أرامكو.. حين تُرتَهن الأحلام داخل خزّان وقود

خاص-الوثائقية

“لم يُسمَحْ لنا بدخول أَي منشأة من منشآت أرامكو، سواء داخل السعودية أو خارجها، ولم نتمكن من التحدث إلى أي مسؤول في أرامكو أو في الإدارة السعودية”.. ترددت هذه العبارة أكثر من مرة من قبل فريق التصوير لهذا الفيلم الذي عرضته قناة الجزيرة بعنوان “أرامكو.. الصندوق الأسود”، والذي حاولت فيه الجزيرة سبر أغوار هذه الشركة الغامضة، وأسرار طرح فكرة بيع حصة من أسهمها للاكتتاب في البورصات العالمية.

ولكن استضافة هذا الفيلم لِطَيفٍ واسع من الخبراء الاقتصاديين المختصين في شؤون النفط والطاقة، وكذلك السياسيين المقربين من دوائر الحكم في السعودية، وطريقته الاستقصائية الرائعة في ربط الأحداث واستنتاج السيناريوهات المتوقعة، جعلت منه فيلماً استثنائياً بامتياز حاز حتى الآن على أكثر من مليونين ومئتي ألف مشاهدة على قناة الجزيرة في تطبيق يوتيوب.

 

أفكار جريئة.. أرقام غير منطقية

ثمة فكرة جريئة طرحها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي حول أرامكو، ففي رؤيته للسعودية عام 2030 يرى الأمير الشاب أن تكون نسبة ضئيلة من أسهم أكبر شركة عالمية للنفط ومحور الاقتصاد السعودي وإحدى أهم التابوهات للعائلة الحاكمة هناك والمقدرة قيمتها بتريليوني دولار؛ مطروحة للاكتتاب في أكبر البورصات العالمية في نيويورك ولندن.

تتساءل المؤرخة ومؤلفة كتاب “الشركة السعودية” (Saudi Inc.) إلين والد عما إذا كان هذا الطرح يخدم السياسات المالية للشركة، وما إذا كانت الشركة مستعدة لضبط معدلات النمو فيها حتى تظهر قيمتها السوقية الحقيقية بشفافية تامة أمام الرأي العام.

وتضيف إلين أن الشركة في الماضي كان لها إستراتيجية نمو طويلة الأجل، وكذلك عوائد طويلة الأجل، وذلك لأن سياستها كانت جني الأرباح لصالح البلد، أما اليوم، وبعد فكرة الاكتتاب العام فقد تغيرت نظرة المحللين الاقتصاديين للشركة، وصار لزاماً السؤال عن تقارير النمو الفصلية والسنوية للشركة، وعن خطط الاستثمار التي ليس من الضروري أن تكون فقط في صالح السعودية كدولة.

تملك السعودية 16% من الاحتياطي العالمي للنفط، وهي أكبر مُصدِّر للبترول في منظمة أوبك، ويعتمد اقتصادها بشكل شبه كامل على النفط الذي يمثل نصف إجمالي الناتج القومي للبلاد تقريباً، وتنتج شركة أرامكو واحداً من كل ثمانية براميل نفط في العالم كله، وهي الشركة الوحيدة في العالم التي يمكن أن تنتج برميل نفط بأقل من عشرة دولارات، ويعمل بها نحو 65 ألف موظف، ويستفيد منها بشكل مباشر أو غير مباشر مئات الآلاف إن لم يكن ملايين المواطنين السعوديين.

فإذا كان أداء الشركة حسناً بهذا الشكل، فما سبب التخلي عنها؟ سؤال طُرح على السيد جيم كرين خبير سياسات الطاقة، فأجاب: أعتقد أن هناك عدة عوامل تساهم في قبول هذا الطرح، فالسعودية أعلنت مراراً عن نيتها تنويع مصادر اقتصادها، وأرامكو هي مصدر الدخل الرئيسي الذي يساعد السعودية على التفكير في إيجاد أذرع أخرى لهذا الاقتصاد.

ولكن الخبير طرح تساؤلاً في المقابل قائلا: الأرقام التي تعلنها أرامكو عن احتياطي النفط في السعودية محيرة للغاية، فمنذ ثلاثين سنة والرقم 261 مليار برميل يتردد دون أي تغيير عن قيمة الاحتياطي النفطي، وذلك في الوقت الذي تغيرت فيه تقديرات عمالقة النفط مثل شل وإكسون موبل عن احتياطاتهما، وهو ذات الوقت الذي استخرجت فيه السعودية ما يزيد على 100 مليار برميل من احتياطياتها، لكن الرقم 261 مليار برميل لم يتغير.

 

الاقتصاد لا يدار بالعواطف

ترتكز رؤية 2030 على إحداث تغيير جذري في البنية السعودية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، فإعطاء بعض الحقوق للمرأة مثل قيادة السيارة وفتح دور سينما في المدن السعودية، كان الهدف منها إرسال رسائل تطمين للمستثمر الأجنبي لتغيير الصورة النمطية في مخيلته عن المجتمع السعودي، ولكن تلك الحملة الغامضة “لمكافحة الفساد” واحتجاز كثير من أصحاب المال السعوديين في الريتز كارلتون كان له أثر معاكس تماماً، فقد هربت رؤوس الأموال السعودية إلى الخارج، وأحجم المستثمر الأجنبي عن المجازفة بماله داخل السعودية، وكانت هناك زيادة الاقتراض السعودي وتأجيل طرح أسهم أرامكو.

ثم كانت جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي التي أماطت اللثام عن زيف ذلك الإصلاح الاجتماعي المزعوم، وبالتالي فقدت منظومة الإدارة السعودية مصداقيتها أمام العالم، وأشاح الرأي العام بوجهه بعيداً عن مزاعم الأمير بانخفاض معدلات القمع وإعطاء المزيد من المساحة للحرية وحقوق الإنسان.

يرى تشاد براونستين -وهو محلل استثمارات بترول- أن طرح بعض أسهم أرامكو للاكتتاب العام يعني أن يصبح الاحتياطي النفطي عرضة للتدقيق، وأن تصبح التفاصيل المالية للشركة تحت أعين العامة، والإفصاح عن كل صغيرة وكبيرة من حسابات الشركة عن السنوات الخمس أو العشر الماضية، وكشف أدق التفاصيل عن المصروفات الرأسمالية، وعن كل قرار أو شراكة تم عقدها.

 

ويتابع “الأمر أكثر تعقيداً مما يتخيلون، القرار موغل في الخطر”. ويشترك براونستين مع الكثير من الخبراء الذين تراودهم شكوك عميقة إزاء مستوى الشفافية السعودية في إعطاء أرقام وتفاصيل دقيقة في هذا السياق بدءاً من المديرين التنفيذيين في أرامكو ومروراً بوزير النفط وانتهاء برأس الهرم في السلطة، إضافة إلى أن الخبراء يشككون في مصداقية الشركة وقدرتها على إنتاج 12 مليون برميل في اليوم في حال مساهمة شركاء جدد في رأس مالها.

أما بعض المحللين السعوديين الذين تجرؤوا على دحض فكرة الاكتتاب وشككوا في الأرقام التي يرددها الأمير الشاب؛ فقد أصبحوا اليوم خلف القضبان بتهم عديدة تتراوح بين الخيانة والإرهاب وبلبلة الرأي العام. وليس عصام الزامل هو الوحيد بين هؤلاء، فقد تم اعتقاله بتهمة الإرهاب لمجرد أنه نشر تحليلاً اقتصاديا يفيد بأن الدولة لن تستفيد من أرباح أرامكو لعدة سنوات بعد طرح أسهمها للاكتتاب.

لا شك في أن الشركة في وضعها الحالي تلعب دوراً جيداً في إعطاء ثقل سياسي واقتصادي للسعودية في الإقليم والعالم، ويبدو هذا الدور واضح المعالم من خلال الدور الرئيسي والمحوري للسعودية في منظمة أوبك. ولكن المحير في الأمر أن هذه القدرات الهائلة والاحتياطي الكبير ومعدل الإنتاج اليومي الذي يفوق إنتاج عدة دول مجتمعة في أوبك ومنظومة التخزين الفائقة القدرة والبنية التحتية المتميزة؛ كل هذه العوامل لا يقابلها توجه ربحي في الشركة.

إنها تبدو شركة خدمية تقدم خدماتها بالمجان، وإذا نظرت إلى العلاقة المتميزة للسعودية مع الولايات المتحدة في مجال النفط وتأمين التدفق السلس إلى منظومات التخزين الأمريكية، فلا بد أن ترى بعين الريبة والشك خيوط مؤامرة تنسجها في الخفاء أيادي المتنفذين في البلدين. وليس أدل على ذلك من تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب بين الفينة والأخرى عن تعاونه مع السعوديين على إبقاء أسعار البترول في مستويات منخفضة، وتشجيعه أرامكو على اتخاذ خطوة الاكتتاب.

 

السجل الحقوقي والمجتمع الدولي

يقول تشاس فريدمان السفير الأمريكي السابق في السعودية “الأمور أصبحت أكثر تعقيداً في نيويورك بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001، ولهذا فأنا أحث السعودية منذ زمن على إرضاء أمريكا والاستثمار أكثر في بورصة نيويورك، لأن الولايات المتحدة لن تطلب ذلك صراحة. ولكن السياسيين أيضاً يثيرون نفس التساؤلات عن مصداقية الأرقام وكفاءة الأداء وأسواق المستقبل، بل إن السياسيين يزيدون في طرح أسئلة عن حرية الصحافة والديمقراطية وشفافية المساءلة وخضوع بيانات أرامكو وشخصياتها للاختبار الدقيق”.

تبقى معضلة الشروط القاسية للشفافية والإفصاح عن التفاصيل صارخة في وجه أصحاب القرار السعوديين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر ببورصتي نيويورك ولندن، ولكن نيويورك لديها استعداد للتنازل في بنود خاصة من أجل إبرام صفقة ضخمة كهذه، مع أن لندن كذلك أبدت اهتماماً متميزاً في هذا الخصوص.

ولكن حتى لو قبلنا جدلاً بأن قيمة الاحتياطي في أرامكو تصل إلى تريليونين أو ثلاثة تريليونات، فإن هذا لا يعفيها من التساؤلات التي يطرحها السوق من قبيل: ما هي أرباحك؟ كم هي منحنيات التراجع في الأداء؟ وما هي إستراتيجيات النمو لديك؟ وأي شيء من نسب النمو يمكن أن نضع لشركتك؟

لديك حرية أن تزعم كم هو ثمن شركتك، ولكن في النهاية فإن السوق هي من يحكم.

 

تملك شركة أرامكو أصولاً مالية عدا احتياطي النفط، فهناك مصافي تكرير في الصين وكوريا، وكذلك حقوق التنقيب والاستخراج في مناطق من العالم، ولها مرافق تخزين في اليابان، وتمتلك أكبر مصفاة بترول في أمريكا “موتيفا”، ولكن كل هذا لا يؤهل الرقم المطلوب لأن يكون صحيحاً.

تحاول السعودية أن يكون النفط سلاحها القوي ومصدر قوتها السياسية والاقتصادية، ولكن المؤشرات تدل على عكس ذلك، ففي كل مرة تستخدم السعودية النفط أداة ضغط فإن السحر ينقلب على الساحر وتبوء محاولاتها بالفشل.

وبالنسبة لعلاقاتها مع أمريكا فهي مسألة مصالح؛ كانت أمريكا بحاجة إلى النفط والسعودية تحتاج الحماية، والذي تغير اليوم هو أن أمريكا أصبحت منتجة للطاقة، ولم يعد بترول الخليج بتلك الأهمية السابقة لها، بينما زادت التحديات في وجه السعودية بعد هجمات سبتمبر وحرب العراق وأفغانستان وتنامي العداء للإسلام في الغرب، مما جعلها في موضع المحتاج وليس الند، ولم يخفِ ترامب في أكثر من مرة جنوحه نحو الضغط والابتزاز للقيادة السعودية، والتلويح بانهيار المنظومة السعودية لو رفع عنها غطاء الحماية الأمريكية.

إلى ذلك فإن السعودية تسيطر على إمبراطورية إعلامية هائلة، وتنفق عشرات الملايين من الدولارات على مراكز الأبحاث والجامعات ودور الفكر ودوائر صنع القرار العالمي، بل وتنفق أحيانا على بعض الحكومات من أجل تحسين صورتها في العالم وإعادة تشكيل الرأي العام والتغطية على الانتقادات الموجهة لسياساتها. فمن عشرة ملايين أنفقتها في 2016 زاد الرقم إلى 27 مليونا في بداية العام 2019، بيد أن هذه الملايين لم تفلح بعد في إزالة آثار جريمة مثل اغتيال خاشقجي أو أحداثٍ مثلما حصل في سبتمبر/أيلول 2001.

 

تحديات داخلية.. رقمٌ يصعب تجاوزه

يقول فريدمان “لا تقتصر المخاوف من طرح الاكتتاب الجزئي على العالم الخارجي، بل إن الشعب السعودي ينظر بعين الريبة إلى محاولة بيع حصة من أرامكو في البورصة، فهم يعتقدون أن عوائد هذا الطرح ستصب في جيوب الأمراء والأسرة الحاكمة ولن ينال الشعب منها شيئا، ناهيك عن المخاوف التي تساور الأجانب على الأرض السعودية”.

ويضيف: إن وعود الإصلاح السياسي والاجتماعي ليست مقتصرة على رؤية الأمير محمد بن سلمان، بل إن ملوك السعودية منذ الخمسينيات كانوا يطلقون مثل هذه المبادرات في كل مرة يواجهون فيها انتقادات عالمية، بل إن بنود الرؤية الحالية لـ2030 كانت قد صيغت في خمسينيات القرن الماضي على يد استشاريين من مؤسسة ماكينزي. ليبقى التساؤل مطروحا ومشروعا عن مدى صدقية القيادة السعودية في إحداث كل هذه التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحلول عام 2030.

ويخشى مراقبون من أن تبوء فكرة الاكتتاب بالفشل كما حصل مع محاولات مشابهة سابقة، فقد طُرحت في السابق أفكار لخصخصة أجزاء من شركات حكومية مهمة كما حصل مع الخطوط السعودية، ولكن ما حدث هو العكس؛ فقد أحكمت الحكومة قبضتها أكثر على هذه الشركات، وبالتالي فإن مصداقية الحكومة في تنويع مصادر الدخل التي تدعيها لا تزال محل ريبة.

ثم جاءت الحرب على اليمن، ولم ينتج عنها وقف التفكير في فكرة الاكتتاب فحسب، بل أحدثت ضائقة حقيقية في الاقتصاد السعودي منذ العام 2015، وزادت الضغوط الدولية على السعودية جراء الانتهاكات الفاضحة والجرائم. كما زادت الضغط على المواطن السعودي وهو يرى مئات الآلاف من العمالة الوافدة وعوائلهم تغادر البلاد، وتقلص الدعم على الوقود والمواد الغذائية وفرضت ضرائب جديدة أثقلت كاهل المواطن السعودي، ودفعت الحكومة للاقتراض من الخارج لأول مرة في تاريخها لسد عجز الموازنة.

“من الصعب الاستثمار بمبالغ هائلة في بلد يصعب ترويجه للمستثمرين”، هكذا يقول الخبير جيم كرين، ويلخص ذلك بأسباب منها، صعوبة الحصول على تأشيرات دخول، والبيروقراطية الإدارية في الوزارات والمؤسسات، وطريقة العيش في المجتمع السعودي.. هذه كلها تحديات للمغترب الذي يطمح في العمل والاستثمار في السعودية، خصوصاً إذا فكر في اصطحاب عائلته وتدريس أبنائه، إنه يختار عوضاً عن ذلك أن يكون في دبي أو أبو ظبي أو الدوحة مثلاً.

 

الواحد مقابل الكورال

بيد أن التحدي الأكبر يتمثل في الاندفاع اللامحدود للأمير الشاب في إدارة شؤون البلاد ومصادمة العقلية التقليدية للعائلة المالكة التي باتت تتحفظ على كثير من تصرفات هذا الأمير “الجامح” وطموحاته التي تتجاوز حدود الصبر والمشورة التي تعودت عليها الأجيال السابقة. بل إنه بات في صدام حقيقي مع موروثات الحكم الخليجي والعربي المبنية على الشورى واتخاذ القرار بعد الإجماع، والمبنية كذلك على إغاثة الملهوف وإطعام الفقراء والعدل بين الرعية، فهذه المعاني باتت في مهب الريح بعد استيلاء الأمير ابن سلمان على المقاليد الفعلية للحكم حتى قبل تتويجه ملكاً.

وبالعودة إلى السفير فريدمان فإنه يرى أن سمعة السعودية دولياً تضررت بشكل كبير في الفترة التي تولى فيها الملك سلمان وابنه مقاليد الحكم، فمن حرب اليمن إلى جريمة قتل الصحفي خاشقجي، ومن القلاقل الطائفية في البحرين إلى حصار قطر والفشل في سوريا، ومن تضرر العلاقات مع تركيا إلى إعادة روسيا إلى المنطقة لتلعب دوراً أكبر، إلى استعداء إيران والمنظمات التابعة لها، ويعتقد فريدمان بأن السعودية فشلت في هذه الملفات جميعها فشلا ذريعا.

وفي الخلاصة، فإن ابن سلمان إذا فشل في إقناع شعبه بالجدوى الحقيقية لبيع حصة من أرامكو، فإنه لن يستطيع أن يفرضها عليهم بالقوة. نعم إن نفسه تسول له أن لا أحد يستطيع الوقوف في وجهه إذا أراد شيئا ما، ولكن في النهاية فإن الشعب والطبقة العاملة هم أدواته في إنجاح خططه أو إفشالها، وإذا قال الشعب “لا” فلن ترضيه دور السينما، ولن تقهره قضبان الزنازين.