“أولاد حارتنا”.. رواية نوبل التي منعها السياسيون باسم الدين

 

سناء نصر الله

حازت رواية محفوظ “أولاد حارتنا” على اهتمام عربي وعالمي، وأثارت جدلا كبيرا واجه خلاله الروائي المصري سيلا عارما من الانتقادات.

كما واجه اتهامات بالكفر والإلحاد والزندقة وتجاوز الخطوط الحمراء، والتعدي على المقدسات الدينية والذات الإلهية، كما اعتبرت السلطات الرواية انتقادا وتعدّيا عليها وعلى دورها في إدارة الدولة.

أثارت الرواية ضجة كبيرة لم تثر لأي رواية قبل ذلك، وذلك لأنها قرأت على نحو مغاير لما أراده الكاتب كما قال فيما بعد عنها، وهي التي حصل بها على جائزة نوبل للآداب عام 1988.

تضم الرواية افتتاحية وخمس قصص، أولاها قصة أدهم وما وقع في عزبة الجبلاوي، وانتهت بطرده إلى أرض الحارة، بعد أن أوقع به أخوه إدريس تحت غضب الجبلاوي، وهو الأب المتجبر والقديم.

وحملت القصص الثلاث التالية شخصيات من الحارة وهم، جبل ورفاعة وقاسم الذين حاربوا الظلم وقضوا على الفتوّات (أصحاب الزعامات الأقوياء الذين يرجع إليهم لحل الخلافات).

 

عزف ذكي على وتر الأحداث والأسماء.. استخدام الرمزية الدينية

استطاع نجيب محفوظ أن يلعب في روايته بذكاء على الأسماء ودلالاتها. يقول الكاتب سيد الوكيل: كثير من شخصيات الرواية تحمل رمزيات دينية تعتبر في مجتمعنا من المحرمات التي لا يجوز المساس بها.

لقد رمز نجيب في روايته للذات الإلهية بشخصية الجد المتجبر الجبلاوي، وهذا ما جعل الناس يتهمونه بالكفر، يقول نجيب في روايته: هذا بيت جدنا، جميعنا أتينا من صلبه، عمره فوق ما يطمع أي إنسان أو يتصور، حتى ضرب المثل بطول عمره، وهو أصل حارتنا، وحارتنا أصل أم الدنيا مصر، أليس من المحزن أن يكون لنا جد مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا.

وترى أستاذة النقد عزة أن الكاتب في هذه الجزئية قصد الدين الذي سيطر على الناس أحقابا متتالية، وبرسالات سماوية متلاحقة.

وفضلا عن تشابه الأحداث بشكل متطابق مع القصص الحقيقية للأنبياء، فقد كان هناك توازن صوتي في الأسماء، فقد رمزت شخصية أدهم إلى أدم، وشخصية إدريس إلى إبليس، وشخصية قاسم هي شخصية رسول الله محمد واستقاها من لقبه “أبو القاسم”.

كما رمز لشخص سيدنا موسى بجبل، أما رفاعة فهو عيسى عليه السلام، وجاء اسمه من كونه رُفع إلى السماء. ويقول نجيب محفوظ نفسه مدافعا عن ما كتب: ليس في الرواية حملة على الدسّ ولا استهزاء بالأنبياء، بل هي قصة تحاول الربط بيت التاريخ والحاضر، وكأنها تكتب الحاضر بلغة تاريخية، أعتقد أني كنت في أغلب رواياتي التاريخية أرى الحاضر من خلالها وليس الماضي.

دفاع نجيب عن الرواية بأنها مجرد خيال لا يعني فيها ما فهمه الناس من كونها وصفت مجموعة من الرموز، لكن تلك الرموز شفافة للغاية، ولم تكن غامضة بل كانت واضحة، فقد ذكر الوقائع في قصة موسى عليه السلام، وحادثة الهجرة ودخول علي -الذي أسماه حسن في روايته- حِجر النبي صلى الله عليه وسلم.

انتصار العلم على الخرافة.. دفاع الكاتب عن روايته

يقول رئيس قسم اللغة العربية في جامعة طنطا حلمي القاعود: رمز نجيب محفوظ إلى السيدة خديجة رضي الله عنها بالمجنونة، وبما أنه اتخذ الرمز كأسلوب في روايته، وجب عليه مراعاة القراء المسلمين والترفع عن الأوصاف البذيئة والشتائم الفاحشة.

أما مدير تحرير مجلة الإبداع هشام أصلان فيرى أن من حق الكاتب أن يستوحي ما يشاء من قصص التاريخ ويستخدم بعض الخيال دون قصد الإساءة، فلقد استوحى نجيب روايته من الرسائل السماوية ليوصل فكرة مغايرة.

نجيب محفوظ.. ماذا كان يريد من كتابة روايته الجدلية “أولاد حارتنا”؟

 

ويوضح نجيب هذه الجزئية فيقول: لقد قالوا هذا.. هل سيدنا موسى كان يمشي حافيا؟ ويدخل الخمارة؟ ونسوا أني أتحدث عن الحارة وعن واحد من أبنائها، غاية الأمر أنه في تصرفاته يعكس عملا نبويا تاريخيا، وعندما أقول إنك أسد فإنما أقصد شجاعتك ولا أقصد أنك حيوان.

وأنهى الكاتب روايته بقصة عرفة الذي رمز إلى العلم، وهو من قتل الجبلاوي الذي يرمز للذات الإلهية، وهكذا ينتهي عصر الأديان وعصر الإيمان، ليبدأ عصر العلم الذي سيحل مشاكل العالم وصراعاته ومتاعبه الاقتصادية والاجتماعية.

يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد العوّا: إن انتصار العلم على الخرافة هو أمر واجب وطبيعي حث عليه الإسلام في مئات المواضع في القرآن والسنة، وأن ينتصر حامل العلم على حامل راية الخرافة فذلك أمر طيب في الرواية.

لكن عرفة عاش في نهاية المطاف صراعا وعانى من الاضطراب والهذيان والندم، وكأنه أراد أن يقول إذا وضع العلم مكان الدين لن يكون هناك راحة بال وأمان.

عبد الناصر.. استغلال الأزهر لمنع الرواية

ألف نجيب محفوظ روايته عام 1958 بعد انقطاع دام خمس سنوات عن الكتابة، وانتقل في روايته من الواقعية إلى الرمزية، وطلب وقتها من محمد حسنين هيكل نشرها في مجلة الأهرام، وبالفعل قام هيكل بقراءتها قراءة سياسية، ورأى أنها مثلت رموز النظام القائم في ذلك الوقت، لقد أدرك هذا جيدا ونشرها في حلقات يومية، قبل أن يبدأ الهجوم على الرواية.

بسبب تلك القراءات السياسية تنبه جمال عبد الناصر وتدخل الأزهر الشريف ووضعت الرواية تحت المجهر، وكان اللغط قويا عليها، واتصل الرئيس ناصر بهيكل، وبعد طول جدل ونقاش توصلا إلى تشكيل لجنة من الأزهر لدراسة الرواية لتقول كلمة الفصل فيها.

لجنة من الأزهر برئاسة الشيخ محمد الغزالي تفتي بحرمة تداول “أولاد حارتنا” لما فيها إساءة للذات الإلهية

 

 

قرأت اللجنة الرواية وكانت مكونة من الشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والدكتور أحمد الشرباصي، وكانوا جميعا من الأدباء ولهم أسلوب روائي مميز، وقد خرجوا ببيان مفاده أن الرواية تتعرض للذات الإلهية، وكان ذلك أول احتجاج رسمي عليها.

ويرى الناقد سيد الوكيل أن رجل الدين ليس أديبا ولا ناقدا، لكن للمفكرين والمثقفين رؤية مختلفة عن رؤية الأزهر ورجال الدين، بيد أن الدكتور العوا اعتبر أن كل أعضاء اللجنة من الأدباء، ولا يظن أنهم يحملون الأدب الرمزي على غير محمله، وقد منعت الرواية لأسباب سياسية وليست دينية يعلمها من أصدرها.

ألوهية فرعون.. “بحيث تصبح الطاعة عبادة”

السؤال الموجه للقارئ في الرواية يدور حول الوقف، فهل تنحازون إلى الفقراء الذين أُوقف الوقف لمصلحتهم، أم تنحازون لأولئك الأغنياء الذين يحاولون نهب الوقف والاستيلاء على خيراته؟

يقول نجيب في روايته: كيف آل بنا الأمر إلى هذا الحال، أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير جميع الناس، وما الذي جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء “الفتوات” المجانين؟ أما أهل الحارة فانقلبوا إلى ما كانوا عليه في الزمن الأسود بلا كرامة ولا سيادة، تنهكهم الفاقة وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات.

الشيخ عمر عبد الرحمن يبيح دم نجيب محفوظ وشاب يتولى المهمة لكنه يفشل في تحقيق الهدف

 

ويرى بعض النقاد أن الرواية تشير إلى الوضع السياسي في مصر، لكن بشكل خافت خشية من الرقيب السياسي، لأن الكاتب لم يكن رجلا صداميا ولم يرد خصاما مع النظام، لكنه يريد إيصال صوته.

ويرى حلمي القاعود أن الكاتب ليست لديه الجرأة على مخاطبة ضباط انقلاب يوليو/تموز 1952، لأن له سابقة مع عبد الحكيم عامر عندما فسروا بعض رواياته على أنها تنتقد النظام، وأصر عامر وقتها على اعتقاله لولا تدخل البعض ومنهم هيكل.

يقول نجيب محفوظ: إن الشيء الذي أثر على سلوكي وكتاباتي هو حقيقة الشخصية المصرية التي اختلفت كثيرا، وما يبحث عنه الشعب هو الأمان، ويتطلع للسلطة المركزية بشيء من التقديس، حتى أننا نجد من أسماء الفرعون على سبيل التبجيل (موزع المياه)، وهذه صفة مغروسة في الأصل وهي التدين، لأن فرعون قام بتأليه نفسه وجعلهم يعبدونه من أجل استتباب النظام بحيث تصبح الطاعة عبادة، وإلا من أين يمكن أن يأتي أمن مركزي.

وقد حملت ثلاث من روايات نجيب تلك الفكرة، حتى أنه استدعي إلى مبنى المخابرات الحربية، وجرى التحقيق معه على يد صلاح نصر.

ويقول محمد العوا إن الرواية ترمز إلى أحداث وقعت في مصر التي كان يديرها ضباط يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، وقد أخفي التحقيق مع نجيب وتستروا بالأسباب الدينية في منع الرواية.

جائزة نوبل.. كتابات وفتاوى تهدر دم نجيب محفوظ

انتهى العهد الناصري ولم ينتهِ الجدل حول الرواية، ولما حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل في الأدب تعالت الأصوات من جديد في تكفيره، وقد ارتكزوا على أن مانحي الجائزة أعجبهم تعبير الكاتب عن موت الإله بطريقة غير مسبوقة في المجال الروائي.

وظهرت كتابات إسلامية هاجمت نجيب وروايته ومنهم الشيخ كشك الذي قال: “إن شعب مصر رضي بالذل، لكنه لن يرضى أن يُطعن في دينه وفي نبيه”، وألف كتاب “كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا”.
وقد قام الشيخ عمر عبد الرحمن بإهدار دم نجيب محفوظ، وطالب أن يطبق عليه حد الردة، وربط بينه وبين سلمان رشدي مؤلف رواية آيات شيطانية.

في الوقت الذي حُرّمت فيه روايته ” أولاد حارتنا”، كرّم نجيب محفوظ بجائزة نوبل بسبب نفس الرواية

 

وفي عام 1994 تعرض نجيب لمحاولة اغتيال بسكين من قبل محمد ناجي بناء على فتوى عمر عبد الرحمن باعتراف الجاني الذي اعترف أنه لم يقرأ حرفا واحدا من الرواية، لكنه سمع أنها رواية مليئة بالكفر.

ويرى الدكتور محمد ناجي أن آفة أمتنا عدم القراءة، مقتبسا ما قاله نجيب في روايته، لأن الكتابة هي سبيل الفرد لإيقاظ الجماعة للتفكير، ولأن الجماعة تستكين للراحة وتؤثر الركون لما تهواه يحدث التصادم دائما.

نادى نجيب في روايته للحرية والعدالة الاجتماعية بشكل واضح دون ذكر تلك الكلمات، وإنما بذكر الآثار العكسية، فذلك حيث يقول: لكل إنسان حلمه، وحلمي في مجتمع يقوم على قيم ثابتة، أولها الحرية والعدالة الاجتماعية والعلم والقيم السامية المستمدة من جميع الأديان وخصوصا الدين الإسلامي.