كثيرا في أقدار جمال سليمان السينمائية رغم إطلالته مع نخبة من أهمّ فناني السينما المصرية والعربية، أمثال نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي وليلى علوي ومحمود حميدة، إذ لا يزال الفنان جمال بانتظار فرصته السينمائية اللائقة حتى وهو يجتاز الخمسينيات من العمر، لأن لديه الكثير من الإبداع.