القرن الأفريقي.. مهد البشرية وملتقى الجيوش وبلاد المجاعات والحروب الأهلية

لطالما ارتبطت دول القرن الأفريقي في أذهاننا، بمآسي المجاعة التي ضربت هذه المنطقة في فترات متعددة خلال السنوات الأخيرة، خصوصا الصومال وإثيوبيا. وكلنا نتذكر الصور الصادمة للأطفال الجياع التي جالت كل أنحاء العالم، وهزت معها مشاعر الإنسانية جمعاء.

ويقصد بالقرن الأفريقي جغرافيا تلك المنطقة الحاضرة في شرق القارة السمراء، حيث توجد حاليا دول الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا بحسب تصنيف جل المنظمات الدولية والإقليمية والسياسية. وتشبه هذه المنطقة شكل “قرن”، ومنه جاءت تسمية هذا الجزء الممتد من اليابسة في البحر الأحمر مرورا بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي حيث تقع هذه الدول.

وشكل الموقع المتميز للمنطقة عاملا مهما في إشعاعها منذ القدم، ومكنها من لعب دور استراتيجي وحيوي في التجارة الدولية، وجر عليها أيضا هذا الموقع أطماعا أجنبية متعاقبة إلى يومنا هذا، وكان وما زال سببا في اندلاع حروب وصراعات داخلية استمرت لسنوات، كما تأثرت المنطقة بأزمات جفاف قاسية، أدت إلى حدوث مجاعات ومآس إنسانية حقيقية.

واهتمت قناة الجزيرة الوثائقية بهذه المنطقة، وخصصت لدولها عدة أفلام نذكر من بينها “الصومال: القصة المنسية” و”الصومال.. ذاكرة الجوع”، وأيضا سلسة أفلام “إثيوبيا على الأقدام”.

وتجسد جل هذه الأفلام حجم المعاناة الإنسانية في هذه الدول الموجودة في أقصى شرق القارة الأفريقية، وتظهر في الآن نفسه الإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها بفضل طاقاتها البشرية، وموقعها المميز وأراضيها الخصبة، رغم تحديات المناخ وتوالي سنوات الجفاف.

فماذا نعرف إذن عن القرن الأفريقي ودول المنطقة الأربع؟ وما هي التحديات التي تواجهها هذه الرقعة الجغرافية وتحول دون إقلاعها المنشود؟ وما هي المميزات التي جعلتها على مر التاريخ محط أطماع الدول الكبرى والإقليمية؟

شبح المجاعة.. مآسي الجفاف تستوطن بلاد الصومال

عاد مجددا شبح المجاعة ليطل على دول المنطقة ونحن على مشارف توديع العام 2022، لتعود معه إلى الأذهان مشاهد مخيفة لموت آلاف الأبرياء، ولحالات سوء التغذية لدى الأطفال، ونفوق الماشية، وتلف المحاصيل الزراعية. وأشار برنامج الأغذية العالمي إلى ازدياد عدد المهددين بالمجاعة في القرن الأفريقي بحلول أيلول/سبتمبر 2022، وقد يصل إلى 22 مليون شخص.

كما أطلقت منظمة الأمم المتحدة تحذيرا من حدوث مجاعة وشيكة، خصوصا في بعض مناطق الصومال، بسبب تفاقم أسوأ موجة جفاف منذ 40 عاما، وهي نتيجة مباشرة لشح الأمطار للموسم الخامس على التوالي. وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 200 ألف شخص معرضون لخطر المجاعة في الصومال لوحدها، قبل أن يأتي دور إثيوبيا وكينيا على الأرجح.

وكانت آخر مجاعة خطيرة قد عصفت بالصومال عام 2011، وأودت بحياة أكثر من ربع مليون شخص، معظمهم من الأطفال. ويتوقع خبراء أن يكون وقع هذه أشد بسبب تداعيات الأزمة الصحية المرتبطة بكوفيد 19، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ونقص الحبوب بسبب الحرب في أوكرانيا. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما لا يقل عن 70% من الصوماليين البالغ عددهم نحو 14 مليونا يعيشون حاليا تحت خط الفقر.

وتزيد الصراعات التي لا تتوقف في المنطقة الطين بلة، فالصومال يعيش على وقع أزمات سياسية مستمرة طيلة ثلاثة عقود من الزمن، تسببت مرات عدة في تعليق المجتمع الدولي لمساعداته المالية، حتى أن الخلافات السياسية باتت صفة ملازمة للحكومات الصومالية المتعاقبة. كما تواجه البلاد منذ 15 عاما على الأقل، هجمات دامية واعتداءات تشنها حركة الشباب المتطرفة، مما يعوق وصول المساعدات الإنسانية، ويصعب مهمة المنظمات الأممية مثل برنامج الأغذية العالمي.

نزاع “التيغراي”.. فتيل الحرب يشتعل مجددا في إثيوبيا المتقلبة

تشغل إثيوبيا -إلى جانب الصومال- المساحة الأكبر من منطقة القرن الأفريقي، وهي الدولة العاشرة أفريقيا من حيث المساحة، إذ تبلغ مليونا و140 ألف كيلومتر مربع، وهي ثاني دولة أفريقية من حيث عدد السكان بعد نيجيريا.

وتعيش إثيوبيا حاليا تجددا للصراع المستمر منذ حوالي عامين في شمال البلاد بين جبهة تحرير شعب “التيغراي” والجيش الإثيوبي، مما جعل نصف عدد سكان إقليم “تيغراي” -الذي يقطنه حوالي 5.5 ملايين نسمة- في حاجة ماسة للغذاء بحسب الأمم المتحدة. ويعيد هذا الصراع إلى الأذهان أحداثا تاريخية فارقة عاشتها إثيوبيا (أو بلاد الحبشة حسب التسمية القديمة)، منذ فترة الإمبراطورية الملكية التي حكمت البلاد لمدة قرون، قبل أن يطيح بها الجيش عام 1974.

وشهدت هذه الدولة الأفريقية صراعات واقتتالا داخليا لسنوات، وقد شكل العام 1991 حدثا مفصليا في التاريخ الإثيوبي الحديث، إذ شهد انتصارا للمتمردين في شمال البلاد من إريتريا وتيغراي، مما مهد الطريق أمام استقلال إريتريا عن إثيوبيا بعد أن كانت أحد أقاليمها. وسيصبح هذا الاستقلال فعليا سنة 1993 بعد استفتاء شعبي، مما جعل أديس أبابا (عاصمة إثيوبيا) بدون واجهة بحرية للأبد.

ومكن انتخاب آبي أحمد رئيسا للوزراء في إثيوبيا سنة 2018، من انفتاح أكبر لهذا البلد ولعبه لأدوار إقليمية مهمة في السلام والتعاون في القرن الأفريقي، وجعل الأضواء تسلط عليه من المجتمع الدولي. خصوصا بعد جهوده في سبيل المصالحة الوطنية، من خلال إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفتح الباب أمام عودة المعارضين من الخارج وتطوير المؤسسات الأمنية والعسكرية.

وكانت جهود آبي أحمد التي مكنت من وضع حد للحرب مع إريتريا، أحد أهم الإنجازات التي تحققت في عهده، ومكنته من الحصول على جائزة نوبل للسلام. رغم أن عودة النزاع المسلح إلى إقليم “تيغراي” تهدد بنسف هذه الجهود، بالإضافة إلى المشاكل الإقليمية التي قد يفاقمها بناء الحكومة الإثيوبية لسد النهضة الأكبر على نهر النيل، ويثير حفيظة دول المصب مصر والسودان القلقتين على حصتهما من المياه.

أزمات متتالية… قطار النمو الأسرع في أفريقيا يتعثر

توصف إثيوبيا بأنها القلب النابض لمنطقة القرن الأفريقي، فهي واحدة من أقدم الحضارات المعروفة عبر التاريخ الإنساني، وهي من الدول القليلة التي لم تتعرض للاستعمار الغربي، رغم رضوخها للاحتلال الإيطالي لفترة قصيرة دامت 5 سنوات ما بين 1936-1941. كما تتميز بتنوع ثقافي وقبلي واسع، فسكانها البالغ عددهم 100 مليون نسمة يتحدثون 80 لهجة، وينقسمون إلى مجموعات عرقية متنوعة من الأورومو والأمهرة والصومالية والتيغراي والسيداما وغيرها.

وساهم هذا التنوع الثقافي والإصلاحات التي اعتمدت منذ بداية الألفية الجديدة، في نهضة اقتصادية وتنموية حققتها أديس أبابا، لتصبح نموذجا أفريقيا بفضل التطور الكبير الذي شهده القطاع الزراعي، وخصوصا صادرات البن أو القهوة، أحد أبرز مصادر الدخل في الاقتصاد الإثيوبي. إلى جانب القطاع الصناعي، والثروات المعدنية وعلى رأسها الذهب، والمساعدات الدولية المهمة التي جعلت إثيوبيا أحد أسرع الاقتصادات نموا في أفريقيا، بعد أن كانت سنة 2000 ثاني أفقر دول العالم. وقُدر المتوسط السنوي لنمو الاقتصاد الإثيوبي بحوالي 10% خلال الفترة (2004-2014).

وواصلت أديس أبابا تسجيل مستويات نمو عالية إلى غاية سنة 2019، حين قدر البنك الدولي نسبة النمو ب 6% من إجمالي الناتج المحلي. لكن هذا التطور الاقتصادي تعرض لنكسات بدأت بعد جائحة كوفيد 19 في 2020، بتجدد النزاع حول إقليم تيغراي، وتزامنه مع التقلبات المناخية القاسية والجفاف الحاد الذي ضرب المنطقة. ثم جاءت أزمة التضخم العالمية في 2022، وغلاء أسعار المواد الغذائية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ليسجل النمو الاقتصادي تباطؤا ملحوظا قد يخرج معه قطار التطور عن مساره الذي سلكه طيلة عقدين من الزمن.

إريتريا وجيبوتي.. خلاف الماضي يجثم على أحلام المستقبل

شكلت الصراعات القبلية والحدودية ورما خبيثا أنهك منطقة القرن الأفريقي منذ سنوات، وما زال حتى يومنا هذا، فالدول الأربع المشكّلة لهذه المنطقة خاضت حروبا فيما بينها، بسبب هذه الإشكاليات الحدودية، وتعود جذور بعضها إلى حقبة ما قبل الاستقلال.

مصالحة تاريخية بين إريتريا وجيبوتي

وكان من بين أبرز هذه الصراعات ذلك الذي اندلع سنة 2008، بين أريتريا وجيبوتي أصغر دول المنطقة. ونشب بعد توترات بدأت منذ 1996 بسبب الخلاف حول جزيرة الدميرة في مضيق باب المندب، قبل أن تتدخل قطر في هذا النزاع، وتتوسط في توقيع اتفاق للسلام بين الطرفين عام 2010. لكن الصراع عاد ليتجدد في يونيو/حزيران 2017، تزامنا مع الأزمة الخليجية. قبل توقيع اتفاق تاريخي عام 2018 ساهمت فيه إثيوبيا والسعودية، لتعود أسمرة وجيبوتي لتطبيع العلاقات بينهما بعد عشر سنوات من النزاعات.

ورغم هذا التقدم الواضح نحو تجاوز الصراعات الحدودية والخلافات المزمنة بين إريتريا وجيبوتي، فإن فرص التعاون بين الدولتين ما زالت محتشمة، خصوصا في ظل الاختلاف في المصالح الاستراتيجية بين البلدين، فكل دولة تحاول تحقيق مصالحها الخاصة لنفسها. فجيبوتي تبقى أكثر انفتاحا على الغرب، وتستضيف قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية ويابانية، وتستغل موقعها كممر بحري رئيسي لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية. وتعتبر جيبوتي أكثر دول العالم استضافة للقواعد العسكرية الأجنبية، ويدر عليها ذلك مبلغا ماليا سنويا يقدر بـ180 مليون دولار.

في المقابل تبقى إريتريا أكثر ميولا نحو الانغلاق، رغم كونها واحدة من أكثر دول العالم اعتمادا على الدول المانحة للمساعدات، لكن العقوبات الأمريكية المفروضة عليها منذ سنوات أضرت بها كثيرا، وهو ما يتحجج به رئيس البلاد “أسياس أفورقي”، ويقول إن واشنطن، كانت دائما حليفا لعدوه السابق إثيوبيا، وساهمت في عرقلة نمو وازدهار إريتريا. كما أظهر “أفورقي” ميولا في الفترة الأخيرة نحو الحلف الروسي، خصوصا بعد بداية الحرب في أوكرانيا، وتصويت أسمرة لوحدها في القارة الأفريقية ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب روسيا بسحب قواتها العسكرية من أوكرانيا.

جيبوتي.. زحام القواعد العسكرية لجيوش العالم

ليس غريبا أن تتنافس الدول الكبرى على مد نفوذها إلى منطقة القرن الأفريقي، وتقوية وجودها العسكري بالأساس، وذلك من خلال إقامة قواعد عسكرية في هذه الرقعة الجغرافية التي تشكل إحدى أكثر مناطق العالم اضطرابا وتعقيدا. كما أن موقعها الاستراتيجي المطل على باب المندب شكل نقطة رئيسية لعبور التجارة العالمية عبر البحر الأحمر، ويمر من خلال هذا الممر الضيق نحو 5 ملايين برميل نفط يوميا، جله متجه إلى أوروبا والولايات المتحدة، وتشهد أيضا سواحل الصومال وجيبوتي مرور ما يعادل 14% من حجم التجارة العالمية بقيمة تقدر بـ1.8 تريليون دولار أمريكي.

وحوّل هذا الموقع الجغرافي المميز المنطقة منذ القرن الـ15 إلى مسرح للتنافس الغربي على النفوذ والثروة ومراكز القوة والحضور، وتحول هذا التنافس في مرات متعددة إلى صراعات واقتتال وعلميات تسليح لمجموعات قبلية. وأدى افتتاح قناة السويس عام 1869 إلى تعاظم أهمية البحر الأحمر كممر حيوي للسفن، فازدادت بذلك الصراعات على منطقة الحبشة، وسعت كل دولة إلى إيجاد موطئ قدم لها، وكانت البداية بالدول الأوروبية الاستعمارية، وهي أساسا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا التي تقاسمت النفوذ وسيطرت على جل الموانئ البحرية.

وشكلت الفترة ما بين 1955-1962 ذروة انخراط الولايات المتحدة وروسيا والصين في المنطقة وتقديمها الدعم العسكري لدولها، وبقي التنافس بين هذه الدول مستمرا طيلة سنوات بشكل مباشر وأحيانا بالوكالة.

ورغم فشل تجربة التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الصومال سنة 1993، فإن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، ستعيد واشنطن بقوة في إطار سياستها الجديدة لمحاربة الإرهاب، وستقوم اعتبارا من 2002 بتأسيس “قوة المهام المشركة”، وستعمل من متن حاملة الطائرات “يو أس أس ماونت ويتني” في خليج عدن، قبل أن تمنحها جيبوتي قاعدة “كامب ليمونيه” التي ستشكل بعد ذلك نواة القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” التي أعلن عن إنشائها سنة 2007 الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش الابن”، قبل أن يتبعها ما لا يقل عن 6 قواعد عسكرية لحلفاء واشنطن، وتمثيل لحوالي 5 جيوش أخرى دون قواعد.

طريق الحرير.. مسرح كبير لصراعات القوى العظمى

أعادت القاعدة العسكرية التي أقامتها الولايات المتحدة الأمريكية في جيبوتي، التنافس بين القوى الكبرى في منطقة القرن الأفريقي إلى أوجه، ولو بصيغ مختلفة في الشكل رغم تشابهها في الجوهر، وهو خدمة المصالح الخاصة لكل دولة، وأطماعها التوسعية في أفريقيا، فالولايات المتحدة تقدم نفسها كراعية للسلام والأمن الدوليين، من خلال محاربة الجماعات الإرهابية التي نقلت أنشطتها إلى العمق الأفريقي بعد ازدياد الضغط عليها في منطقة الشرق الأوسط والعراق وسوريا، بالإضافة إلى القضاء على التهديدات الجديدة المرتبطة بالقرصنة البحرية، وحرب اليمن.

أما الصين فقد حولت اهتمامها من دعم الحركات التحررية في أفريقيا في خمسينيات القرن الماضي، إلى سياسة تتبنى في ظاهرها التركيز على المصالح الاقتصادية والتعاون المتبادل والاستثمار في مشاريع بنى تحتية، ومنح قروض بفائدة منخفضة، لكن عينها تركز على ضمان نجاح مشروعها الاستراتيجي “الحزام والطريق” الذي تريد من خلاله إحياء فكرة طرق الحرير القديمة.

وتملك بكين أيضا قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ 2017، وقد تحولت بسرعة إلى المستثمر الأول والشريك الاقتصادي الأبرز لدول المنطقة، من خلال مشاريع تنموية واستثمارية اقتصادية وتجارية بمليارات الدولارات. ومولت خط السكك الحديد الرابط بين العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وميناء جيبوتي، ليمر من خلاله نحو 95% من السلع الإثيوبية.

وقد بلغ التنافس الصيني الأمريكي أشده في السنوات الأخيرة، وتروج الصين بأن نموذجها التنموي غير المشروط سياسيا هو الأنسب لدول المنطقة، عكس النموذج الأمريكي المرتبط بترسيخ الديمقراطية وحماية الحريات واحترام حقوق الإنسان.

وشكل ملف الصراع الإثيوبي مع جبهة تحرير شعب التيغراي تحديا مزدوجا للدولتين المتنافستين، فبسبب هذه الحرب توترت العلاقات بين الولايات المتحدة وحليفها التقليدي إثيوبيا، إثر محاولة واشنطن خلق توازن بين أطراف النزاع، بينما عبّرت بكين عن تخوفها من اتساع نطاق الحرب وتحولها إلى حرب أهلية، وهو ما قد يضر بمشاريعها الاستثمارية الكبيرة في إثيوبيا والمنطقة.

وتحاول روسيا أيضا وسط هذا الوضع المضطرب إيجاد مكان لها، خصوصا بعد 2015، مستغلة علاقاتها الجيدة مع الصين. ووقعت موسكو في 16 يوليو/تموز 2021 اتفاقية عسكرية مع إثيوبيا، لكنها لم تستطع حتى الآن بناء قاعدة عسكرية، مكتفية بالمشاركة في مكافحة القرصنة والإرهاب بالقرب من باب المندب منذ العام 2008. رغم تواتر معلومات قبل بداية الحرب على أوكرانيا عن استعداد إريتريا لمنح روسيا قاعدة على البحر الأحمر.

القوى الإقليمية.. الوافدون الجدد يكشرون عن أنيابهم

لم تبق الدول الأخرى مكتوفة الأيدي أمام هذا التنافس الصيني الأمريكي على المنطقة، فالدول الأوروبية الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ما زالت تحظى بامتيازاتها في المنطقة، رغم تراجعها في السنوات الأخيرة لصالح الولايات المتحدة، ففرنسا مثلا تملك نفوذا لا بأس به في جيبوتي، إذ تحتضن مستعمرتها السابقة إحدى أكبر القواعد العسكرية الفرنسية في العالم، بينما ركزت بريطانيا اهتماماتها الرئيسية على السواحل، لتأمين حرية التجارة في البحر الأحمر.

ولا يخفى أيضا على أحد الدور الإسرائيلي في منطقة القرن الأفريقي، فدولة الاحتلال استغلت البعد الإيديولوجي لإقامة علاقات جيدة مع إثيوبيا، مكنتها من التغلغل في عمق هذه الدولة الاستراتيجية. وسرعان ما تطورت هذه العلاقات إلى المجالات الاقتصادية والسياسية، مكنت تل أبيب من تأمين تلبية احتياجاتها من المواد الطبيعية والمعادن التي تخدم صناعاتها المدنية والعسكرية.

إسرائيل توثق علاقاتها التجارية مع إثيوبيا

ويقول مراقبون إن إسرائيل استغلت وجودها في إثيوبيا لتحقيق أهداف أمنية بالأساس، مرتبطة بالسيطرة على الضفة الأخرى للبحر الأحمر لاعتمادها عليها في تجارتها مع أفريقيا وآسيا وأستراليا، ومحاصرة دول الخليج العربي، واليمن الذي يعاني من سطوة المتمردين المرتبطين بإيران، بالإضافة إلى خطط الدولة العبرية لاستغلال مياه النيل من خلال مشاريع زراعية.

وبرزت كذلك تركيا مع بداية الألفية الجديدة كإحدى القوى الإقليمية التي فطنت لأهمية الأسواق الأفريقية في ازدهار اقتصادها، باعتبارها سوقا واسعا لصادراتها المختلفة، وركزت أنقرة على منطقة القرن الأفريقي نظرا لموقعها الاستراتيجي الذي كان في صلب اهتمامات الأتراك منذ فترة الحكم العثماني، وتراه اليوم بوابة رئيسية لسلعها بعد سياسة الانفتاح التي تبنتها تركيا عام 1998.

واستطاعت أنقرة في ظرف وجيز أن تصبح ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين، بحجم استثمارات يقدر نحو 2.5 مليار دولار. كما رفعت حجم التبادل التجاري مع جيبوتي إلى 255 مليون دولار عام 2019، بعد أن كان في حدود 96 مليونا قبل 5 سنوات، وانتقل مع الصومال إلى 206 ملايين دولار، مقابل 150 مليون في 2017.

شبه الجزيرة العربية.. سباق إلى الضفة الأخرى لضمان الاستقرار

ترتبط منطقة شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، ارتباطا وثيقا بمنطقة القرن الأفريقي، فالمنطقتان المتقابلتان تطلان على البحر الأحمر، ورغم أن الدول العربية تمتلك 84% من سواحله، فإن من الصعب عليها السيطرة عليه بأكمله، بسبب الوجود المكثف للقواعد العسكرية والأساطيل الأجنبية، وخصوصا مضيق باب المندب الخاضع فعليا للسيطرة الأمريكية.

وبما أن القرن الأفريقي يضم دولتين عربيتين هما الصومال وجيبوتي، فإن فرص تطوير العلاقات معهما تبقى أكثر منطقية، بحكم القواسم المشترك من اللغة والدين والثقافة، وهذا ما تريد دول الخليج استغلاله لصالحها، في ظل التنافس المحموم على المنطقة.

وقد زادت الحرب في اليمن من الأهمية الجيوستراتيجية للبحر الأحمر، وسرعت من جهود الدول الخليجية لتأمين حلفاء في هذه الرقعة الجغرافية التي تكاد تحضن الجزيرة العربية. وتحظى الإمارات العربية المتحدة بحضور مهم في الجانبين العسكري والاقتصادي، من خلال حصولها منذ سنوات على امتيازات لتشغيل عدد من الموانئ المهمة عبر شركتها “موانئ دبي”. لكن دورها تراجع في السنوات الأخيرة، خصوصا بعد قرار جيبوتي في 2018 إنهاء عقدها الذي كان يجمعها مع “موانئ دبي” من جانب واحد، وذلك قبل انتهاء مدة العقد الخاص بتشغيل محطة “دوراليه” للحاويات الممتد إلى 2036.

وعملت السعودية من جهتها على إبعاد إيران ما أمكن عن القرن الأفريقي، وهي تعمل بتنسيق مع الولايات المتحدة لتأمين البحر الأحمر، خصوصا بعد انتفاضات الربيع العربي. وركزت الرياض في ممارسة تأثيرها بالأساس على جيبوتي، مستغلة قدراتها الاستثمارية الضخمة، وتأثيرها الديني الكبير.

أما قطر فقد لعبت دورا محوريا في تثبيت الاستقرار في القرن الأفريقي المضطرب على مدى سنوات، خصوصا في جيبوتي والصومال، مع حرصها على خلق توازن استراتيجي وسياسي، وساهمت الدوحة بالأساس في تسوية النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا، رغم ارتدادات الأزمة الخليجية بعد سنة 2017، التي أثرت نسبيا على العلاقات الثنائية مع جيبوتي، قبل أن تعود فيما بعد إلى طبيعتها.

كما تحظى قطر بتقدير كبير في الصومال، بفضل مؤازرتها لهذا البلد خلال أحلك فتراته، من خلال تقديم مساعدات إنسانية ودعم مالي، وبتمويل بناء طرق رئيسية، كما تكفل صندوق قطر للتنمية بتأهيل وإعادة بناء عدد من المباني الحكومية، وشمل الدعم القطري أيضا جهود الأمم المتحدة وهيئة التنمية الحكومية في شرق أفريقيا “الايغاد” من أجل دعم السلام والاستقرار في المنطقة.

ومما لا شك فيه أن هذا الاهتمام العالمي بالقرن الأفريقي له ما يبرره من الناحية الاستراتيجية، لكن الذرائع التي تقدمها القوى الكبرى من أجل تكثيف وجودها العسكري ليست دائما مقنعة في نظر مراقبين. ويبقى مواطنو هذه المنطقة تائهين وسط حالة الفوضى والصراعات الداخلية والهجمات الإرهابية، وقسوة الطبيعة وأزمات الجفاف المتتالية، وأملهم في نهضة تنموية تمكنهم من تولي زمام أمورهم بأنفسهم، بدل التدخلات الأجنبية التي عمرت طويلا، وطبعت تاريخ هذه الرقعة الجغرافية التي يعتقد بأنها مهد البشرية.