الجنيه المصري.. هل تستمر قيمته بالانخفاض؟

بدأت رحلة الجنيه المصري في عام 1899 حين أصدر البنك الأهلي أول جنيه ورقي مصري، وكانت قيمته تساوي 7.43 غرامات من الذهب، أي أقل بقليل من الجنيه الذهبي (8.5 غراما)، ليصل في محطته الأخيرة، المسجلة في فيلم “الجنيه المصري” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، في أغسطس 2016 ليصبح سعر الجنيه الذهبي 3860 جنيها مصريا، وأصبح سعر الدولار الأمريكي 13.5 جنيها، بعدما كانت قيمة الجنيه الواحد 5 دولارات أمريكية عام 1945.

ارتفاع الديون بخدماتها لأكثر من 102% من قيمة الناتج المحلي، وتوقعات باستمرار الاقتراض في الفترة القادمة لدعم عجز الموازنة، بالإضافة إلى مخاطر انهيار قيمة العملة، وعدم قدرة الدولة على التزاماتها بسداد أقساط القروض، والإنفاق الحكومي على التعليم والصحة والأمن ورواتب الموظفين الحكوميين، كل هذا يعرض الدولة المصرية للإفلاس، مما يعني فقدان الملايين لمدخراتهم ووظائفهم وربما حياتهم.

تقول الأسطورة إن الجنيه المصري كان في الأزمنة الغابرة فارسا لا يُشق له غبار، فقد خاض حروبا وأزمات عالمية وخرج منها منتصرا، لكنها كأي أسطورة تكمن متعتها في غرابتها، فما يعيشه المصريون من أوضاع اقتصادية سيئة جعل حلم الإنسان المصري هو الهرب من بلد ينتظر الموت، فمع قلة السياحة وضعف الإنتاج المحلي وارتفاع نسبة الفساد وغلاء الأسعار والغياب التام لدور الدولة في مقاومة أسباب التدهور الاقتصادي؛ صارت مصر على شفا الأزمة.

لكن الأوضاع لم تكن هكذا منذ الأزل، فهناك لحظات باسمة للجنيه المصري، لحظات لا شك أنها نادرة لكنها موجودة، فقد كانت عملة ذهبية تنحني أمامها العملات الأخرى، ملأت الدنيا ضجيجا، ورسمت ملامح الشخصية المصرية منذ ولادتها وحتى شيخوختها.

حرب الاستقلال عن العثمانيين.. ميلاد الفارس الذهبي

ولد الجنيه المصري فارسا ذهبيا عام 1836 من رحم حرب بين الدولة المصرية الوليدة بقيادة محمد علي باشا، والإمبراطورية العثمانية كرمز من رموز الاستقلال الوطني، وكان الجنيه الذهبي مقدرا بوزن 8.5 غراما من الذهب ليحل محل القرش العثماني كعملة رسمية للدولة المصرية. وأنشأ محمد علي نظاما اقتصاديا يدعى نظام الاحتكار، فكان هو المالك الوحيد للأرض الزراعية، وهو التاجر الوحيد، وهو الصانع الوحيد، ولذلك صار كل أهل مصر يعملون لحساب محمد علي.

صورة للقاء الملك فاروق مع الرئيس الأمريكي روزفيلت على متن المدمرة الأمريكية “كوينسي” سنة 1945 بقناة السويس

وتحولت العملة المصرية من الذهب إلى الورق عام 1898، حين طرح البنك الأهلي أوراقا نقدية للتداول لتكون بديلا للجنيه الذهبي، وكان الجنيه الورقي مقدرا بـ 7.43 غرامات من الذهب، ونظرا لقيمته الكبيرة فقد قسم إلى عدد من الفئات الأصغر مثل القرش والمليم.

وعلى الرغم من قوة الاقتصاد المصري في دولة شاسعة وعدد سكان لا يتجاوز خمسة ملايين عام 1860، فإن الدولة المصرية كانت غارقة في الديون، إذ ارتفعت الديون من صفر في عهد محمد علي باشا إلى 18 مليون جنيه في عهد سعيد باشا في فترة لا تتجاوز عشر سنوات، وهي تقدر بأكثر من 80 مليار جنيه مصري في وقتنا الحالي.

مشروع قناة السويس.. عرق مصر ومال الأجانب

بدأ العمل في مشروع قناة السويس عام 1869 بمشاركة أكثر من مليون فلاح يعملون بالأجرة في عملية حفر القناة، على حساب الأراضي الزراعية التي تركوها للبوار، وسقط حينها أكثر من 120 ألف مصري معظمهم دفنوا تحت مياه القناة نفسها. وقد بلغت كلفة الحفل الأسطوري لافتتاح القناة أكثر من 1.5 مليون جنيه مصري (6.5 مليار جنيه مصري بحسابات وقتنا الحالي)، مما رفع ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل إلى أكثر من 126 مليون جنيه ذهبي (570 مليار جنيه بقيمة اليوم)، لتصبح القناة مملوكة بالكامل للأجانب، وهو ما مهد لاحتلال مصر عسكريا عام 1882، وتحول الدولة المصرية إلى مجرد ماكينة لتسديد الديون وفوائدها.

مليون فلاح عملوا بالأجرة في حفر قناة السويس وتركوا أراضيهم، ولم تنفعهم القناة بعد ذلك في تحسين معيشتهم

ويذكر د. عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث أن “هذا المشروع عرض على محمد علي فرفضه، لكن الفكرة جاءت مع الخديوي محمد سعيد الذي عرض عليه الإنجليز 44% من أسهم القناة، ولكن سعيد لم يكن معه ما يغطي تكاليف حفر القناة، فعرضت عليه إنجلترا إقراضه المبلغ، وهنا بدأت دوامة الديون. وعندما فتحت القناة، بدأ سعيد يطالب بالأرباح، فماطله الإنجليزي بحجة أنه لم يساهم في تكاليف شق القناة، ولم يكن له سوى الأسهم، فتنازل عن الأسهم لإنجلترا مقابل الديون”.

ويرى أستاذ الاقتصاد د. شريف الدمرداش “أن مصر لم تكن بحاجة حقيقية للاقتراض من الخارج، إلا أن بطانة الخديوي سعيد من الأجانب وميله للفنون والرفاهية أدت إلى هذه النتيجة”.

الحرب العالمية الأولى.. انتصار الجنيه المصري

لم يعد يذكر اسم الجنيه المصري إلا وذهبت الأذهان إلى الثراء الفاحش، فقد كان أكثر قوة ومهابة من أي عملة أخرى في العالم، لكن صراعه مع الجنيه الإسترليني على النفوذ حسم مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وإعلان إنجلترا الحماية على مصر. فقد ارتبط الجنيه المصري بالإسترليني، من خلال حظر استبدال الجنيه المصري الورقي بالذهب، وبدأ البنك الأهلي -الطابع الوحيد للأوراق النقدية- بتصدير غطائه الذهبي لعملاته إلى لندن لتغطية تكاليف الحرب.

ويحكي د. الدمرداش عن الحقبة الذهبية للجنيه بقوله: عند إصدار الجنيه الورقي ثبتوا سعره بالذهب بما يعادل أكثر من سبعة غرامات ذهبية، فكان بالإمكان تقديم الجنيه الورقي للبنك وتأخذ مقابله غرامات ذهبية، واستمر هذا النظام حوالي 15 عاما، حتى قيام الحرب العالمية الأولى 1914، وإعلان بريطانيا الحماية على مصر، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الجنيه الورقي هو وسيلة التداول النقدي والشراء والبيع الرسمية في الدولة، وجرى ربط الجنيه المصري بالجنيه الإسترليني، وكان المصري أعلى قيمة من الإسترليني.

سجل التاريخ مجدا للجنيه المصري كأغلى عملة في العالم سنة 1850 إلى واحدة من أدناها قيمة في 2020

واجه الجنيه المصري مخاطر الحرب العالمية الأولى وانتصر عليها، وأصبح عملة صعبة في سوق العملات، وأصبحت مصر دولة غنية بشعب يزداد فقرا كل يوم، وهو ما أخرج الشعب للتظاهر عام 1919 مطالبين باستقلال مصر سياسيا واقتصاديا، ولأن الظروف القاسية -نتيجة الحرب والحماية البريطانية- قد طالت الجميع، فقد كان نفي سعد زغلول ورفاقه بمثابة الشرارة التي أشعلت غضب معظم طبقات الشعب، فخرج العمال والطلبة والمثقفون والتجار والنساء مطالبين بالحياة، وأصبح اغتيال الأجانب من أصحاب رؤوس الأموال هو الخبر اليومي الثابت.

وعن تلك الحقبة ومعاناة الشعب المصري يقول الخبير الاقتصادي د. جمال قليوب: وصل تعداد السكان في مصر إلى 11 مليون مواطن، يعاني حوالي 90% منهم من الجهل والأمية، ويعاني 55% منهم من الأمراض وخاصة مرض البلهارسيا بسبب سوء التغذية، وهو ما حرك ثورة 1919 للمطالبة بتحسين حياة المواطن المصري وتعليمه وصحته.

زواج كاثوليكي.. ديون بريطانيا الأبدية

منذ أن اشتد عود الجنيه المصري ارتبط بالجنيه الإسترليني ارتباطا وثيقا ظنه البعض زواجا كاثوليكيا، لكن حالة بريطانيا ودول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ووقوف الدول الاستعمارية القديمة في طوابير استجداء المعونة الأمريكية جعل الجنيه المصري يرتبط بعملة أخرى تناسب قوته، ولذا بدءا من عام 1945 ارتبط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي، ليقترب سعر الجنيه المصري من خمسة دولارات أمريكية.

واستفادت مصر بشكل غير مباشر من الحرب وقطع خطوط المواصلات بينها وبين أوروبا، حيث نشأت صناعات وطنية وجدت سوقا دون منافسة أجنبية، فبدأت نهضة من خلال قوانين محو الأمية وتمصير الديون الأجنبية وحماية الصناعة الوطنية، ونتيجة لتقديم مصر خدمات متنوعة للقوات البريطانية في الحرب، تحولت من دولة مدينة لبريطانيا بمبلغ 39 مليون جنيه إسترليني إلى دائنة بمبلغ 340 مليون جنيه إسترليني.

إلا أن الهيمنة البريطانية على مصر أبقت على اختلال العلاقة بين الطرفين، وعن ذلك يقول د. سيد طه أستاذ الاقتصاد السياسي: كانت بريطانيا تفرض على مصر -باعتبارها إحدى مستعمراتها- وضع وارداتها من الذهب والعملات وقيمة ما تصدره مصر من قطن طويل التيلة إلى لندن، ليحفظ في صندوق مالي بلندن، ويقيد في دفاتر كمستحقات لمصر لدى بريطانيا، فأصبح لمصر حقوق لدى إنجلترا أكثر من التزاماتها تجاهها، لكنها حقوق مدونة في الدفاتر فقط.

ويستدرك د. الدسوقي على هذه القضية بالقول: هذه الحقوق لم نأخذها، وبقيت مقيدة لدى البريطانيين، وكانت مطلبا وطنيا للحصول عليها، حتى بعد ثورة 1952، ولم نر منها شيئا.

ثورة عبد الناصر.. عثرة الجنيه الأولى التي كسرت ساقه

كان الجنيه المصري نجما في سماء العملات، فلم ينخفض أبدا طوال عهد الملك فاروق عن 4 دولارات للجنيه الواحد، وانخفضت الديون إلى حيز الصفر، وكان النمو الاقتصادي المتصاعد منذ عام 1936 قد مكن الفئات الفقيرة من الالتحاق بالجيش المصري، وهي الفئات التي خططت وقامت بحركة الجيش المنحازة إلى أفكار طبقة صغار الضباط الذين قاموا بها، ومعظمهم من أصول ريفية وبعضهم ينتمي لحركات يسارية، وكان قائدهم الفعلي جمال عبد الناصر ابن الموظف في مصلحة البريد من أصول صعيدية.

غيرت ثورة 23 يوليو 1952 بنية المجتمع المصري على مختلف الصعد، ويصف د. الدمرداش هذا المشهد بقوله: مصر كان لديها عام الثورة 1952 أول برلمان في المنطقة، وكانت القاهرة رابع أجمل عاصمة في العالم، وكان الجنيه المصري يعادل جنيه ذهب، ورغم أن شعارات مجانية التعليم وغيرها التي جاءت بها الثورة جميلة، لكن علينا أن نرى إلى أين انتهت هذه الشعارات، وليس من أين بدأت، فنسبة الأمية اليوم تبلغ 40%، وهي نفس النسبة التي كانت حين قامت الثورة.

من المفترض أن يكون انقلاب الـ52  تحولا لصالح الشعب الفقير، لكنه كان بداية الأحقاب العجاف المتتالية

عملت الثورة على إعادة توزيع الثروة، ومعها انخفضت قيمة الجنيه المصري، لتصل إلى أقل من 3 دولارات للجنيه الواحد، وتوالت الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فترة قصيرة، مثل إعلان الجمهورية وإلغاء الألقاب والرتب المدنية ومجانية التعليم وقانون الإصلاح الزراعي.

وتحولت مصر من الرأسمالية إلى الاشتراكية، فنمت طبقة جديدة استفادت من النظام الاقتصادي الجديد، وتحولت قصور الإقطاعيين إلى مساكن لطبقة ضباط الجيش، ومع التوسع في سياسة مجانية التعليم لتشمل التعليم الثانوي والجامعي، توسع التحاق أبناء الطبقة الريفية والفقيرة بالتعليم، فنشأت طبقة متوسطة قوية، وانتهت طبقة 0.5% التي كانت تملك أكثر من 95% من ثروات البلاد.

ويعتقد د. الدمرداش أن الثورة غيرت البنية الاقتصادية لمصر، إذ يقول: عندما قامت الثورة عام 1952 ألغت نظاما اقتصاديا قائما على النشاط الاقتصادي للدولة منذ 6000 سنة، فمصر هبة النيل دولة زراعية منذ ولادتها، وهي بذلك هددت النظام الاجتماعي، لكنها لم تقدم البديل.

ويعقب د. سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي على هذا التحول بقوله: الذي تغير في مصر أنه بدل طبقة صغيرة جدا كانت تملك مقدرات البلد زادت هذه الطبقة إلى 10% من الشعب، فتخلصت من باشا وأوجدت مكانه 100 باشا.

مشروع السد العالي.. انتصار مصر على العدوان

كان الجنيه المصري في مصر الثورة مثقلا بالتزامات الدعم المتواصل للطبقات الفقيرة، فناء به الحمل حتى سمع لهاثه، فقد كانت هذه الطبقات هي التي تقدم الدعم السياسي لعبد الناصر، ولم يكن من الممكن التخلي عنها، فكان يهتم بالمشروع الذي يقدم خدمات للطبقة التي كان ينتمي لها، وهو مشروع السد العالي، الذي سيضمن لمصر قدرا من الطاقة لبناء مصانع عملاقة، لكن الجنيه المصري لم يكن مؤهلا لتمويل مشروع بهذا الحجم.

ولم يلبث أن بدأ العدوان الثلاثي ضد مصر على ضفاف القناة، وخرجت مصر من الحرب منتصرة سياسيا، لتبدأ بعدها حملة كبرى لتأميم رأس المال الأجنبي، فكانت تجربة عبد الناصر أشبه بتجربة محمد علي حيث هو الصانع الوحيد والتاجر الوحيد.

المواطن المصري كان الخاسر الأكبر عبر عصور الملكية والدكتاتورية الجمهورية، فزاد فقرا فوق فقره

في تلك الحقبة كانت للجنيه قيمة وقدرة شرائية قوية، ويستذكر د. الدسوقي تلك الفترة فيقول: أنا تخرجت من الجامعة عام 1961 وعينت في الوظيفة عام 1962، وعندما كان يتوفر معي ربع جنيه عند ذهابي للعمل، أكون مطمئنا، فكان تكفيني أربعة قروش للمواصلات والشاي والقهوة في المكتب.

ويضيف الدسوقي: كان كيلو اللحم بـ 30 قرشا، وكانت هتافات المظاهرات التي نظمت عام 1977 ضد السادات ووزيره سيد مرعي بعد رفع الدعم عن بعض السلع (سيد بيه يا سيد بيه كيلو اللحمة أصبح بجنيه). واليوم كيلو اللحم أصبح بـ 110 جنيهات.

وهذا هو ما تؤكده د. سامية قدري أستاذة علم الاجتماع السياسي بقولها: كان كل المصريين -على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية- يلبسون زيا موحدا في المدارس، وكذلك الحقائب والقرطاسية وحتى الطعام في المدارس، وكانت جميعها صناعة مصرية وبأسعار زهيدة في متناول كل المواطنين.

مغامرات عبد الناصر.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

حافظت الطفرة الصناعية التي أحدثها عبد الناصر على قوة الجنيه الذي أصبح مقاتلا بارعا في سوق العملات، فكانت الدولة تدفع ديونها أحيانا بالجنيه المصري وأحيانا أخرى بمنتجات مصرية الصنع، وكانت العديد من دول العالم تعتبر تجربة الجنيه المصري جديرة بالدراسة والتقليد، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

هدم خط بارليف وانتصار حرب أكتوبر رفع معنويات الشعب المصري وسقف حرياته

دخل عبد الناصر في مغامرات غير مدروسة، وخرج منها خاسرا وحمل الدولة المصرية تكاليف الثأر منها أو الثأر لها، فقد شكلت حرب اليمن ضربة قاسمة للاقتصاد المصري، وكانت التقديرات تشير إلى تكبد مصر خسائر بحوالي مليون جنيه يوميا، تبعتها مغامرة خاسرة أخرى ثقيلة عام 1967 أمام إسرائيل فقدت على إثرها سيناء، وما تبع ذلك من إغلاق لقناة السويس، ومحاولة بناء جيش حطمت قوته العسكرية كليا.

بعد هذه النكسات أصبح الجنيه المصري في حالة إعياء كامل، ففقد الكثير من قوته ولم يعد بعدها أبدا إلى سابق عهده، ولم يمت عبد الناصر في سبتمبر/ أيلول 1970، بل مات بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، ليستلم الرئيس محمد أنور السادات دولة محتلة وجيشا منكسرا وخزانة خاوية، وكان الجنيه المصري يئن تحت تكاليف إعادة بناء القوة المسلحة واستكمال بناء السد العالي، وبناء حائط الصواريخ، مما رفع مديونية مصر من صفر عام 1952 إلى خمسة مليارات دولار عام 1970، واستقر سعر صرف الدولار بـ2.5 مقابل الجنيه المصري.

“القطط السمان”.. انفتاح السادات الذي أغرق مصر

كان التحدي كبيرا أمام الجنيه المصري مع حرب أكتوبر 1973، لكن مصر استطاعت أن تعبر القناة إلى الضفة الأخرى من سيناء، وأن تبدأ مفاوضات عودة الأرض، وكانت المعركة الأخيرة في مجد الجنيه، ليبدأ بعدها بالانحدار، فقد توجه السادات إلى الدول العربية طلبا للمساعدات والقروض التي استفادت حينها من ارتفاع أسعار البترول.

لكن القرار الأكثر غرابة كان قرار الانفتاح الاقتصادي عام 1974، الذي وصف بأنه انفتاح دون ضابط ولا رابط، فانفتح السوق أمام سلع استهلاكية أكثر جودة وأقل سعرا من المنتج المحلي، وفي مجتمع كان يعتبر ارتداء حزام من الجلد ترفا خاصا بالأثرياء فقط، أصبح مليونيرا من يفتح سوبرماركت بمفهومه الحديث مقابل محل البقالة التقليدي.

انفتاح السادات على العالم أنعش الاقتصاد المصري الذي ما لبث أن انتكس بسبب كامب ديفيد

سافر الآلاف من المصريين إلى دول الخليج بعد حرب أكتوبر وعادوا إلى مصر بعملات صعبة وثروات ضخمة لتتغير ثقافة الطبقة الوسطى، طبقة ذات قدرات شرائية كبيرة وثقافة استهلاكية بحتة، وتشكلت طبقة من رجال الأعمال الذين كونوا ثرواتهم من استيراد السلع الاستهلاكية والكمالية ليتحولوا إلى ما أطلق عليه السادات اسم “القطط السمان”، حتى أن السادات نفسه صرح بأن من لم يغتني في عهده فلن يغتني أبدا، وأصبحت فقرة أسعار العملات الأجنبية فقرة أساسية في نشرات الصحف والتلفزيون، وأصبحت الشركات المصرية تتباهى بدفع أجور العاملين فيها بالدولار، وصارت تقدر قيمة العقارات على أساس العملات الأجنبية.

يعتبر الدمرداش أن “الطفرة التي حققتها مصر في الفترة من الثلاثينيات حتى ثورة 1952 التي وقعت فيها الحرب العالمية الثانية، كان سببها أن باب الاستيراد من أوروبا أغلق بسبب الحرب، فنشطت الصناعات الوطنية، وما حدث في السبعينيات هو العكس، فاتجهت الدولة إلى الاستيراد وتوقف الإنتاج، وأصبح الاقتصاد في معظمه ريعيا وليس إنتاجيا”.

“انتفاضة الحرامية”.. مشهد دامٍ وخزينة خاوية

انتظر الشعب المصري الحلم الأمريكي الذي وعد به السادات، لكنه وجد أمامه ظروفا اقتصادية لم يعهدها طوال فترة عبد الناصر، مثل ازدحام المواصلات وطوابير الخبز وأزمة السكن وارتفاع الأسعار بلا ضوابط، لذلك كانت زيادة السادات أسعار بعض السلع قرشا أو قرشين بمثابة صب الزيت على النار، فجوبهت هذه الإجراءات الاقتصادية بموجات غضب شعبي غير مسبوقة، تجلت في انتفاضة 17 و18 يناير/ كانون الثاني عام1977 ضد قرار السادات رفع الدعم عن الخبز، وهي التي سميت بانتفاضة الخبز، مما دفع الرئيس للتراجع عن قراره، لكنه شن حملة اعتقالات واسعة في أوساط المثقفين وخصوصا اليساريين، وأطلق على الانتفاضة “انتفاضة الحرامية”.

بعد اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل 1978 قطعت الدول العربية علاقاتها مع مصر، وعاد مئات الآلاف من العاملين في الخارج، ليكتمل البؤس المصري من ارتفاع أسعار وتضخم وفقر وبطالة، ويتحول المشهد إلى اللون الدامي مع اغتيال السادات.

وقد شبه البعض عهد السادات بعهد الخديوي إسماعيل، حيث كانت الديون والبذخ غير المحسوب هي السمات الأبرز، فقد ترك السادات الخزينة المصرية تئن تحت وطأة 30 مليار دولار من الديون الخارجية، وأزمة في مجتمع أعلاه طبقة تمتلك كل شيء، وأدناه طبقة لا تمتلك أي شيء.

أيام مبارك.. من شابه أباه فما ظلم

كان الجنيه المصري كجثة تمشي على قدمين، ينتظر رصاصة الرحمة التي أنهت حياة السادات لتنهي ما بقي لديه من حياة، فقد جاء الرئيس العسكري ذو الخلفية الريفية، وربيب السادات الذي تعلم على يديه أصول اللعبة، فالسادات كان يعتقد أن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا، واستمر مبارك في سياسة الخصخصة وبيع المال العام، مما يعني سحب دور الدولة تدريجيا من قطاعات الدعم والصحة والتعليم، لتصبح الطبقات الفقيرة واقعة بين مطرقة ارتفاع الأسعار وسندان ضعف الأجور والقيمة الشرائية للجنيه.

بدأ مبارك عهده بعدد من المؤتمرات الاقتصادية التي تحاول جذب الاستثمارات الأجنبية، وعدد من المشاريع غير المدروسة، التي أنفق فيها مليارات من الجنيهات، وتعد استمرارا لمشاريع السادات نفسها، مثل مدينة السادات وتوشكا وترعة السلام.

عهد مبارك ركز على استقطاب السواح وخصخصة أملاك الدولة، فزاد الفقر وهبط سعر الجنيه

وكان أقصى طموح مبارك أن يتضاعف عدد العاملين في الخارج، ويزداد عدد السياح القادمين إلى مصر، مما يعني زيادة إيرادات العملة الصعبة، لكن انخفاض سعر البترول عام 1986 ألقى بآثاره على صحة الاقتصاد المصري، فانحدر سعر الجنيه المصري إلى 1.5 دولار عام 1988، ثم تساوى سعر الجنيه مع الدولار عام 1990، وانخفض لاحقا ليساوي الدولار 1.5 جنيه، وواصل انخفاضه بمنحدر سريع.

وللتدليل على سرعة انهيار قيمة الجنيه يقول أستاذ الاقتصاد د. محمد فؤاد: في أوائل الثمانينيات كنت أصرف الجنيه بـ 2.3 دولار، وكانت الشقة في أرقى أحياء القاهرة قيمتها حوالي 100 ألف جنيه، وهذه الشقة نفسها تصل قيمتها اليوم أكثر من 5 ملايين جنيه.

تزاوج المال والسلطة.. ميزان العرض والطلب يعبث بالجنيه

مع بداية الألفية الجديدة ترك نظام مبارك الجنيه لمتغيرات العرض والطلب، ومع قضاء مبارك على إرث عبد الناصر الصناعي كليا بزيادة عمليات الخصخصة واستبداله بنظام يعتمد على إيرادات قناة السويس والسياحة؛ أصبح الجنيه عرضة للهبوط مع أي تغير أو أزمة عالمية.

وكان من أبرز سمات عهد مبارك تزاوج المال والسلطة، مما أدى لظهور طبقة متوحشة من رجال الأعمال الذين سيطروا على كل شيء، وظهرت احتكارات ضخمة أكثر قسوة من النظام الاقطاعي في العهد الملكي، وتفشى الفساد في كل شبر من أرض مصر، حتى فاحت رائحته، فأصبحت الأحاديث الشعبية تتناول شائعات فساد مبارك وأبنائه ورجاله، حتى قيل إن مبارك يمتلك مليارات الدولارات المهربة في بنوك أوروبا، وإن علاء مبارك يشارك بنسبة في أي مشروع يقام على أرض مصر، وإن جمال مبارك قد اشترك في شراء ديون مصر وإعادة بيعها محققا أرباحا ضخمة.

لم يكن حسني مبارك يتصور يوما بأنه سيصبح بين ليلة وضحاها رئيسا لمصر خلفا للسادات

أدت هذه السياسات إلى انخفاض قيمة الجنيه أكثر حتى بلغت قيمة الدولار ستة جنيهات عام 2010، فارتفعت نسبة الفقر بين سكان مصر إلى 55%، ونسبة البطالة إلى 30%، وسيطرت نسبة 1% فقط على نصف ثروات مصر، لتصبح مصر واحدة من أكثر دول العالم فسادا.

ويتحدث الصحفي الاقتصادي حمدي الجمل عن واحدة من صور الفساد فيقول: ما حصل هو أن من لا يملك أعطى من لا يستحق، يكفي أن أشير إلى أن شركة اتصالات المحمول كانت مملوكة للدولة وكان فيها 70 ألف مشترك، وقد بيعت لرجل أعمال، أي أن الحكومة تنازلت عن مستقبلها في الاتصالات لصالح رجل واحد، وحسب ما يتداول فهذا الرجل باع الشركة بـ50 مليار جنيه، فهل اشتراها بمليار جنيه؟

السيسي.. ألا إن شر الناس أحمق مطاع في قومه

كان السؤال الذي يدور في ذهن كل من شارك في ثورة 25 يناير عام 2011 هو من أين استطاع مبارك، الموظف الحكومي ابن كفر المصيلحة أن يأتي بكل المليارات التي كان يمتلكها في بنوك خارجية، ولم يكن غريبا أن تتوالى أنباء هروب كبار المسؤولين ورجال الأعمال خارج مصر، ومن فشل في الهرب حوكم بتهم عديدة متعلقة بالفساد والتربح من وظيفته وإهدار المال العام.

وسرعان ما أصبح الصراع بين فئات تريد العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وثورة مضادة تهدف إلى تحويل الثورة إلى فوضى دموية، وفي النهاية نجحت الثورة المضادة، وخرج المصريون إلى الشوارع ليحتفلوا بسقوط الجنيه المصري، غير مدركين أنهم يشيعون أنفسهم.

بعد الانقلاب الذي قاده السيسي، انحدر سعر الجنيه إلى الحضيض وارتفعت المديونية إلى أرقام مهولة

فقد ارتفع الدولار في فترة وجيزة ليصل قرابة 9 جنيهات في السوق الرسمية، لكن السياسات النقدية المتخبطة للبنك المركزي، وقلة وفرة الدولار في البنوك أوجد سوقا بديلا للدولار يصل فيها سعره إلى أكثر من 13 جنيها، ويرتفع السعر كل يوم تبعا لمعطيات العرض والطلب، ومع إعلان الحكومة الحرب على السوق البديلة للدولار، وجد قطاع المستوردين والمتعلمين بالخارج أنفسهم دون غطاء نقدي من العملة الصعبة، مما زاد من غضب تلك الفئات على السياسات النقدية المتخبطة.

وقد أدت سياسات التخبط النقدي والاقتصادي إلى ارتفاع ديون مصر الداخلية إلى أكثر من 2.5 تريليون جنيه مصري في منتصف عام 2016، ومعها ارتفعت الديون الخارجية إلى مستويات غير مسبوقة وصلت لأكثر من 70 مليار دولار أمريكي، ولا تتوقف الدولة المصرية عن تلقي مليارات الدولارات على شكل قروض كل يوم، ليصل في النهاية حجم الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية إلى أقل من 18 مليار دولار معظمها من الودائع، بما لا يكفي أكثر من ثلاثة أشهر من حاجات مصر من الواردات.

وقد قرر البنك المركزي المصري الأربعاء 6 مارس/آذار 2024 السماح بتحديد سعر صرف الجنيه وفقا لآليات السوق، ما يعني  عمليا تراجع القيمة الرسمية للجنيه بنسبة 50%، إذ بلغ سعره بعد القرار نحو 45 جنيها أمام الدولار الأمريكي، بينما لم يكن يتجاوز حاجز الـ31 دولارا قبل قرار اليوم.

ففي نوفمبر 2016 كان البنك المركزي المصري أقر خطة صندوق النقد الدولي لتحرير سعر العملة كليا، ليصل السعر الرسمي في البنوك المصرية آنذاك إلى 18 جنيها للدولار الواحد، وظل السعر يرتفع كل يوم نظرا لندرة الدولار. وبالمجمل فقد الجنيه المصري خلال قرن أكثر من 4000% من قيمته.