صفاقس في حضن السور.. عندما تحنو الحجارة على التراث

خاص-الوثائقية

من لا يعرف المدينة العتيقة “بلاد العربي”، فإنه يجهل صفاقس، إن زرتها سوف تجذبك أحياؤها وأزقتها وكذلك سكانها، ستشدّك معالمها وأشياء أخرى، ويتولد لديك إحساس بحب الإستكشاف الذي سيجعلك تتردد عليها باستمرار، فتنصهر بها.

وإلى أن تسنح لك زيارتها، فيكفيك أن تسأل عن مبروك الحمّال، فهو قد صوّر فيلما عن صفاقس العتيقة داخل السور، ودفع به إلى قناة الجزيرة الوثائقية، لتعرضه لاحقا تحت عنوان “صفاقس.. صورة وراء السور”.

 

“مبروك الحمّال”.. يجرُّ العربة ويرفع اسم صفاقس

هذا مبروك الحمّال، يجر عربته ذات العجلتين من المطاط، ولها مقبضان من الخشب يمسك بهما تحت ذراعيه حتى يجرها، وفي الزقاق الضيقة العتيقه قد يضطر لدفع عربته إلى الأمام، يحمل البضائع من المدينة العتيقة داخل السور إلى الأحياء الجديدة خارجه، لا توجد وسيلة نقل أخرى نظرا لضيق الأزقة والطرق داخل السور.

في هذه الجولة يحمل صاحبنا مجموعة من غرابيل القمح، يبدو أن أحد تجار الحبوب قد اشتراها من المنطقة الحرفية داخل السور، ويتقاضى أجرته، دينارين بالعملة التونسية، ويتلقى الدعوات بالعون والتوفيق، ويمضي إلى نقلة أخرى.

العربة هي أفضل وسيلة لنقل المتاع في حواري وأزقة المدينة العتيقة الضيقة

 

عربة مبروك المبروكة

“أنا مبروك مراد، 27 عاما، أدرس في السنة الثانية لنيل شهادة الماجستير في قسم السمعي البصري، بدأت قصتي مع المدينة العتيقة عندما كنت أدرس في المعهد الثانوي، أتيت إلى هنا بمفردي، وأصبحت لي حياتي الخاصة بعيداً عن العائلة”.

“تأقلمت مع جو المدينة العتيقة ووجدته ملائما لي، فأنا أعيش بين أناس لا يتوانون عن تقديم المساعدة لي في أي شأن من شؤون حياتي، حتى في إطار عملي، كما ترى أنا أعمل حمّالا على هذه العربة”.

“ساعدتني مهنتي هذه على تأمين مصاريف الدراسة والعيش داخل المدينة العتيقة، واستطعت التوفيق بين عملي ودراستي حيث لا تعارض بينهما، يمكنني أن أعمل بمعدل ساعتين يوميا أستطيع من خلالهما تأمين مصاريفي وحاجاتي اليومية وأن أعيش مثل باقي الناس هنا”.

“تعلمت الكثير خلال وجودي في المدينة العتيقة، تبادل الثقة وحسن التعامل مع الناس، نعم فقد أتعرض للإساءة من بعض الناس أحيانا، ولكنني أتجاوزها وأمضي في طريقي”.

أحد ابناء المدينة العتيقة ورث مهنته أبا عن جد لا يزال يسكن في بيت أجداده

 

داخل السور.. رحل الناس وبقيت صناعاتهم

الجولة الثانية في أحد مصانع الأحذية الجلدية التقليدية، سوف ينقلها إلى خارج السور، يلاطف عمّال المعمل ويبادلونه المزاح، ثم يحمل البضاعة على عربته اليدوية، وينطلق بها إلى التجار الذين تم تحديدهم له خارج السور، فالعربة “البرويطة” هي الوسيلة الوحيدة التي تربط ما بين داخل السور وخارجه.

يتحدث إلينا صاحب معمل الأحذية: “أنا مولود هنا في المدينة العتيقة، أبي وأجدادي من قبلي كانوا من أهل هذا المكان، لم أخرج من داخل السور قط، كبرت وترعرعت هنا، وصنعتي ومصدر رزقي في هذا المكان”.

“في هذا الحي داخل السور سكنت عائلات كثيرة؛ عائلة السلّامي، وعائلة العفّاس ودار العشّ وعائلة سيالة، نحن هنا في منزل عائلة سيالة، أترى بائع الفطائر الذي في شارع الباي؟ إنه من عائلة سيالة وهذا المحل له، لقد كانت “الزلابية” و”المخارق” تصنع في هذا البيت تحديدا”.

“ولكن للأسف فقد رحلت كل العائلات من هنا، وسكنوا خارج السور، لم يبق هنا إلا الحرفيين ومعامل الصناعات التقليدية العتيقة، ولم يبق من السكان إلا الفقراء الذين لا يستطيعون دفع تكاليف السكن في الأحياء الحديثة خارج السور، وصار أهلها يأتون إليها مثل السياح، فقط ليتذكروا يوميات طفولتهم”.

“داخل السور تجد صانعي الملابس والأحذية والحدادين والصاغة الذين توارثوا هذه المهن عن أجدادهم، أنا في هذه المهنة منذ تسع سنوات، تعاملت خلالها مع الكثير من التجار، وخلال هذه السنوات توطدت علاقتي مع بعض التجار وصرت أتعامل معهم بكثرة، ولا يضيرني أن أنتظر أجري منهم أسبوعا أو أسبوعين أو حتى شهرا، فقد صار هناك ثقة متبادلة بيني وبينهم”.

عازف البيانو وصاحب أحد البيوت العتيقة يتحدث وعائلته عن الحياة في صفاقس العتيقة

 

الجامع الكبير.. عبق التاريخ ومهبط السكينة

نحن في أحد بيوت المدينة العتيقة، يحدثنا صاحب البيت، وهو عازف بيانو: “كانت حفلات الأعراس تقام في النهار، حيث كانت عازفة البيانو تخرج ما بين الساعة 12:30 إلى الثالثة عصرا، تخرج بكامل زينتها وتفوح رائحة عطرها وهي تلبس الملابس التقليدية، ويُحمَل لها البيانو في العربة، فتمشي أمام العربة ومعها مساعدتان تضربان على الطبلة والدف”.

وتعقب زوجته: “في السابق كانت المرأة لا تخرج من المنزل ولا تنكشف على الرجال”، وتتدخل ابنتهم الشابة: “أتذكر طفولتي عندما أنظر إلى أي من الأشياء داخل هذه الدار، هذه أول مرة أعود إلى منزلنا القديم منذ تركته وأنا طفلة”.

“هذه الغرفة الرئيسية في الدار، لم يكن مسموحا لنا دخولها ونحن صغار حتى لا نفسد الديكور، وكما ترى فقد بقي المنزل على حاله من النظافة والترتيب مذ تركه آباؤنا”.

ونعود إلى ذكريات مبروك إذ يقول: “حصلتُ على البكالوريا في 2010، وكنت وقتها أعمل حمّالا كذلك، ثم التحقت ببرنامج شهاد الليسانس في العلوم التطبيقية وتصميم وسائل الإعلام، وكان مشروع تخرج نابعا من المدينة العتيقة، وذلك نظرا لثرائها الثقافي والتاريخي، وارتبط مشروعي بالسياحة الثقافية، وكان من أنحج المشاريع”.

“في الجامع الكبير أجد راحتي النفسية، أتردد هنا كثيرا حين لا يكون لديّ عمل، أصلي واقرأ القرآن، فهو من أهم المعالم التاريخية في مدينة صفاقس، بناه الأغالبة سنة 235 هجرية”.

دار الجلولي منزل تاريخي قديم تحول إلى متحف يحتفظ بتاريخ المدينة

 

دار الجلولي.. طراز يحكي قصة الأغالبة

ويتابع مبروك: “خدمتي في هذه المدينة جعلتني أكتشف كثيرا من الأماكن الهامة والتاريخية فيها، وأُثري بواسطتها دراستي المتعلقة بالصوت والصورة من خلال النظر في هذه المرافق الحيوية التاريخية. انظر هذا المقهى الذي أجلس فيه، عمره الآن أكثر من 100 عام”.

“زوار المدينة من كبار السن قلائل، أحب أن ألتقي بهم وأسمع منهم عن ذكرياتهم حول تاريخ هذه المدينة، هذا الطريق الذي نمشي فيه هو نهج الشيخ التيجاني، ويدعى أيضا نهج الذهب، أهم نهج في صفاقس، يسكنه ثقاة الناس وفضلاؤهم”.

“وهذه زاوية سيدي علي النوري، بعد الالتفاف يمينا سنجد منزل “الجلولي”، تشعر بالهدوء والطمأنينة هنا بعيدا عن صخب الشارع، الجدران عالية وأساس البيت سميك، فارتفاعه أكثر من 8 أمتار، وعرض الأساس يتدرج من 80 سنتمتر في الأسفل إلى 40 سنتمتر في أعلى الجدار”.

“في هذه الدار تجد الزخارف المبهجة، وفنون “الأرابيسك” وطرز المشربيات القديمة، وترى النقوش والفُرُش والنمارق، وفي غرفة التخزين ترى الأواني الفخارية من كل الأحجام والأشكال؛ للماء والزيت وتخزين المواد التموينية الأخرى”.

أهم معالم صفاقس العتيقة السور القديم الذي يعد معلما تاريخيا يخشى عليه من عوامل الزمن

 

أدركوا صفاقس العتيقة.. سورُها بدأ يشيخ

وعن المدينة العتيقة يقول مبروك: “ينتابني الأسى كثيرا حين أدخل المدينة العتيقة وأراها مهملة، وأشاهد تاريخنا يندثر أمام أعيننا شيئا فشيئا، البلدية تحاول إجراء عمليات ترميم أحيانا، لكن أكثر المواد المستخدمة في عمليات الترميم لا تتناسب مع الطابع الأصلي للمدينة، لقد فقدت المدينة بصمتها الخاصة”.

“يخطر ببالي أن آخذ آلة التصوير وأصوّر كل زاوية وكل جدار هنا، أريد أن أخلد هذا التاريخ حتى يشعر به الناس هنا ولا ينسونه. أخشى على المدينة من الاندثار أمام أعينهم وهم لا يحركون ساكنا، هذا متحف القصبة، اكتشفته أثناء تحضيري لمشروع التخرج، جئت إلى هنا وأخذت صورا كثيرة ترى من خلالها جزءا كبيرا من سور المدينة القديمة”.

“يعتبر سور صفاقس العتيقة من أجمل أسوار المدن الإسلامية، وهو السور الوحيد الذي بقي متماسكا وملتفّا حول المدينة، يحميها من الاختطاف. بعد التخرج سوف أحتفظ بالصور، وستبقى عربتي معي تذكارا، لقد كانت الوسيلة الوحيدة التي حققت من خلالها أهدافي، وتعرفت من خلالها على صفاقس العتيقة. إنها عزيزة على قلبي”.