دانيال داي لويس.. أعظم رقم في تاريخ الأوسكار

بلال المازني

بحفنة أفلام قليلة لكنها رائعة حاز الممثل الإنجليزي “دانيال داي لويس” ثلاث جوائز أوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي، وهو رقم لم يصل إليه أي ممثل قبله، واستحق “داي لويس” هذا التتويج بعد أن أبدع في ثلاثة أفلام ظهر فيها بمليون وجه وأكثر.

“كما لو أن البشرية بدأت.. مرة أخرى فيك.. هذا هو عيد ميلادك وعيد شكرنا”. بهذه الكلمات استقبل الشاعر الأيرلندي “سيسيل داي لويس” مولد ابنه “دانيال” سنة 1957 في لندن، ولم يكن الأب يعلم أن ذلك التاريخ لن يكون مجرد يوم شهِد ولادة طفل عادي، بل تاريخ ميلاد أبرع الممثلين على الإطلاق، فمن المستحيل أن يقترن اسم الممثل الإنجليزي/الإيرلندي بشخصية واحدة أدّاها في قرابة عشرين فيلما طيلة أكثر من أربعة عقود من الزمن، فكل الشخصيات التي تقمصها “داي لويس” محفورة في ذهن محبي السينما، وكل فيلم يُعتبر حالة فريدة ومميزة عن الآخر، فهو أحد أعظم ممثلي هوليود على الإطلاق.

الممثل الإنجليزي “دانيال داي لويس” خلال قيامه بدور من داخل زنزانة في فيلم “باسم الأب”

 

مسرح الشباب الوطني.. نجار عديم الخبرة

لم تكن المأساة أو الفقر حافزا لدى “دانيال” للتمثيل وتغيير حياته، بل العكس، فقد “مثّل” من أجل الاندماج مع أبناء الطبقة المتوسطة، وتصنّع القوة لينجو من شغب أقرانه بعد انتقال عائلته إلى حي “غرين ويتش” الشعبي في لندن، حيث تعرض إلى مضايقة الأطفال بسبب مركزه الاجتماعي المختلف عنهم، واندمج معهم من أجل مواجهة المضايقات، حتى إنه ارتكب جرائم سرقة لعدة محلات حتى لا يكون غريبا بينهم.

لم يعِ “دانيال داي لويس” سرّ موهبته الكامن فيه إلا في عامه الرابع عشر، حيث كانت ملامح بدايته المهنية تتشكل حين ألحقه والده بمدرسة داخلية بعد أن أصبح سلوكه عنيفا، وهناك اكتشف “داي لويس” خلال تلك الفترة ثلاثة أشياء جعلته ينسى كرهه للدراسة في المدرسة الداخلية؛ وهي حرفة الخشب والصيد والتمثيل، وأعطاه انتقاله إلى مدرسة خاصة أخرى مجالا أرحب للابتكار والإبداع.

بعد تخرجه في العام 1975 كان عليه اختيار طريقه المهني، فاختار في البداية العمل في مجال صناعة الأثاث الفاخر، رغم تميزه في التمثيل فوق خشبة مسرح الشباب الوطني، ورغم أنه شارك في دور في فيلم “أحد دامٍ”، وهو أول فيلم له في العام 1971، حيث حصل على دور كومبارس، وكانت أجرته مقابل هذا الدور جنيهين، ووصف “داي لويس” حينها تلك التجربة الصغيرة بأنها تجربة رائعة، لكن من مفارقات القدر أنه لم يُقبل من أجل تلقي تكوين في مجال صناعة الأثاث الفاخر، وذلك بسبب نقص خبرته.

ملامح الممثل “دانيال داي لويس” خلال تقمصة لعدة أدوار في ثلاثة أفلام، وهي “الأب” و”عصابات نيويورك” و”لينكولن”

 

قنّاص الأدوار البارع.. الطريق إلى المجد

كان أول من أطلق شرارة امتهان التمثيل في “داي لويس” هو الممثل “روبرت دي نيرو” في فيلم “سائق التاكسي”، فقد انبهر “داي لويس” به في الدور الذي تقمصه، وقرّر التسجيل لتلقي دروس في المسرح لمدة ثلاثة أعوام في “بريستول أولد فيك” (Bristl old vic)، وهي أعرق مؤسسة بريطانية لتعليم المسرح.

بعد أحد عشر عاما من تقمصه ذلك الدور الصغير، أدى “داي لويس” دور شاب منحرف وعنصري في فيلم “غاندي” الذي عُرض في العام 1982 للمخرج “ريتشارد أتنبره”، ثم سطع نجمه في فيلم “الجائزة” رغم أنه حصل على دور ثانوي، حيث تقمّص دور ضابط إلى جانب الممثل “أنتوني هوبكنز”.

بدأت شخصية “داي لويس” تُظهر وجوهها المتعددة، حيث أبدع في تقمص دور شاب شاذ جنسيا وقع في حُبّ مهاجر باكستاني في فيلم “غسالتي الجميلة” الذي عُرض في العام 1985، ورُشّح لنيل جائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو، وفي العام ذاته ظهر “داي لويس” بوجه مُناقض تماما لشخصية “جوني” في فيلم “غسالتي الجميلة”، وتقمّص دور رجل إنجليزي من عائلة مرموقة، لكنه بارد وفاشل في الحفاظ على علاقته مع خطيبته.

كان “دانيال داي لويس” صيّادا ماهرا وقناصا بارعا للأدوار التي يمكنه أن يبدع بها، رغم أنه رفض أدوارا رئيسية في أفلام لقيت نجاحا كبيرا، مثل فيلم “المريض الإنجليزي” (1996)، و”فيلاديلفيا” (1993)، و”قائمة شندلر” (1993)، وثلاثية “ملك الخواتم” (2001)، وكان في كل مرة ينقطع عن التمثيل يدغدغه المخرج العبقري “مارتن سكورسيس”، أو “ستيفن سبيلبرغ” ليعود ويبدع ويمتع جمهور السينما.

مشهد يجمع “داي لويس” و”ليوناردو دي كابريو” في فيلم “عصابات نيويورك”

 

الطبيب التشيكي الألكَن.. سرّ النجاح الكامن

كان ذوبان “دانيال داي لويس” في الشخصية التي يتقمصها عجيبا، حيث يتماهى مع الشخصية التي يؤديها لا من ناحية الشكل فحسب، بل يغوص في كُنهِها حتى يختفي وجهه وراءها، ليولد بوجه جديد يلازمه ولا يفارقه لحظة واحدة، إلى أن ينهي آخر مشهد من الفيلم.

كان كل دور يؤديه يشبه عملية مخاض وولادة شخص جديد، وهو ليس وصفا مبالغا فيه، بل حقيقة جعلت “داي لويس” يكتسب طابعا مميّزا منذ قبوله الدور إلى غاية الانتهاء من عمله في الفيلم، لقد كان رجلا مجنونا بحق، وله هوس حقيقي بنحت الشخصية التي سيتقمصها، أو ربّما العكس، فقد كان يطوّع نفسه حتى تكون الشخصية التي سيؤديها في الفيلم قالبا مناسبا دون أيّ فجوات.

يمكن فهم ذلك السر الكامن في تقمص شخصيات أفلامه بإبداع لا يتناهى، وتفسيره وفهمه حين نعلم أنه يدرس شخصيته بكل تفاصيلها، ويحاول البحث عن المكامن الخفية التي تمكّنه من التماهي معها، وبالتالي الإبداع في تجسيد الشخصية، فعندما أسند له دور طبيب تشيكي في فيلم “خفة الوجود التي لا تطاق” (1987)، تعلّم اللغة التشيكية، رغم أن لغة شخصيات الفيلم كانت الإنجليزية، لكن كان ذلك من أجل اكتساب لكنة، وحتى يبدو تشيكيا بالفعل.

 

“قدمي اليسرى”.. جائزة الأوسكار الأولى

كان “دانيال داي لويس” يغوص في تفاصيل حياة مشابهة للدور الذي سيلعبه، حتى وصل به الحدّ إلى البقاء على كرسي متحرك طيلة أشهر، وذلك حين تقمّص دور كسيح في فيلم “قدمي اليسرى” الذي عرض في العام 1989، وهو الفيلم الذي صنع نجوميته، حيث أدى فيه دور قصة حياة الشاعر والرسام “كريستي براون” الذي كان يعاني من شلل جعله لا يستطيع الكتابة أو الرسم إلا باستعمال ساقه اليسرى.

أراد “داي لويس” أن يبرع في الدور، ودخل أحد مراكز التأهيل من أجل تعلّم الرسم بواسطة ساقه اليسرى، وذلك كي يُحاكي شخصية الفيلم التي أبدع في أداء ملامحها، أراد تحسّس كل تفاصيل الشخصية التي تقمصها حتى تفيض كل مشاعره وعباراته بصدق، وقد تسببت ملازمته الكرسي المتحرك في تضرر ضلعين، وذلك بسبب وضعية جلوسه اليومية التي حاكى بها جلوس الشاعر والرسام الإيرلندي.

أبدع “دانيال” في دوره وتماهى مع شخصيته التي أدى كل حركاتها، فكان حصوله على جائزة الأوسكار نتيجة حتمية لأدائه ذلك الدور. وبالفعل إذا عدنا للفيلم نعتقد أن المخرج أتى بمريض حقيقي مصاب بالكساح لتأدية الدور، ولا يمكن بتاتا أن نعرف أن الذي أدى الشخصية هو مجرد ممثل.

 

“باسم الأب”.. تقمّص بارع للأدوار

ليس من قبيل المجاملة أن يوصف “دانيال داي لويس” بأنه أكثر الممثلين براعة في تقمص الأدوار التي يلعبها، فعند استعداده لتقمص دوره في فيلم “آخر سلالة الموهيكيين” (1992)، فإنه ذهب للعيش في غابة واندمج في الحياة هناك، وتعلم سلخ الحيوانات وصنع القوارب، وهي مهارات يحتاجها عند تأدية الدور.

أما في فيلمه “باسم الأب” الذي عرض في العام 1993، فقد قضى مدة داخل زنزانة، كما اضطر إلى فقدان وزنه، وطوّر لهجته الإيرلندية حتى لا يترك أيّ مجال لأن يفلت منه الإبداع في أداء دوره، وفي العام ذاته أسند له المخرج الكبير “مارتن سكورسيس” دور البطولة في فيلم “عصر البراءة”، الذي تدور أحداثه في نيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، ولبس ملابس ذلك العصر طيلة شهرين، وكان يتجول بها في شوارع المدينة، وبدا كأنه رجل مجنون أو شخص مهوس.

 

“عصابات نيويورك”.. العودة من الخلوة إلى الأضواء

في العام 1997 ترك “دانيال داي لويس” التمثيل فجأة واختفى عن الأنظار، واتجه نحو إيطاليا من أجل ممارسة فن النحت الذي كان من ضمن أحلامه، حيث أراد أن تكون السنوات الخمس التي اختفى خلالها مُبتعدا عن الأضواء؛ سرّا لا يشاركه فيها أحد، واعتبر أنه يستحق تلك الخلوة دون أن يعرضها تحت الأضواء.

في المقابل، كان “داي لويس” يستحق أيضا تلك العودة القوية مع المخرج البارع “مارتن سكورسيس” في فيلم “عصابات نيويورك” (2002)، فأرجع “دانيال داي لويس” إلى الشاشة الكبيرة، وشارك في بطولته الممثل “ليوناردو دي كابريو”، وأدى فيه “داي لويس” دور القاتل الشرير والمهوس، فكان وجها آخر يبدع فيه.

 

أوسكار ثانية وثالثة.. إنصاف للعبقرية

كان لا بدّ من جائزة أخرى تُنصف عبقرية الرجل، وبالفعل فقد حصل “داي لويس” على جائزة الأوسكار الثانية عن دوره في فيلم “سيكون هناك دم” للمخرج “توماس أندرسون” (2007)، لكن ذلك لم يوقفه عن صناعة المزيد من الإبداع، فقد أمتع العالم بتقمصه دور الرئيس الأمريكي “أبراهام لينكولن” في الفيلم الذي حمل اسمه “لينكولن” (2012)، من إخراج “ستيفن سبيلبرغ”، وقد استعد “داي لويس” كعادته بشكل جيد لأداء دوره.

كان عرض “سبيلبرغ” مخيفا، فقد كان الدور مجهريا ويرتكز على حدث تاريخي خاص لا أحداث عامة، ولم يتردد “داي لويس” كثيرا، وطلب من “سبيلبرغ” مدة عام من أجل التحضير لهذا الدور الذي مكّنه من الفوز بجائزة الأوسكار الثالثة والغولدن غلوب، وبذلك أصبح الممثل الوحيد الذي حصل على ثلاث جوائز أوسكار عن دور رئيسي.

يبدو “دانيال داي لويس” مهوسا بالهرب، أو قد تكون عزلته ملهمته، فبعد تألقه مع المخرج “توماس أندرسون” في فيلم “الخيط الخفي” (2017)، أعلن “داي لويس” اعتزاله، لكن لعلها تكون كذبة جميلة تُشبه تخفّي أُمّ تُلاعب طفلها، لتتمتع بلحظات شغفه وهو ينتظرها كيّ تُطل عليه من جديد.