محمد بوعماري.. المخرج الذي انتصر للمرأة والهوية وحارب الانتهازية

من الصعب أن تلتزم بمسار فكري ومهني ولا تهادن، ومن الصعب أكثر أن يكون هذا الالتزام طريقة حياة وعيش، أن تحيا وتموت وأنت وفيُّ لمنهجك هذا، لكن بالنسبة للمخرج الجزائري محمد بوعماري (1941-2006) هذا التوجه لم يكن مستحيلا، قاتل وناضل وجسّد كل الأفكار التي يؤمن بها في معظم أفلامه إن لم أقل كلها.

جعل من السينما أداة فعّالة لمحاكاة ما يصبو إليه، أي جسّد أحلامه وكوابيسه فيها، لتكون لسان حاله، وبيانات واضحة لما يريد أن تكون عليه جزائر الأمس والغد، فكان لسان حال المرأة التي أظهر دورها الفعال في الثورة الجزائرية (1954-1962)، وبيّن مواقفها من الحياة وما تريده.

لهذا كانت صيحات الحرية والانعتاق والمساواة تدوي في أفلامه، ولم يقدم هذه القضية بشكل خطابي، بل جسد دورها في الأسرة والمجتمع والثورة بشكل عام وفني، وانعكس هذا الدور على الجزائر بشكل عام، كل هذا يزرعه في أفلامه التي تحمل سمة الثورية، لأنه يعالج هذه “الثيمة” بشكل أساسي، والقضايا الأخرى يجعلها ثانوية، لكنها تحمل من القيمة ما يؤهلها لتكون بارزة، وأحيانا تتجاوز “الثيمة” الرئيسية، بالإضافة إلى دفاعه عن التراث والهوية والمكونات التي تُؤسس لعادات وتقاليد جزائرية، تصنع في مجملها ما تنطلق عليه الجزائر، لأن أي بلد حسب منظوره لا يكتمل إلا إذا اكتملت عناصر الهوية فيه.

بوعماري.. عندما اكتشفه حامينا

ولد المخرج محمد بوعماري سنة 1941 بمدينة سطيف الواقعة شرق الجزائر العاصمة، حيث تلقى تعليمه الابتدائي فيها، إلى أن ألزمت الظروف أسرته للهجرة إلى فرنسا التي عاش فترة شبابه فيها، وهناك انخرط في العديد من الأندية السينمائية، وتعرف على أهم وأجمل المدارس والتيارات والأفلام.

ويقدم المدير السابق لسينماتيك الجزائر بوجمعة كارش شهادة مهمة عن صديقه ورفيق دربه بوعماري، في كتاب صدر له باللغة الفرنسية تحت عنوان “إرث الفحّام، حياة وأعمال محمد بوعماري”، حيث قال في إحدى الفقرات “هناك حقيقة جلية اليوم هي أن السينما الجزائرية ومحمد بوعماري متساويان في العمر. وعلى غرار السينما في الجزائر خاض محمد بوعماري المجال في مطلع الستينيات ليعيش كلاهما أوج نجاحيهما في فترة السبعينيات قبل أن يتدهورا في مرحلة الثمانينيات ويلفظا أنفاسهما الأخيرة في سنوات الـ2000”.

بعد الاستقلال استدعاه المخرج الجزائري الكبير محمد لخضر حامينا، بوصفه مدير الديوان الوطني للأخبار، وهذا كان في عام 1965، وهي الفترة التي دخل فيها بوعماري الجزائر. وقد أسندت له وقتها العديد من الأعمال في الأفلام، أبرزها مساعد مخرج لأهم المخرجين الجزائريين والأجانب، إلى أن جاءته الفرصة المناسبة وأخرج أول أفلامه الروائية الطويلة، وهو فيلم “الفحّام” (1972) الذي بات من بين أهم وأروع الأفلام الكلاسيكية الجزائرية. وقد أنتجه الديوان الوطني للسينما والصناعة السينماتورغفية، ومن خلاله لمع نجم محمد بوعماري في سماء الإخراج بعد أن تجلت موهبته الواضحة، ولغته السينمائية الفريدة.

الممثلة الكبيرة فاطمة أوصليحة لم تكن زوجة بوعماري فقط، بل مثلت في كل أفلامه تقريبا

الثوري الذي عمل فحاما بعد الاستقلال

يروي فيلم “الفحّام” حسب ما جاء في ملخصه معاناة “بلقاسم الفحام، وهو رجل في سن الشباب يعيش حياة فقيرة لم يستطع أن يغير من إيقاعها رغم المحاولات التي يبذلها يوميا ضد القبيلة وظواهرها للحصول على حاجياته الحيوية من أجل عائلته الصغيرة التي تتكون من زوجته وولديه الصغيرين.

حس بلقاسم أن عمله الذي وهب له عمره قد خذله، فقرر البحث عن عمل آخر، ونزل إلى الجزائر العاصمة حيث ذهب إلى صديق قديم له كان رفيقه في وقت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وبعد الاستقلال أصبح هذا الرفيق ذا مكانة وسلطة، لكن هذه المقابلة كانت باردة جدا ولم ينل بلقاسم ما جاء من أجله، ليعود إلى مسكنه خائبا يملؤه اليأس من الوضع الذي آلت إليه الجزائر في الاستقلال.

شكّل فيلم “الفحام” نقلة نوعية في تاريخ السينما الجزائرية وقتها، فقد خرج عن الخط بعد أن وضع رجال الثورة الجزائرية تحت مجهر النقد، حيث أبرز بأن هناك من تبوأ مكانة رفيعة بعد الثورة كصديقه، وهناك من لا يزال يبحث عن قوت يومه بمرارة كحال بلقاسم الذي لم يجد من مصدر رزق يعول به أسرته سوى صناعة الفحم، ورغم هذا لم يسلم من متابعة حراس الغابات الذين منعوه مرات عدة من ممارسة هذه المهنة بحجة حماية الأشجار، بمعنى أن الشجر وجد من يحميه، أما بلقاسم الثوري فلم يجد من يحميه.

هذا من ناحية موضوع الفيلم، أما الشكل فقد استطاع محمد بوعماري خلق لغة سينمائية مغايرة تماما، ورغم طول الفيلم فإن الحوار يكاد يكون منعدما، وبقيت الصورة تتحدث وحدها، وهو الأساس الذي جلب له اهتمام النقاد.

ومن الأشياء العبثية التي وقعت هو أنه كانت هناك مشكلة في شريط صوت الفيلم، لهذا نسمع بشكل مستمر صوتا غير مألوف طوال الفيلم، مما جعل نقاد “كراسات السينما” يكتبون أن هناك طريقة جديدة في صناعة الأفلام بدأها محمد بوعماري.

 

“الإرث”.. صوت المرأة

بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم “الفحام” ازدادت رغبة محمد بوعماري في السينما، فقدم فيلما روائيا طويلا آخر تحت عنوان “الإرث” (1974) من إنتاج الديوان الوطني للسينما والصناعة السينماتوغرافية. ويروي الفيلم قصة قرية قصفها الاستعمار الفرنسي وهدمها، واعتقل وعذب الكثير من أهلها، من بينهم معلم القرية بلقاسم الذي عُذّب إلى أن دخل في حالة من الجنون.

وبعد الاستقلال عاد أصحاب القرية مع قيادات من الثورة من أجل إعادة وبناء هذه القرية من جديد، وإزالة الألغام التي تركها المستعمر الفرنسي، وبلقاسم المجنون كان يراقب الوضع من بعيد، ليتم القبض عليه، وتتفاجأ الزوجة والسكان بأن بلقاسم لا يزال حيا، لتبدأ بعدها عملية البناء.

لكن شيخ القرية وصاحب الزاوية يغش في صناعة طوب البناء المكوّن من الصلصال والتبن، وعندما تحتجّ زوجة بلقاسم عند شيخ القرية عبد الله يقوم هذا الأخير بالصراخ في وجهها ويأمرها بأن تصمت لأن صوت المرأة لا يجب أن يعلو على الرجل، لترد عليه بأنه يجب للمرأة أن تتكلم، لأن المرأة شاركت الرجل في الثورة ويجب أن تكمل المسيرة في الاستقلال، لهذا تشمّر عن ساعديها وتبيع ما تملك من ذهب وتشتري التبن، وتبدأ في صناعة الطوب وحدها، حاملة المعول لتخرج الصلصال من قاع الأرض.

وهنا تظهر رمزية هذه الصورة بأن المرأة ساهمت بشكل كبير في صناعة الثورة وفي بناء جزائر الاستقلال. وفي المقابل يصور بوعماري بعض الانتهازية، حيث يظهر الشيخ عبد الله وهو يصلي بسكان القرية، في حين يقوم رجاله بسرقة مكعبات التبن، بينما يراقب بلقاسم الوضع من بعيد.

وقد زرع المخرج الكثير من التفاصيل التي تظهر تراث الجزائر في الفيلم، من بينها الغناء والرقص والعزف على الآلات التقليدية والرقص الجماعي وترديد الأشعار الثورية الحزينة التي تتغنى بالثورة وببطولات الشعب، فقد كانت هذه المعطيات بمثابة الفواصل بين المشاهد.

 

“الخطوة الأولى” و”الرفض”

انتظر بوعماري بعدها خمس سنوات ليُخرج عملا روائيا طويلا ثالثا، وهو فيلم “الخطوة الأولى” (1979)، يدعو من خلاله إلى تحرر المرأة من نظرات المجتمع، وهذا من خلال الأب الذي بات يخجل من كلام المجتمع الذي ينظر إليه باحتقار لأن زوجته وابنته تعملان، لذا فإنه قرر تزويج ابنته من شاب، ولكن هذا الشاب مارس عليها التعنيف اللفظي والضرب المستمر، فتطلقت منه وعادت إلى بيت أبيها، وواصلت عملها مدرسة أطفال تزرع فيهم قيم التحرر، وتحدثهم عن المساواة بين المرأة والرجل، وهذا ما فتح عليها أبواب الجحيم في مجتمع منغلق.

ثم أنجز بعدها بوعماري آخر أفلامه الروائية الطويلة، وهو فيلم “الرفض” (1982)، وتدور أحداثه في فرنسا حيث الجالية الجزائرية هناك، كي يبرز دورهم الكبير في الثورة الجزائرية، من خلال الأسر التي عانت كثيرا من التفرقة والعنصرية، كما أبرز دور المرأة الكبير في هذا الكفاح والنضال.

اتجاه للأفلام الوثائقية

استمر بعدها بوعماري في إخراج الأفلام الوثائقية، إلى أن دخلت الجزائر في النفق المظلم أو ما بات يعرف بالعشرية السوداء، حيث بدأ مسلسل اغتيالات المثقفين، من هنا قرر الهجرة من جديد إلى فرنسا، حيث عاش فترة أخرى هناك.

عاد بوعماري إلى الجزائر مرة أخرى، وفيها لفظ أنفاسه الأخير نهاية 2006 في العاصمة بعد سكتة قلبية، ليترك خلفه تراثا سينمائيا كبيرا، بين أفلام قصيرة وطويلة ووثائقية.

ومن المثير للانتباه أن زوجته الممثلة الكبيرة فاطمة أوصليحة لم تكن شريكة حياته فقط، بل لعبت ومثّلت في كل أفلامه تقريبا، وقد ساهما معا في نجاح هذه الأفلام وتميزها.