“تحلية المياه”.. الرهان على البحار لدرء العطش

مراد بابعا

أصبح العطش تهديدا حقيقيا لملايين الأشخاص حول العالم، خصوصا في المناطق التي تعاني قلة الأمطار وندرة المياه السطحية والجوفية. فالزراعة أصبحت اليوم مستحيلة في مناطق كانت إلى عهد قريب أراض زراعية، وأصبح كابوس الجفاف يخيم عليها سنة بعد أخرى، وبات البحث عن حل لهذه الإشكالية اليوم في بعض المناطق الجافة وشبه الجافة، تحديا وجوديا للبشر وللأجيال القادمة.

 

ويعاني نحو 785 مليونا على مستوى العالم من صعوبة الوصول إلى مصادر نظيفة لمياه الشرب، وذلك وفقا لمنظمة الصحة العالمية، وهي مشكلة تزداد سوءا مع استمرار أزمة المناخ الحالية وارتفاع درجة حرارة الكوكب.

ولا يمكن في ظل هذا الوضع المخيف عدم التفكير في كيفية استغلال المياه المالحة التي تشكل نحو 97% من المياه على كوكب الأرض، فالمياه المالحة يمكن أن تكون حلا لجزء من هذه المشكلة إذا وجدت تقنيات فعالة لجعلها مناسبة وآمنة للاستخدام البشري.

 

وهذا هو الدور الذي تلعبه محطات تحلية مياه البحر المنتشرة في عدد من دول العالم، ومن بينها الدول العربية التي تعتمد كثيرا على التقنية بسبب ظروفها المناخية الصعبة وموقعها الجغرافي.

فكيف تطورت تقنيات تحلية مياه البحر؟ وهل أصبحت اليوم قادرة على تحقيق التوازن بين إنتاجها من المياه المحلاة وكلفتها الباهظة؟ وما مدى قدرة هذه الوسيلة على إنقاذ بعض المناطق من شبح العطش؟

تحلية مياه البحر..  الحاجة أم الاختراع

ظهرت حاجة الإنسان إلى تحلية المياه منذ القدم لرغبته في استغلال مياه البحار في المناطق الجافة، وأيضا بسبب التركيبة المعدنية لتربة بعض المناطق القارية التي تسبب ملوحة المياه الجوفية، وتحول دون استعمالها في الشرب أو الزراعة. وكان تفكير سكان هذه المناطق ينصب على طرق إزالة الملح من المياه، والحصول على مياه عذبة.

وكانت طريقة التبخر التي استعملها بعض البحارة اليونانيين في القرن الرابع قبل الميلاد، من أقدم تلك الطرق، وقد وصفها الفيلسوف اليوناني أرسطو في إحدى كتاباته، وكذلك فعل فيما بعد في القرن الثامن الميلادي العالم والفيلسوف العربي جابر بن حيان المعروف بأبي الكيمياء العربية، حين وصف بدقة عملية تقطير الماء المالح باستخدام إناء زجاجي خاص، وظلت هذه المحاولات محدودة، ولم تكن قادرة على توفير كميات مهمة من الماء.

في الخليج، تم إنشاء 550 محطة للتحلية بين عامي 2000 و2019 بتكلفة 33 مليار يورو

 

وشكلت سنة 1869 تاريخا فارقا في عمليات التحلية، إذ شهدت بناء أول محطة تحلية في العالم من قبل الحكومة البريطانية، وذلك في مدينة عدن باليمن، لحاجتها إلى تزويد السفن المتوقفة في ميناء البحر الأحمر بالماء العذب، واعتمدت بريطانيا في ذلك على جهاز حصل لديها على أول براءة اختراع في هذا المجال.

ومنذ ذلك التاريخ شهدت هذه التقنية تطورات عديدة، وأصبح عدد محطات تحلية مياه البحر حول العالم يتجاوز 18 ألف محطة تنتج أكثر من 95 مليون متر مكعب من المياه المحلاة يوميا، وتستفيد منها بالأساس المناطق المطلة على البحار والمحيطات، وتعتمد على تقنيات ومصادر طاقة مختلفة.

تقنيات متعددة.. لكن الهدف واحد

تطورت تقنيات تحلية مياه البحر في السنوات الأخيرة بشكل كبير، وأصبحت العملية أسرع وأقل كلفة بالاعتماد على طريقتين تمكنان من إزالة الملح من الماء:

الطريقة الأولى هي الأقدم على الإطلاق وتعتمد التقطير متعدد المراحل من خلال تبخير مياه البحر المالحة، وإعادة تكثيفها للحصول على المياه العذبة. وتعتمد هذه التقنية على آلات ضخمة للقيام بالعملية، وتتطلب استعمال الطاقة بشكل كبير من أجل رفع حرارة المياه إلى درجة التبخر، وهذا ما يفسر استعمالها بكثرة في الدول المنتجة للنفط، رغم المجهود الذي بذل للتقليل من الكلفة الطاقية لهذه التقنية.

 

الطريقة الثانية تسمى “التناضح العكسي” (Reverse Osmosis)، وتعتمد على تمرير الماء المالح بضغط محدد في أغشية ذات نفاذ نسبي تسمح فقط بمرور جزيئات الماء من خلالها، وتمنع تلك الأخرى بما فيها جزيئات الملح.

وهكذا يتم الحصول على الماء العذب، وتحتفظ الأغشية بالجزيئات غير المرغوب فيها. وأصبحت هذه التقنية المستعملة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي هي الرائجة حاليا بفضل كلفتها المنخفضة، وتمثل نحو 65% من منشآت تحلية المياه حول العالم.

كلفة التحلية.. طاقات نظيفة تحل الإشكال

بات الطلب على الماء في بعض الدول المعرضة لخطر الإجهاد المائي يفوق العرض الذي توفره الأنهار والبحيرات والسدود وجوف الأرض، ولم تعد الأمطار والثلوج قادرة على تعويض الاستغلال السنوي لهذه الموارد، وذلك بسبب الانفجار السكاني من جهة، والتغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الكوكب من جهة أخرى.

ولم يترك هذا الوضع هامشا كبيرا للاختيار بالنسبة للمسؤولين، فإما الاستثمار في التحلية أو العطش، وهذا ما يفسر الإقبال على التقنية رغم كلفتها المرتفعة، وأنفقت مثلا دول الخليج مجتمعة نحو 33 مليار يورو من أجل إنشاء 550 محطة للتحلية بين عامي 2000 و2019.

يقوم مبدأ تحلية مياه البحر على تبخير الماء المالح ثم تكثيفه مرات عديدة للتخلص من الأملاح العالقة فيه

 

وتستفيد دول الخليج من كونها دولا منتجة للنفط والغاز اللذين يُستغلان لتوليد الطاقة اللازمة لتشغيل هذه المحطات، وهو ما ينعكس إيجابا على كلفة إنتاج المياه الصالحة للشرب، وهو ما لا تستطيع دول أخرى تحمله.

لكن ظهور الطاقات المتجددة في السنوات الأخيرة شجع دولا غير نفطية على خوض هذه التجربة، إذ أصبح اللجوء إلى هذه الطاقات النظيفة لتشغيل محطات تحلية مياه البحر بديلا ناجعا، لأنه أقل كلفة وأخف ضررا على البيئة.

وسجلت إحدى محطات التحلية الحديثة في السعودية رقما قياسيا لأقل محطة تحلية استهلاكا للطاقة في العالم بـ2,27 كيلو وات/ساعة لكل متر مكعب من المياه المحلاة، مع العلم أن محطات الحلية التقليدية تستهلك ما بين 40 و90 كليو وات/ساعة من الطاقة الحرارية من أجل الحصول على متر مكعب واحد من المياه العذبة.

تحلية المياه.. العرب ينتجون 50% عالميا

يكفي أن نعلم أن 60% من الموارد المائية العذبة في العالم تتركز في عشر دول فقط، لندرك مدى التفاوت الصارخ الحاصل في توزيع الولوج إلى الماء بين مختلف الدول والمناطق، ويعاني بسبب هذا الوضع 29 بلدا من نقص شديد للموارد المائية، وتوجد هذه الدول أساسا بأفريقيا والشرق الأوسط.

ويعاني سكان الدول العربية من صعوبات الوصول إلى المياه. ولا يتجاوز نصيب الفرد العربي من الماء العذب سنويا 800 متر مكعب، وذلك بحسب إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، وهو نصيب في طريقه لمزيد من التراجع ليصل إلى 667 مترا مكعبا سنة 2025.

وتعاني من مثل هذا الوضع جل الدول العربية وخصوصا دول منطقة الخليج التي يقل فيها نصيب الفرد الواحد عن 500 متر مكعب في السنة، ولهذا لجأت هذه الدول إلى تحلية مياه البحر منذ نحو 40 سنة كخيار حتمي لمواجهة هذا الوضع، مستفيدة من إمكاناتها المادية الكبيرة القادرة على تحمل كلفة هذه العملية. ونجد مثلا قطر والكويت توفران مياه الشرب والمياه الموجهة للصناعة بنسبة 100%، وتوفره السعودية والإمارات وعُمان بنحو 60%.

واحدة من محطات تحلية مياه البحر في دولة قطر

 

وبسبب هذا التوجه الواضح نحو التحلية، أصبحت دول الوطن العربي منتجة لنحو 50% من المياه المحلاة في العالم، وتتصدر السعودية الدول المنتجة لأكبر كمية من هذه المياه في العالم، بنسبة تفوق 22%، أي ما يعادل 7.9 ملايين متر مكعب يوميا بحسب “المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة”، تليها الإمارات التي تمتلك أكبر عدد من مشاريع التحلية على المستوى العالمي بأكثر من 266 محطة، وتقوم حاليا ببناء محطات أخرى من أجل الوصول إلى تحلية 5.8 ملايين متر مكعب في اليوم بحلول عام 2025.

مخلفات التحلية.. هل تهدد البيئة؟

ما زال التحدي البيئي أكبر عائق أمام انتشار محطات تحلية مياه البحر، ويضاف ذلك التحدي إلى الكلفة المرتفعة لعملية التحلية رغم أن التوجه نحو الطاقات المتجددة والنظيفة فتح آفاقا رحبة للانتشار أكثر أمام هذه التقنية التي درأت العطش عن مناطق مهددة في العالم.

ويتمثل هذا التحدي البيئي في مخلفات التحلية ومصيرها في الطبيعة، فالعملية ينتج عنها بقايا ملحية يصعب التخلص منها بسهولة، فإعادة رميها في البحر يعني تهديدا حقيقيا لتنوع الأحياء البحرية بسبب ازدياد ملوحة البحر التي تصل في المتوسط إلى 3%.

وقد كشفت دراسة في 2019 أعدها معهد جامعة الأمم المتحدة للمياه والبيئة والصحة ومقره كندا، أن قرابة 16 ألف محطة لتحلية المياه موجودة حول العالم تنتج كميات أكثر من المتوقع من المخلفات شديدة الملوحة ومواد كيميائية سامة مثل الكلور والنحاس.

فمثلا يتطلب إنتاج 95 مليون متر مكعب من المياه الصالحة للشرب ضخ 142 مليون متر مكعب من المياه شديدة الملوحة في البحار كل يوم، وهو ما يتسبب في تقليل مستويات الأكسجين قرب محطات التحلية، وتغيير درجة حرارة النظام البيئي المحيط بها.

 

 

ويردّ باحثون على هذه التحذيرات بأنها مبالغ فيها، على اعتبار أن ازدياد الملوحة قد يكون مشكلة فقط في البحيرات الصغيرة أو الخلجان المغلقة، ويصعب أن يحدث ذلك بشكل مؤثر في البحار والمحيطات الشاسعة، على الأقل في الوقت الراهن، حيث تبقى مخلفات المصانع التي يلقى بها في البحر أكثر خطرا من مخلفات محطات التحلية.

وأثبتت العديد من الدراسات أيضا أنه يمكن معالجة هذه المياه الشديدة الملوحة قبل إعادتها للبحر، واستغلالها مصدرا للطاقة، كما أن هذه الأملاح والمعادن التي تفرزها عملية التحلية كالمغنيسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم، تصلح في مشاريع لتربية الأحياء المائية، أو لزراعة أنواع من الطحالب التي تستعمل غذاء للأسماك.