فاروق بلوفة.. مخرج الفيلم الواحد المنفي عن بلاده

عبد الكريم قادري

 

 

 

من الصعب على أي كان أن يمشي حافيا على طريق مليء بالشوك والحصى ولا يتألم، وأن يواصل مسيره بقدمين داميتين وقسمات وجه لم يرتسم عليها خطوط التذمر والبكاء. واصل تقدمه بخطوات ثقيلة وكأنه محمّل بالأثقال، أثقال التهميش والتجاهل والاستبعاد. بحث عن الحلم وقطع له الأسباب حتى يلتحم بمن يعشق ويحب، ومَن غير السينما التي أخذت عقله وروحه، سحر عوالم الصورة المتحركة، أبواب الحلم المفتوحة، المُبتغى الذي قرّر أن يُؤسس له مرجعية ويملك من خلاله الأدوات اللازمة كي يلج الأبواب ولا يخاف بقناعة الحب وخلفية العلم.

من هنا بدأ المخرج فاروق بلوفة (1947-2018) سفره في التحصيل والتأسيس، حيث كانت بدايته في المعهد الوطني للسينما بالجزائر، وبعد أن أنهى دراسته أحسّ بأن ما حصلّه في هذا المعهد ورغم أهميته لم يكن كافيا بالنسبة له، إذ لا تزال الكثير من الأسئلة عالقة في ذهنه، فكان لزاما عليه حزم حقيبته والتوجه إلى فرنسا للدخول في مرحلة جديدة من التحصيل الدراسي بمعهد الدراسات التطبيقية العليا بباريس، ليكلّل هذا الجهد بأطروحة أشرف عليها الكاتب والناقد الكبير رولان بارت عام 1970، ليعود بعدها إلى الجزائر وكله عزم وأمل ليعكس ما حصله على واقع وآفاق السينما الجزائرية من أجل المساهمة في النهوض بها، وشدّ المشعل من الجيل الأول الذي عكسه كل من محمد لخضر حمينة وأحمد راشدي وآخرين، لكن الحلم شيء والواقع شيء آخر تماما.

تخرج فاروق بلوفة من معهد الدراسات التطبيقية العليا بباريس، بأطروحة أشرف عليها الكاتب والناقد الكبير رولان بارت، سنة 1970.

“تمرد”.. حين يصطدم الحلم بالواقع

عاد فاروق بلوفة إلى الجزائر محمّلا بالمرجعية الفكرية والفلسفية للسينما ومشبعا بالفكر الاشتراكي، لذا فإنه عندما قام بإخراج أول فيلم له كان عن الثورة التحريرية تحت عنوان “تمرد” عام 1973، لكن مصيره كان المنع، كما تم حرق الشريط الأصلي، وقد كتب في التقرير بأن الفيلم مغرق في الفكر الماركسي. من هنا بدأت رؤيا المخرج فاروق بلوفة تتضح، ويرى الواقع الجزائري آنذاك على حقيقته بعيدا عما تشربه وعرفه عن اليساريين وعن فكر”الموجة الجديدة” الذي عايشه عن قرب في باريس.

رغم هذا لم ينقطع فاروق بلوفة عن السينما وعوالمها بل اشتغل في ميدان الكتابة، حيث كان ينشر مقالاته وقتها في المجلة الجزائرية “شاشتان” التي كان مبعوثا لها إلى مهرجانات السينما الكبيرة، فكان يكتب لها التقارير ويحاور كبار صنّاع السينما، وهناك كان يقف عن قُرب أمام الإنتاجات السينمائية العالمية والجديدة، وفي الوقت نفسه يحتك بكبار المخرجين، كما كان فضاء “السينماتيك” الجزائري النشيط والحيوي ملاذا آخر للسينما المدروسة والفنية والمنتقاة بعناية، لينتقل بعدها إلى تجربة مهمة، حيث كان مساعدا في كتابة سيناريو وحوار الفيلم المصري/الجزائري “عودة الابن الضال” (1976) للمخرج الكبير يوسف شاهين، وهو فيلم يحاكي بدرجة كبيرة رؤى فاروق بلوفة السياسية واليسارية. وحسب الملخص فإن الفيلم يروي حقبة من تاريخ “مصر بعد وفاة عبد الناصر عام 1970: أسرة المدبولي تنتظر عودة علي ابنها الغائب منذ 12”.

تتكون الأسرة من الجد والجدة والابن الكبير طلبة وابنه إبراهيم الذي أنهى دراسته الثانوية، وفاطمة شقيقة زوجة طلبة التي كانت تتبادل الحب مع علي واغتصبها طلبة في غيابه. يملك طلبة معصرة يعمل بها حسونة الذي تتبادل ابنته الحب مع إبراهيم. الكل في انتظار علي ليساعده في تحقيق طموحاته، ولكنه يعود مهزوما ولا يتمكن من مساعدة أحد، تنشب معركة بالأسلحة ويقتل أفراد الأسرة بعضهم بعضا وتهرب تفيدة مع إبراهيم.

شخصية العربي في فيلم "نهلة" هو الصحفي الذي يبحث عن الحقيقة وسط كومة كبيرة من الفوضى.

“نهلة”.. الفيلم الأول والأخير

اتسعت خبرة فاروق بلوفة بعد احتكاكه مباشرة بالمخرج الكبير يوسف شاهين، وقد ولّدت هذه الخبرة الفيلم الجزائري الخالد “نهلة” (1979) الذي يعالج ويسلط الضوء على واقع وفضاء غير جزائري. وقد اختار المخرج أن تكون لبنان أوّل وآخر فيلم له، وقد عكس هذا الفيلم القيمة الفكرية والفنية للمخرج فاروق بلوفة الذي تغذى برؤى “الموجة الجديدة”، حيث خرج عن القوالب الكلاسيكية من ناحية السرد أو الطرح، ونقل لنا الواقع اللبناني والحرب الأهلية التي كانت فيه بطريقة فنية، إذ استطاع أن يخلق لنا لغة سينمائية راقية لا تحتاج إلى حوار حتى نفهم ما يجري في الفيلم.

نرى في هذا الفيلم بأن بيروت مدينة مفتوحة على العالم، نسمع صوت إديث بياف وأم كلثوم وبينهما عبد الحليم أو فيروز، ناهيك عن رؤية امرأة تمر في الشارع مرتدية لباس الراهبة، وفي نفس الوقت نرى ما يشير إلى ديانات أخرى، سيارات هنا وهناك، معاكسة فتيات، كل هذا والحرب الأهلية قائمة والعدو الصهيوني يتربص ويزرع الفتنة، وكأن المدينة يجب أن تستمر وتعيش وتحيا لتتخطى الجراح، وحسب الملخص فإن الأحداث تجري “أثناء اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان، يذهب صحفي جزائري اسمه العربي في مهمة عمل إلى بيروت من أجل متابعة أحداث الحرب، هناك يتعرف على مطربة ما يلبث أن ينمو الحب بينهما، وهو من ناحيته على الأقل يكنّ نوعا من التعاطف، فقد ضاع صوت حبيبته المطربة وهي تغني ذات يوم على مسرح البيكاديلي بباريس”.

اتسعت خبرة فاروق بلوفة بعد احتكاكه مباشرة بالمخرج الكبير يوسف شاهين، وقد ولّدت هذه الخبرة الفيلم الجزائري الخالد "نهلة" (1979) الذي يعالج ويسلط الضوء على واقع وفضاء غير جزائري.

“نهلة”.. جزائري أم لبناني؟

في الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية عن السينما الجزائرية، قال المخرج فاروق بلوفة في المقابلة التي أجريت معه، وهي من المقابلات النادرة والمهمة جدا عن فيلم “نهلة” وهل هو فيلم جزائري أو لبناني، حيث جاء السؤال على النحو التالي: “برأيك، هل تعتبر أن فيلم نهلة فيلم جزائري؟” ليكون رد بلوفة حاسما ومؤكدا، “أجل بكل تأكيد، فالنظرة التي عُولج بها هذا الواقع تشهد بأن الموضوع المُعالج إنما هو مأخوذ من واقع التجربة الجزائرية، فالفيلم لم يتوقف عن الحديث عن الجزائر، في حين كان ينظر إلى واقع آخر”.

وقد أورد الناقد إبراهيم العريس في كتابه “السينما والمجتمع في الوطن العربي.. القاموس النقدي للمخرجين” -الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية- مقابلة مع المخرج فاروق بلوفة عن الفيلم حيث قال: “هناك شيئان في أصل الفيلم:

الأول هو أنه مرتبط بمخيّلتي كجزائري، فأنا لستُ من جيل الحرب بل من جيل ما بعد الحرب الواعي لأمور كثيرة، ونحن مجموعة لهم علاقات أيديولوجية بالنسبة لهم حرب لبنان كانت حدثا كبيرا لكل ما يحدث ولا سيَّما بالنسبة للقوى التقدمية. حيث كنا نقول إن الحرب مثل الكومونة، شاهدنا شيئا لا نعرفه جيدا؛ قوى ديمقراطية في العالم العربي هي قوى معادية للإمبريالية ذات فهم حداثي للحياة السياسية بشكل عام. قضايا المجتمع والدولة. عندما علمنا أن أحد الأهداف خلق دولة علمانية كان الأمر هاما أن تكون هناك قوى تناضل في سبيل هذا، حتى ولو كانت رأسمالية، أمور أثرت بنا وكانت هامة، الحرب كانت صدمة ويقظة، اهتممت كثيرا بعمل تجربة في لبنان من دون أن يكون فيلما سياسيا مباشرا، فهذا ما لم أكن قادرا على أن أفعله بسبب القوى الممولة”.

“أما المسألة الثانية فهي أنني كنت مساعدا ليوسف شاهين، مررت في لبنان معه أول أبريل/نيسان 1975، حيث لم تكن الحرب متوقعة، حاولت أن أفهم وسُحرت ببيروت، في الوقت نفسه كانت ماجدة الرومي اليمينية هناك، اهتممت بالأمر: حيث التناقض بين ما تقوله ومواقفها، طريقتها في العيش عن طريق نشاط فني مرتبط بجسدها كموضوع حر، التناقض بين حريتها الداخلية ومواقفها اليمينية.. ومن هنا جاءت فكرة الفيلم. شعرتُ أنها مستغَلة من قبل الآخرين؛ صورة النجمة المغنية، تفاصيل صغيرة أدركت أنها تولد من رغبة هي خارجها”.

ويضيف بلوفة “نهلة بالنسبة لي هي الوعي الباطني، شيء لا يمكن قتله، هشّ للغاية، يمكن أن يظلم لكنه لا يموت، نهلة لا تنتهي ببيع نفسها، بالنسبة لي ما تقوله هو هذيان، في شخصيتها شيء يجعلها مغتربة، تدخل في اغتراب هو أخطر من الأول، حديثها حديث هذيان.. أكثر استغلالا. إحدى سمات نهلة أنها نجمة وقتية، تبقى في النهاية نفس الشيء وتصبح أسيرة اغترابها، سوف تُستخدم أكثر، ولا يستطيع أحد الوصول إليها. أعتقد أن فيها شيئا من المستحيل الإمساك به حتى لو كانت ستذهب مع سليمان كريم، عندما يقول نصري لمها: لا يمكن إمساكها، ليس ثمة نهاية لنهلة، مثل القضية الفلسطينية، يمكن سحق المقاومة ولكن لا يمكن إلغاء الذاكرة الفلسطينية، حتى لو كانت مسلوبة”.

بلوفة: ""نهلة" هو فيلم كتب له أن يأتي في مرحلة كنت أنا نفسي خلالها أمر" بتغيير موقفي فيما يتعلق برؤيتي التي كنت أحملها عن الجزائر بشكل خاص".

بلوفة.. مخرج غابت عنه السينما والوطن

وبالعودة إلى الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، قال المخرج فاروق بلوفة بعد أن سأله المحاور قائلا: “بوسعك أن تخبرني إذا كان بالإمكان طرح السؤال على النحو التالي: تَخَليكم -بين مزدوجتين- عن الجزائر وعن السينما، هل كان خيارا ذاتيا أم أنه بالأحرى كان مرتبطا بظروف خاصة؟”.

من هنا تأتي إجابة فاروق بلوفة ليكون رده بمثابة وثيقة تاريخية يُجابِهُ بها الأنظمة الجزائرية التي قبرته بالحياة، وفي الوقت نفسه بمثابة اعتذار من الذين وضعوا فيه آمالا كبيرة، وكانوا ينتظرون أن يكون من بين أهم المخرجين الجزائريين والعرب، خصوصا لما أظهره في عمله الوحيد، حيث قال: “لا، لم يكن خيارا ذاتيا، إنه غياب الخيار، بمعنى أنه في لحظة ما كان الطريق الذي سرت فيه، أو على ما أعتقد لم يكن لدي الخيار في اتباع تلك الطريق.. المغادرة.

المحاور: هو ذاك؟

بلوفة: هذا كل ما في الأمر، هذا يعني أنني بذلت ما في وسعي لوقت طويل وقد تألمت لأنني كنت منخرطا عن كثب، ثم إنني اعتدت على الرحيل، هكذا ببساطة، يوجد فرق كبير، فأنا في تلك الفترة في سنوات السبعينيات كنت أعتقد أننا سننشئ سينما، لقد آمنت بذلك منذ كنت مراهقا، بأننا قادرون على تأسيس سينما وطنية، وبعد كل ما عايشناه فإنني ما زلت على قناعة بأنه ربما إنتاج أفلام.. بعض أفلام، لكننا ما زلنا نفتقد إلى صناعة سينما وطنية.

المحاور: لماذا؟

بلوفة: السبب هو لأننا فشلنا، إنه فشل”.

من هنا يحاول المُحاور أن يعرف مدى وعي النخبة وقتها بهذا الطرح حيث سأله: “هل كانت تُطرح مثل هذه النظرية داخل بعض الأروقة؟” ليكون الردّ أكثر وضوحا: “أجل، كانت توجد نظرية مغلوطة لكنها رسمية، لقد كانت تنتج أفلاما، وهكذا نكون وطنيين، السينما الجزائرية متفردة، واستطاع البعض أن يتغذى على موائدها لمدة عقود متتالية، لقد كانت حماقات، لكننا ما زلنا نعيد ارتكابها مثل الببغاوات فقط لأن أسلافنا قالوا ذلك، إذن هذا هو ما يقوله لنا رجال السياسة وقد صدقنا قولهم وهو صحيح، لكنهم فشلوا ونحن أيضا فشلنا معهم”.

العربي هو الصحفي الجزائري الذي وقع في تناقضات بيروت.

فيلم واحد.. هل كان كافيا؟

بخصوص عدم إخراجه الكثير من الأفلام فهذا يعود إلى الكثير من العوامل، يتحدث بلوفة عن بعضها بعد أن يسأله المحاور: “هل يكفيك أن تخرج فيلما واحدا خلال هذه المدة الطويلة؟”، فيقول: “كاف! بالتأكيد لا لكنه ضروري، ولنقل إن نهلة هو فيلم كُتِب له أن يأتي في مرحلة كنت أمرّ خلالها بتغيير موقفي فيما يتعلق برؤيتي التي كنت أحملها عن الجزائر بشكل خاص، إذن، لقد عنى لي الكثير أو أني أعدت طرح كثير من القضايا مع نفسي فيما يتعلق بعلاقتي مع الجزائر، وكان فيلم نهلة قد جاء في وقت كان فيه بالتحديد نوع من النداء الصادر من داخلي لاستدعاء أشياء من خارجي، أشياء أرغب في اكتشافها فيّ، أشياء لا بدّ لي من الكشف عنها، وأن انفتح على شيء لا أعرفه.

هكذا جاء فيلم نهلة قبل أن أصوره، كان لدي شعور بأن زملائي هنا -أو بالأحرى المخرجين الجزائريين- كانوا مستغرقين في السياق الجزائري والواقع الجزائري، لكن دون اتخاذ البعد الكافي فيما يتعلق بانتماء الجزائر إلى العالم العربي، سواء من حيث ما يؤكد خصوصية أو تفرّد الجزائر في تاريخها، أو كذلك من حيث إبراز الظروف التي كنا نمر بها ونعيشها في عقدي السبعينيات والثمانينيات”.

 

 

 

بلوفة.. حين يقسى علينا الوطن

حقق فيلم “نهلة” نجاحا كبيرا، وفتح نقاشا في العديد من المنابر، وهذا ما جعل بلوفة يتحمس لصناعة فيلم آخر وبطريقة مختلفة، لهذا وحسب ما ذكرته المخرجة والممثلة الجزائرية فاطمة بلحاج -عندما كانت عضوا في لجنة قراءة السيناريوهات بوزارة الثقافة الجزائرية- بأن المخرج فاروق بلوفة قدم سيناريو رائعا عن الكاتبة والرحالة السويسرية “إيزابيل إيبرهارت” التي عاشت في الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي، وذلك من أجل تمويله ليتحول إلى فيلم، وقد تم قبول العمل من طرف اللجنة لكن لم يتم تمويل الفيلم ولم يجمع ميزانيته. 

من الأشياء المضحكة المبكية أن يرحل هذا المخرج يوم 9 أبريل/ نيسان 2018، ويدفن في فرنسا دون أن تسمع بخبر وفاته الصحافة أو المؤسسات الجزائرية إلا بعد أسبوع. والأكثر من هذا أن يسديه رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق لروحه بعد شهرين من وفاته، وهو الذي عاش أكثر من ثلاثة عقود بعيدا عن وطنه وبعيدا عن تحقيق مشاريعه السينمائية.