“الحريات العامة في الدولة الإسلامية”.. فكر الغنوشي من الزنزانة إلى قبة البرلمان

“لو فقه الناس مطالب كل من الديمقراطية والإسلام، لو فعلوا ذلك لوقفوا على حقيقة المساحة الواسعة للاشتراك والتداخل بينهما، وكم يصلحان أساسا متينا لتبادل المنافع والتعايش، كما أن التباين معها والاستدراك عليها واردان، تلك هي حصيلة تأملاتنا لسنوات طويلة، خرجنا من المعتقلات لننخرط في ساحات النضال اليومي ضد الديكتاتورية متسلحين بهذين السلاحين: الإسلام والديمقراطية”.

كان هذا استهلال كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، من تأليف الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية، وقد فتحت له قناة الجزيرة الفضائية باب النقاش من خلال حلقة من برنامج “خارج النص” شارك فيها المؤلف نفسه مع مجموعة من الباحثين الشرعيين والسياسيين من تونس وخارجها.

تعددية الأحزاب في عصر بورقيبة.. إلهام الكتاب الأول

بدأ التفكير في تأليف كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” ضمن الظروف السياسية في تونس آنذاك، حين أعرب الرئيس بورقيبة عام 1981 عن عدم ممانعته لتشكيل وترخيص الأحزاب السياسية، فسارع الاتجاه الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي لتقديم بيان يطالب فيه بترخيص حزبه.

في عام 1981 أعلن الرئيس بورقيبة عن عدم ممانعته لتشكيل وترخيص الأحزاب السياسية

شكّل البيان التأسيسي للاتجاه الإسلامي خلفية ولدت منها فكرة الكتاب الذي جاء بحثا عن الحريات، وإجابة لكثير من التساؤلات التي طرحت آنذاك عن توافق الحرية والإسلام، إلا أن الفكرة لم ترق للسلطة الحاكمة بوجود تيار إسلامي يمارس السياسة، فاكتفى بترخيص الأحزاب القريبة من مشروعه، واعترف بحزبين فقط: الحزب الشيوعي وحركة الديموقراطيين الاشتراكيين، بينما اعتقل رموز الإسلاميين.

خرج الغنوشي من السجن بعد خمس سنوات، وانخرط في العمل السري، وعكف على أوراقه التي بدأ كتابتها في السجن، وكان يفكر في أن يقدمها كأطروحة لنيل الدكتوراه في الشريعة، لكن ما لبث أن خرج للمنفى، حيث أتمّ كتابه هناك.

كتاب الغنوشي.. حلبة من حلبات الصراع الفكري

يقول محرز الإدريسي، وهو باحث وأكاديمي تونسي: تأتي خصوصية الكتاب من كونه لم يؤلَّف في المكتب، ولم يحظ صاحبه بالظروف التي يكتب بها المفكرون العاديون، ولكنه كتبه في فترات محنة عصيبة من السجن والمنفى، فجاء الكتاب كنتاج لتجربة نضالية حقيقية، ولم يأت للترف الفكري، وإنما كان ثورة لاقتلاع الظلم.

أما الطاهر أمين وهو كاتب تونسي أيضا، فيعترض من حيث المبدأ على الكتاب والكاتب، فيقول: الكتاب لا يشكل تأصيلا للفكر السياسي الإسلامي، وهو لا يقدم نظرية في السلطة أو الدولة، وذلك لسبب واضح كشف عنه الشيخ راشد الغنوشي نفسه في مقدمة كتابه، فهو يتحدث عن الدولة الوطنية الديموقراطية. ولم يقدم الشيخ ولا الحركة الإسلامية التونسية، ولا حتى باقي التيارات الإسلامية العالمية تأصيلا فكريا إسلاميا للدولة.

تأتي خصوصية كتاب الشيخ الغنوشي من كونه لم يؤلَّف في المكتب، بل في السجن والمنفى

بدورها تحدثت البرلمانية التونسية محرزية العبيدي بإيجابية شديدة عن الكتاب قائلة: عندما كتب الكتاب كان الواقع السياسي موسوما بالاستبداد، وفجأة جاء ليزف حلم تصالح الإسلام والديمقراطية، حلم الدولة التي توسع فضاء الحريات ولا تخنقه.

واختار الباحث مصدق الجليدي انتقاد الصيغة البنائية في الكتاب، فقال: كتب الكتاب في مراحل مختلفة وليس في طبعة واحدة، فأنت تلاحظ أنه في كل طبعة تضاف إليه أفكار ومرجعيات جديدة. وهذا إيجابي من ناحية لأنه يدل على انفتاح ومرونة وهضم لأفكار مستجدة، ومن ناحية أخرى يضر بالاتساق النظري والمتانة في الطرح.

مبدأ الشورى والديمقراطية.. هاجس الديكتاتورية باسم الله

ظهر الكتاب إلى النور على يد مدير مركز دراسات الوحدة العربية آنذاك الناشر خير الدين حسيب الذي آمن بأفكار الكتاب وتحمّل مجازفة نشره، إلا أن النظام التونسي منع نشر الكتاب وضيّق على ناشره، وكانت أفكاره قد أثارت جدلا واسعا لدى العلمانيين والإسلاميين على السواء، نظرا لما جاء فيه عن الشورى والديمقراطية وإمامة المرأة وحكم الردة.

لم يكتفِ الكتاب بتأصيل مبدأ الشورى والديمقراطية كآلية لتطبيقها، بل جدد في تقديم ضمانات تحفظ مسار الدولة من الميل نحو الاستبداد، فقد ورد في متنه: ما الذي يضمن أن لا تتحول الدولة المسلمة نفسها إلى جهاز للقمع والتدمير ومطاردة الأحرار والحيف عن حقوق الإنسان والشعوب، وبالخصوص أن ذلك طالما حدث في تاريخ الإسلام ولا يزال، ويزداد الأمر سوءا إذا ادعت دولة الاستبداد أنها تفعل ذلك باسم الله أو رسالة الإسلام؟ أن لا نكون معرّضين لديكتاتورية دينية هي شر ما ابتليت وتبتلى به البشرية؟

الإسلاميون يقبلون الديمقراطية كآلية إجرائية لحل الخلافات السياسية، ولكنهم لا يقبلون روحها

ويتحفظ الطاهر أمين على أطروحات الإسلاميين بعامة عن الديمقراطية قائلا: الإسلاميون يقبلون الديمقراطية كآلية إجرائية لحل الخلافات السياسية، ولكنهم لا يقبلون روحها. هذا الموقف نجده عند فهمي هويدي ومالك بن نبي وأبو الأعلى المودودي والقرضاوي والترابي ومعظم المفكرين والمنظرين الإسلاميين الذين كتبوا في الديمقراطية.

وينظر الإدريسي بعين إيجابية لفكرة التعددية في الكتاب، إذ يقول: الأستاذ الغنوشي قبل بالأحزاب والتعددية الحزبية كإحدى الضمانات حتى لا تجور الدولة المسلمة على الحرية. وهذا المبدأ أخذ به كثير من الإسلاميين في بعض البلاد العربية كالأردن والجزائر. كما طرح فكرة الأقليات وأهل الذمة.

شراكة الحقوق والواجبات.. مجتمع المدينة المنورة

يقول الغنوشي في الكتاب: قامت الدولة على أساس المواطنة، أي المساواة حقوقا وواجبات، وبسبب أصالة قيمة حرية الاعتقاد -وثمرتها القبول بالتعدد الديني- فقد تعايشت في ظل كل المجتمعات الإسلامية على مر التاريخ كل المعتقدات التوحيدية وحتى الوثنية في وئام وسلام.

وبخصوص المواطنة يرى أن “الدولة المسلمة تقوم على مفهوم المواطنة، بمعنى الاشتراك في الأرض. وكما يقول المختار الشنقيطي فالدولة المعاصرة هي دولة عقارية، بمعنى الاشتراك في العقار، الذين يشتركون في امتلاك الوطن، هؤلاء مواطنون جميعا ولهم نفس الحقوق. هل الدولة الإسلامية هي كذلك؟ نعم هي كذلك، في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، كانت المدينة أول مجتمع طبق فيه الإسلام، وكانت تقوم على مبدأ المواطنة”.

الدولة المسلمة تقوم على مفهوم المواطنة، بمعنى الاشتراك في الأرض

ويرد الطاهر أمين أن: مفهوم المواطنة حديث، وجاء في السياق الغربي، وقام الشيخ راشد بإسقاطه على مجتمع المدينة، وعلى معاهدة الصحيفة، وهذا إسقاط تاريخي.

أما السيدة العبيدي فتقول: هذا المواطن قد يكون مسلما أو غير مسلم، وقد ينتمي إلى إثنية معينة أو عرقية أو أقلية لغوية، فالكتاب أعطى أهمية للأقليات، بل جعل عنوانا من العناوين وضمانة من الضمانات التي تقدمها الدولة، وتقاس بمدى التزامها بحقوق الأقليات. وجسَّر لكتاب بين مفهوم أهل الذمة والمواطنة.

“الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة”.. ضرب الثوابت

نادى الكتاب بالحرية التامة حتى في المعتقد، فجاءت مسألة الردة وتأصيل حرية الاعتقاد في ضوئها تحديا واجهه الكاتب بجرأة.

ويعلق السيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة التونسية: أكثر شيء أثار جدلا في الكتاب هو موضوع الردة، فقد فصل الشيخ بين الجانب الاعتقادي في الردة والجانب السياسي. فاعتبر أن الردة التي تحارب هي رفع السلاح، وهذه جريمة سياسية وليست اعتقادية.

الردة ليست جريمة عقدية، بل هي مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين من نيل أعدائها

وقد تصدى د. تيسير الفتياني -عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- لموضوع الردة بحزم حين قال: في ثوابتنا أن المرتد له حكم عقدي، وحكمه الشرعي حدّ، ويقتل بعد الاستتابة، وهذا من أمور الدين التي لا يجوز التلاعب بها. والكتاب فيه نوع من التناقض: فهو يقول العقائدية حد، والحد يلزم الإمام أن ينفذه، أما السياسية فاجتهادية، يعني حسب خطورة المرتد وتأثيره على الناس، وهو يستعرض آراء العلماء ويخالفهم، وهناك الآلاف منهم الذين قالوا إن هذا أمر اعتقادي وفيه الحد.

وجاء في الكتاب: الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة التي أقرها الإسلام، وأنها مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من نيل أعدائها، وأن ما صدر من النبي عليه السلام في شأن الردة إنما هو باعتبار ولايته السياسية للمسلمين وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيرا لا حدّا.

ويدافع الغنوشي عن رأيه قائلا: نحن إزاء جريمة سياسية وليست عقدية، والعقيدة قناعة شخصية لا تفرض، وإذا خرجت من قلب أحدهم لا يمكن إعادتها بالقوة. وحتى إن رجع ظاهريا فهذا منافق، ومجتمعاتنا ليست بحاجة إلى مزيد من المنافقين.

إمامة المرأة.. “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”

من المسائل التي أثارها الكتاب وأحدثت جدلا كبيرا لدرجة تكفير الكاتب موضوع إمامة المرأة، إذ يقول: فالحديث لا يتعدى التعليق على الحادثة المذكورة حتى يكون مرجعا في مادة القانون الدستوري، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلا عن ظنيته من جهة السند، حتى يصلح أساسا لمنع المرأة من الإمامة العامة.

ويأخذ د. تيسير الفتياني بالرأي الأرجح قائلا: الرأي الأقوى والأرجح أنه لا يجوز أن تتولى المرأة المناصب العامة مثل رأس الدولة وقاضي القضاة والجنايات، ولكن هناك أمور يجوز أن تتولاها. المانعون يستشهدون بحديث “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، وجمهور العلماء على أنه يفيد العموم.

يتشكل البرلمان التونسي من رجال ونساء، ولا يمنع القانون التونسي المرأة من تولي المناصب العليا

ويقول الغنوشي في هذا الجانب: الأفضل أن تتثبتوا أولا من الحاكم أنه يحكم بالعدل والمساواة ثم انظروا إلى جنسه أذكرٌ هو أم أنثى، فنحن لا يخفف من آلامنا أن حاكمنا ذكر. والحديث يتكلم عن واقعة مخصوصة في التاريخ.

وجدت أفكار الكتاب طريقها إلى الترجمة على الأرض، حين أصبحت حركة النهضة جزءا من كتابة الدستور الثاني لتونس، حيث تقول السيدة العبيدي: عندما كنا بصدد كتابة الدستور ومناقشة باب الحقوق والحريات خاصة، رجعت إلى هذا الكتاب وقرأته قراءة ثانية مختلفة، لا لمجرد الفهم بل للتنزيل، وكيف تكون الرؤى في الكتاب قابلة لأن تكون نصا دستوريا.