حسن الصقلي.. شعلة السينما المغربية

المصطفى الصوفي

حسن الصقلي فنان متعدد المواهب، وهو من المبدعين القلائل في مجال التشخيص ونجوم السينما والمسرح والتلفزيون

الصفّ طويل والضيوف ينتظرون فرحين، منهم من يدخل ومنهم من ينخرط في محادثات وقهقهات لا حدّ لها، والبساط الأحمر الذي يقود إلى سينما “روكسي” مفروش في الزقاق المحاذي للسور الشهير المطلّ على ميناء طنجة المتوسطي، ومنه إلى الجزيرة الخضراء حيث ضفاف الحلم بالشهرة والنجومية تمتد على طول الطريق السيّار من الجنوب الإسباني باتجاه تخوم أوروبا.

الصف طويل والأضواء كاشفة، والضيوف الذين تأنقوا أكثر من اللازم يمرون تحت الأضواء الكاشفة يبتسمون مكرهين مهما كانت مواجعهم دفينة، فيما يتعانق آخرون ويعاتبون بعضهم بعضا على هذا البعاد القصيّ الذي تركهم في وادي السينما يهيمون.

 

الرجل الأسمر.. رائد السينما المغربية

ينطلق الحفل بكلمات باردة وحروف معسولة، يُرمى الكثير منها في سلّة المهلات إلى أجل غير مسمى، فالرجل الأسمر الذي صعد إلى الخشبة بسينما “روكسي” (أشهر سينما في مدينة طنجة) في تلك الليلة من ليالي المهرجان الوطني للفيلم بطنجة السابقة؛ يبدو فرحا للغاية، رأيناه تلك الليلة منبسطا كثيرا وهو يرقص فرحا بتخصيص المركز السينمائي المغربي غلافا ماليا مهما للمخرجين والمنتجين لدعمهم بإنجاز مشاريع أعمالهم الجديدة.

الرجل الأسمر الطويل الذي لا تفارق الابتسامة مُحيّاه بعد أن ألقى خطابا منمقا أثنى فيه على المسؤولين؛ بدا سعيدا بخبر المركز الذي سينعش الحركة السينمائية برمتها، وسيضمن للممثلين والعاملين في القطاع آفاقا رحبة وجديدة للعمل وبعقود أفضل، كما رقص الرجل الأسمر رقصا تلقائيا جميلا كالأطفال، حيث تفاعل معه الحاضرون وصفقوا له كثيرا.

إنه جزء من مشهد سينمائي واقعي للممثل المغربي حسن الصقلي الذي يعد من الرواد المؤسسين للحركة السينمائية المغربية، فهو كممثل اشتغل في المجال المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، ومعه الكثير من الرواد الآخرين مثل محمد حسن الجندي والطيب الصديقي والعربي الدغي وفاطمة بنمزيان وصفية الزياني وحمادي عمور، وغيرهم ممن اشتغلوا في ظروف قاسية وصعبة فأبدعوا. رحل إلى دار البقاء بعد أن تحسنت الأوضاع نسبيا للعمل في المجال الفني عموما، سواء من حيث الدعم المخصص للإنتاجات الوطنية، أو من حيث عقود العمل للممثلين وكل العاملين في القطاع.

حسن الصقلي فنان متعدد المواهب، وهو من المبدعين القلائل في مجال التشخيص ونجوم السينما والمسرح والتلفزيون، وتألق في الكثير من الأعمال الوطنية والعالمية، وُلد بمدينة الدار البيضاء سنة 1931، وتوفي بأحد مستشفيات العاصمة الرباط سنة 2008، وذلك بعد مضاعفات مرضية لم ينفع معها علاج.

تجربة هذا الفنان أهلته لتكريمه في الكثير من المناسبات الوطنية والدولية تقديرا لجهوده الفنية الكبيرة في إرساء فعل سينمائي راقٍ، وتقديرا لتطويره مجال التشخيص سواء من خلال أدائه البارع وظهوره المشرف في الكثير من الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، فضلا عن تأطيره وتوجيهاته في عدد من اللقاءت المفتوحة، سواء من الطلبة أو السينمائيين الشباب، خاصة في المهرجانات التي كان يحضرها داخل المغرب وخارجها.

تألق حسن الصقلي في بداية مشواره الفني راجع بالأساس إلى إتقانه جيدا للغتين العربية والفرنسية

تكريم تجربة سينمائية مميزة

كل هذا الفيض الإبداعي الذي أثمرته شجرة حسن الصقلي الفنية حدا بمهرجان سيدي عثمان للسينما المغربية بمدينة الدار البيضاء في دورتها السابعة التي تقام من 20 وحتى 23 مارس/آذار الماضي إلى تكريمه، وذلك عبر بانوراما سينمائية تستذكر تجربة الفنان الذي بصم تجربته السينمائية بالتميز، وذلك من خلال مجموعة من الأفلام التي لا يزال الجمهور يحتفظ لها بكثير من الودّ والتميز.

وتقديرا لعطاءات هذا الفنان الكبير الذي جسّد أدوارا كبيرة في أفلام عالمية مثل “الرسالة” لمصطفى العقاد، فقد قررت إدارة مهرجان سيدي عثمان إطلاق اسمه على المسابقة الرسمية التي تُنظمها كل عام وتخصصها للأفلام الروائية، مع إصدار كتاب جديد تكريما له بعنوان “وجوه من المغرب السينمائي”، إضافة إلى برمجة فيلم “أصدقاء الأمس” لمخرجه حسن بنجلون الذي أُنتج عام 1998 لعرضه ضمن فعاليات المهرجان، مما يمنح هذا الوجه السينمائي المغربي الفريد الذي ما زال يعتبره النقاد من الممثلين الروّاد الذي أرسى قواعد التشخيص الاحترافي في السينما المغربية، ومن خلالها في البلدان المغاربية والعربية على حد سواء.

فيلم "فين ماشي يا موشي" الذي يحكي قصة هجرة اليهود المغاربة إلى فلسطين إبان الرحلة الكبرى لليهود في العالم إلى أرض الميعاد

انطلاقة بدأت مع استقلال المغرب

وبالمناسبة أكد المخرج والمسرحي عبد الجليل أبو عنان في تصريح للجزيرة الوثائقية أن حسن الصقلي عمل على إخصاب المجال السينمائي لأكثر من خمسين عاما، مما جعل هذا الفنان الموهوب أحد صناع المتعة البصرية والفرجة السينمائية منذ استقلال المغرب سنة 1956، وهي السنة التي شكلت انطلاقته الحقيقية خاصة في المجال المسرحي والتلفزيوني، وحصوله في العام نفسه على شهادة الكفاءة والاستحقاق الفني من إدارة المسرح الوطني محمد الخامس بالعاصمة الرباط، وهي الشهادة التي فتحت له أبواب النجومية والتألق بعد ظهوره في الكثير من الأعمال الدولية، خاصة في بدايته الفنية الأولى في فيلم “إبراهيم” لمخرجه الفرنسي دجان فلاشيت الذي شارك به المغرب في المهرجان الدولي للسينما ببرلين الألمانية.

وشدّد أبو عنان على أن حسن الصقلي الذي كان من الفنانين المناضلين، والذي دافع عن حقوق نظرائه في المجال السينمائي والمسرحي والتلفزيوني عموما، ساهم بشكل كبير في إذكاء الوعي الجماعي للفن العادل لدى الفنانين بهدف تحسين ظروف عيش الممارسين المادية والمعنوية، والحيلولة دون اشتغالهم بطريقة عشوائية تضيع معها الكثير من الحقوق والمطالب المستحقة.

كما لفت أبو عنان إلى أن تألق حسن الصقلي في بداية مشواره الفني راجع بالأساس إلى إتقانه جيدا للغتين العربية والفرنسية، وهو ما ساعده كثيرا في أداء الأدوار التي أوكلت له وطنية وأجنبية، وفتح له المجال للظهور في أعمال دولية جديدة مثل “الرجال الزرق” سنة 1560 لآدموند أكابرا وماركو فايرير من إيطاليا، و”أولاد الشمس” في بداية الستينيات للفرنسي جاك صيفراك، ثم الفيلم التاريخي الشهير “الرسالة” للمخرج الراحل مصطفى العقاد.

حسن الصقلي الذي شارك في أول فيلم تلفزيوني مصور بعنوان "نعيمة" سنة 1963؛ هو فنان له مواهب كثيرة

مواهب عديدة

من جهته أوضح الدكتور عبد الإله مرتبط أن حسن الصقلي الذي شارك في أول فيلم تلفزيوني مصور بعنوان “نعيمة” سنة 1963؛ هو فنان له مواهب كثيرة، حيث عمل ممثلا وكاتب سيناريو ومخرجا، كما كان من نجوم كرة القدم في زمنه، وعازفا على آلة العود وشاعرا، وهو ما جعل من ثقافته الواسعة مهمازا حقيقيا لنجاحه وتألقه في مختلف المشاريع الفنية التي أُسندت له، سواء على مستوى السينما أو التلفزيون أو المسرح، خاصة مع الراحلين الطيب الصديقي والطيب لعلج والعربي الدغمي وعبد الرزاق حكم، وغيرهم من الرعيل الأول للممثلين في المغرب.

واستذكر مرتبط الكثير من الأعمال التي برز فيها حسن الصقلي، وأبان فيها عن علوّ كعبه في مجال التشخيص، مبرزا أن المخرج المغربي حسن بنجلون كان يعتمد عليه كثيرا في أعماله السينمائية، حيث أسند له أدوارا مهمة في العديد من أفلامه منها “أصدقاء الأمس” و”يا ريت” في بداية التسعينيات، و”محاكمة امرأة”، ثم فيلم “فين ماشي يا موشي” الذي يحكي قصة هجرة اليهود المغاربة إلى فلسطين إبان الرحلة الكبرى لليهود في العالم إلى أرض الميعاد، وهو ما يبرز أن الصقلي كان قريبا من رؤية أحلام حسن بنجلون الإخراجية، خاصة على مستوى طرح القضايا الإنسانية والاجتماعية والكونية، وهو الأمر الذي كان يتفاعل معه حسن الصقلي ويتقنه بشكل كبير بالنظر إلى حسّه النضالي والحقوقي والوقوف إلى جانب القضايا الإنسانية والاجتماعية.

ونظرا لتألق حسن الصقلي في الكثير من الأعمال المغربية والدولية، فقد جعل الكثير من المخرجين يتهافتون عليه للانشغال في أعمالهم الجديدة، حيث أشار مرتبط في هذا الصدد إلى تألق الصقلي في أفلام عديدة منها “عود الريح” لمخرجه لحسن زينون، ثم “قصة وردة” لعبد المجيد الرشيش، و”جارات أبي موسى” لمحمد عبد الرحمن التازي، وهو الفيلم المقتبس عن رواية الكاتب أحمد التوفيق، وهو فيلم تاريخي بمسحة ثقافية وإبداعية مشوقة.

 

الصقلي في “صقر قريش”

ويبرز المخرج السينمائي مراد بتيل قيمة حسن الصقلي في التشخيص ليس فقط على الشاشة الكبرى، بل حتى على الشاشة الفضية، وذلك من خلال ظهوره الوازن والملفت في مسلسلات مغربية وعربية منها “صقر قريش” للمخرج السوري حاتم علي الذي جسّد فيه دور عبيد الله بن عثمان، إضافة إلى “سرب الحمام” للمخرج المغربي محمد عاطفي الذي شكّل نقلة نوعية في المشهد التلفزيوني المغربي خلال نهاية التسعينيات.

تألق الصقلي رفقة عدد من النجوم أمثال المخرج والممثل رشيد الوالي ومحمد خوي وسعاد صابر وسعيدة بعدي، والراحلين محمد مجد ومحمد بسطاوي، فضلا عن أفلام لا يزال الجمهور يتذكرها بقوة مثل فيلم “أوشتام” لمحمد إسماعيل و”النظرة” لنور الدين الخماري، و”الإسلام يا سلام” لسعد الشرايبي وهو صاحب “نساء ونساء” و”جوهرة بنت الحبس”، والفيلم الجديد الذي طُرح في القاعات السينمائية المغربية بداية أبريل/نيسان الحالي بعنوان” الميمات الثلاث.. قصة ناقصة”، والذي يتحدث عن قيم التسامح بين الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام.

 

“الرسالة”.. الفيلم العالمي الأبرز

وقال المخرج بتيل “إن مشاركة حسن الصقلي في الفيلم العالمي “الرسالة” يظل الأبرز في تجربته الفنية من وجهة نظري”، وذلك من خلال أدائه الموفق إلى جانب عدد من نجوم السينما والدراما العربية أمثال عبد الله غيث في دور حمزة بن عبد المطلب، والطيب الصديقي في دور الوليد، ومحمد حسن الجندي في دور أبو جهل، ومنى واصف في دور هند بنت عتبة، وأشرف عبد الغفور في دور مصعب، وغيرهم من الممثلين الكبار، مما جعل من الراحل الصقلي الذي توفي عن سن ناهز 77 عاما فنانا قوي الشكيمة، كلما ركب صهوة حصان أبدع في سباق ريح البراري بشهامة، بينما ترفرف تلابيب زيّه العربي الأصيل في مشهد سينمائي ممتع لا يخطر على البال.

تلك إذن بعض من أطياف الممثل الراحل حسن الصقلي، نستحضرها هنا كما يستحضرها مهرجان سيدي عثمان للسينما المغربية في دورته السابعة التي اختتمت في الـ23 من شهر مارس/آذار الماضي محتفية بهذا الفنان، وفي ذلك احتفاء بتجربة سينمائية مغربية وعربية قدمت لما يزيد عن نصف قرن فيضا فرجويا متنوعا على الركح وفي التلفزيون والسينما.