الحروب الصليبية.. يوم التقى الجمعان بحطين

لئن كان نور الدين محمود قد أنجز مشروع مواجهة المد الصليبي من خلال وضعه أسس الوحدة الإسلامية الذي نفذه فيما يخص مصر والشام، إلا أن وفاته المفاجئة فتحت الطريق لقائد جديد هو صلاح الدين الأيوبي الذي أرسله نور الدين محمود وعمه أسد الدين شركوه، للاستيلاء على مصر، وهو ما تم لهم في كانون الثاني يناير (1169م)، وهي الخطوة التي ستؤسس لعهد جديد ينهي قرنين من حكم الفاطميين لمصر.

عند سور طبرية احتشد الفرسان ورسم القائد خطة معركة أراد لها أن تهزّ أوروبا، وأن تغير ملامح الشرق الأوسط، لكن الأقدار كانت تخبئ لها في جعبتها الكثير من المفاجآت التي لم يكن يخطط بعد أن أفلحت خطته الأولى في الوصول إلى بيت المقدس.

وفي هذه الحلقة الثالثة نتناول الجزء الثالث من السلسلة الرباعية التي أعدتها الجزيرة الوثائقية عن الحروب الصليبية، ونستعرض فيه مراحل هامة في حلقة الوحدة التي أعادت تجسيد وحدة العالم الإسلامي، من قِبل نور الدين محمود في البدء وصلاح الدين في الختام، فأجهز بها على مملكة الصليبيين التي حكمت بيت المقدس ما يقارب الـ90 عاما، وما تلا ذلك من نجدة صليبية للرايات المتهاوية حول كنيسة القيامة.

صلاح الدين.. نقلة فكرية على ضفاف النيل

عرفت القاهرة في العام (567هـ/1171م) تحولا جديدا، فقد انتقلت السلطة من الفاطميين للأسرة الأيوبية نقلة كبيرة ليس في بلاط الحكم وأروقة القصر، بل في الفكر والممارسة أيضا، فالشاب السني يجلس على العرش في سياق يتسم بجسامة التحديات التي تكتنف سياق أدوار القائد الجديد ليس في مصر وإنما في العالم الإسلامي كله.

صلاح الدين الأيوبي يتبوأ كرسي الحكم في القاهرة خلفا لنور الدين زنكي

يقول الدكتور قاسم عبده قاسم: بينما كان صلاح الدين يوطد أركان دولته في مصر ويبني جيشه ويقيم الحصون والمعسكرات، كان بحاجة لحليف قوي، ولم يكن هناك حليف أقوى من القدر الذي يصاحب صلاح الدين في هذه الظروف، وفي هذه الفترة بالذات سنة (569هـ/1174م) كان نور الدين قد انتقل إلى جوار ربه، والمشكلة الأساسية هي وراثة نور الدين محمود، فقد بدأ الأمراء الزنكيون في الموصل وحلب ودمشق وغيرها في التنازع على إرث نور الدين.

النزاع على السلطة.. عادت حليمة لعادتها القديمة

عاجلت المنية نور الدين، ففتحت وفاته آفاقا لتحولات كبرى لبروز القائد المنتظر الذي طالما حلم به رجال الإصلاح في العالم الإسلامي وانتظروه في جوامعهم منجزا إصلاحات مرتقبة ومحيِيا سيرة الخلفاء الراشدين.

يقول الدكتور محمد مؤنس عوض أستاذ التاريخ بجامعة الشارقة: انطلق التنافس لاقتسام تركة الرجل الذي ترك ابنه الصالح إسماعيل وهو صبي صغير في وضعية الوصاية ولا يصلح للسياسة، وبذلك بدأت دمشق تعود إلى سيرتها الأولى في التحالفات السياسية والصراعات والتحالفات المضادة.

خلافات الملك في مدينة القاهرة يحسمها صلاح الدين

أخذ أوصياء العرش النوري يناقشون وضعية مصر وصلاح الدين الذي رأوه عَقبة في طريق طموحاتهم الشخصية ورأوه متجاوزا لحدوده المعهودة كتابع لدمشق، لكن صلاح الدين رد عليهم في حزم بأنه قادم لدمشق وأنه الأحق بوراثة نور الدين، إذ لو كان موجودا لحظة الوفاة لكان الوصيّ على العرش وصاحب الوصاية والعهدة حتى يكبر الأمير الصالح إسماعيل.

ويرى الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم أن صلاح الدين كان يعرف جيدا ما يدور في بلاط نور الدين ويعرف أن بعض الأوصياء لم يكن يتورع عن التحالف مع الصليبيين، وكان تفكيره يتجه لاستمرار الوحدة وتوطيد دعائم وحدة المسلمين، لذلك لاحظ أن انصياعه لهؤلاء سينسف بشكل كامل الجهود التي قامت فضلا عـن ما هو مأمول في المستقبل.

حاكم مصر.. الجواب ما ترى لا ما تسمع

يكتب صلاح الدين إلى خلفاء نور الدين بأنـه لو كان نور الدين يعلم أن ثم في دمشق من هو أهم منه، لعهد إليه بحكم مصر بوصفها أهم ولاية في دولته، وهددهم قائلا: تأكدوا أنه لو لم يعاجل القضاء نور الدين لعهد إلي بتأديب ابنه ورعايته، فمالي أراكم تتصرفون وكأنكم وحدكم وتسعون لإبعادي، غير أني آت قريبا، وسوف يُعاقب كل منكم على إساءته.

وبعد تأنٍّ وصبر من صلاح الدين لمدة وجيزة، انتبه للمخاطر التي تهدد المشروع النوري الصلاحي، فأوقف الرجل لغته الدبلوماسية اللينة وأدخل في رسائله مفردات الوعيد والتهديد، وقد حققت رسائله نتائجها بسرعة، فوقْع كلماته بث الرعب في أمراء البلاط النوري، فأسرعوا باتجاه حلب مهرولين ومعهم وصي العرش الصالح إسماعيل.

رسائل صلاح الدين إلى الأمراء توطد له المركز والسلطة

ومن القاهرة تحرك جيش صلاح الدين باتجاه الشام، وخطوات خيله تسارع رغبات الفرقة ونزعات التقسيم، والعيون المصوبة نحو دمشق تتطلع إلى عاصمة الشام التي ستصبح معقلا لجهاد الصليبيين.

يقول الدكتور إبراهيم بيضون: إن صلاح الدين بدون شك هو أبرز وريث شرعي لمشروع نور الدين، وجاء إلى الشام تحديدا وكان يمكن ألا يأتي إليها، ولكنه قدم إليها واتخذها عاصمته له لأنه كان يريد أن يستمر في مشروع نور الدين التحريري.

وبقدوم صلاح الدين ابتهجت دمشق وتهللت أساريرها للقائد الشاب الجديد، فالقدر الذي دفع به لواجهة الأحداث ما يزال يدخر المزيد.

سقوط “عموري الأول”.. هزة في مملكة القدس

على الجبهة الصليبية رافقت وفاة نور الدين وفاة ملك بيت المقدس في عام (1174م). وبالنسبة للمسيحيين كانت موت الملك والقائد العسكري الفذ “عموري الأول” خسارة كبيرة، وانتقل المُلك إلى “بالدوين الرابع”، لكنه لم يكن يمتلك المهارات الاستراتيجية التي كان يمتلكها “عموري الأول”، فقد كان “بالدوين” ذا طبيعة دفاعية أكثر من “عموري”.

في العام (570م/1174م) جلس الصبي “بالدوين” على عرش المملكة وهو في وضعية وصاية يتنافس على استغلالها الأمراء “جيدورزيان” و”رينو ديشاتيون”، لكن الوصاية آلت إلى “ريمون” كونت طرابلس الذي سارع إلى مهادنة صلاح الدين.

الصبي “بالدوين” يعتلي عرش مملكة بيت المقدس خلفا للملك “عموري الأول”

يقول المختص في الحروب الصليبية الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم: أدرك صلاح الدين فعلا أن الوقت لم يحِن بعد لقتال الصليبيين فعقد هدنة مع “ريمون” كونت طرابلس مدتها عشر سنوات، وبدأ بترتيب البيت من الداخل؛ الأمر الذي تطلب منه أن يخوض معارك مع الأمراء الصغار المتنافرين لمدة ثلاثة وثلاثين شهرا، في الوقت الذي استغرقت فيه معاركه مع الصليبيين ثلاثة عشر شهرا فقط.

ويفسر ذلك الدكتور إبراهيم بيضون بقوله: إن أبناء نور الدين وإخوته لم يستجيبوا للانضمام لجبهة صلاح الدين، وبالتالي كان عليه أن يبذل جهدا ويبذل وقتا أيضا من أجل استعادة حلب التي حاول الأمراء الزنكيون الانطلاق منها لوأد مشروع صلاح الدين.

النيل والفرات والعاصي.. صلاح الدين يعيد رسم الخريطة

سارع صلاح الدين متوجها إلى حلب التي تحصن بها الزنكيون محاولين نقض البناء الوحدوي الذي أرسى معالمه نور الدين، فاستقبله الأمراء الهاربون الذين كانوا يخشون لقاءه بما يندى له الجبين. ففي ليلة من عام (1175م)، تسلل الحشاشون ليلا إلى معسكر صلاح الدين، ووصلوا إلى خيمته، في مسعى لاستئصال القائد الذي يعد العدة لجهاد الصليبيين، لكن القدر يحمي صنيعته من الموت على ذلك النحو الدنيء.

انجلى الصراع بموت الصالح بن نور الدين، وفتحت أبواب حلب ليدخلها صلاح الدين مُنهيا محاولات هدم الوحدة، وليعيد رسم الخريطة جسدا واحدا يبدأ من مصر وبلاد الشام، ويتوسع في أقاليم مصاقبة كالحجاز واليمن والموصل.

بروز القائد المنتظر الذي طالما حلم به رجال الإصلاح في العالم الإسلامي

يقول الدكتور محمد مؤنس عوض: إن صلاح الدين بعد إنهاء معاركه مع الزنكيين أصبح تحت يده نهر النيل بإمكاناته البشرية الضخمة ونهر العاصي، ولا ننسى نهر الفرات ومنطقة الجزيرة الفراتية في العراق بما تمثله من قوة.

فيما يعتقد البروفيسور “جوناثان فيليبس” أن إنجاز صلاح الدين الأكبر كان إقناع هذه الشعوب للعمل معه، ودفعها والسيطرة عليها، فبمجرد أن يمتلك كل هذه الموارد تكون لديه قدرات كافية لقتال الصليبيين واسترداد بيت المقدس.

وبذلك أسس صلاح الدين لنهضة تعبوية وجهادية قوية، فقد نضجت الأفكار التي غرسها الفقهاء في العقود السالفة وتلاقت جهود المصلحين وتهيأت الأمة لعهد كفاحي جديد.

امرأة على عرش الصليبيين.. ضعف في القلب وقوة في الأطراف

في العام (582هـ/1186م) حدث تحول خطير في المملكة الصليبية ببيت المقدس سيكون في صالح صلاح الدين والجيش الإسلامي، فقد مات الملك الصليبي المجذوم، وجلست على العرش أخته التي انتقل إليها الملك وتزوجها أحد النبلاء الفرنسيين ويدعى “ليدزلزنيوه” وأصبح بذلك ملكا.

يقول الأستاذ الدكتور إلياس القطار أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية: كان “ليدزلزنيوه” هذا طائشا خفيفا. في حين يرى الدكتور إبراهيم بيضون أن “ليزنيوه” لم يكن مؤهلا بالأساس ليكون ملكا خصوصا في تلك الفترة التي تشهد فيها الجبهة الإسلامية صعودا عسكريا وبروزا لقائد شجاع وطموح كصلاح الدين.

شقيقة الملك الصليبي التي انتقل إليها الملك بعده.. وزوجها “ليدزلزنيوه” أحد النبلاء الفرنسيين الذي أصبح ملكا

ويوضح الدكتور محمد مؤنس عوض أنه لم يقتصر سوء حظ الصليبيين على هذا المستوى من الارتباك في عمق القيادة المركزية، وإنما ابتليت المملكة أيضا بمجموعة من أمراء الأطراف قوي نفوذهم مثل “رينو ديشاتون” السفاح في الكرك الذي يبدأ تحالفا قويا مع الداوية فرسان الهيكل، ويخططون معا لما يقضّون به مضاجع المسلمين، فالمتعطشون للدماء لا ترضيهم الهدنة، ويُذكون لهيب صراع المتحاربين.

هدم الكعبة ونبش قبر النبي.. الطريق نحو المشنقة

يشير الدكتور قاسم عبده قاسم إلى أن “أرناط” قرر أن يهدم الكعبة وينبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحجاز، وبالفعل نزلت مجموعة من الفرسان الصليبيين، وقبل وصولهم لمكة المكرمة قبضت عليهم قوات مصرية وأغرقت أسطولهم، وعادوا بهم إلى السلطان العادل الأيوبي، وهو شقيق صلاح الدين ونائبه في القاهرة.

حين وقعت هذه الحادثة، أصرّ صلاح الدين على أن يعدموا، وعندما توسط لديه أخوه لإطلاق سراحهم، كان رده “لا، لقد عرفوا الطريق ولا بد أن يكون ثمة رادع حتى لا يتكرر الأمر مرة أخرى”، فقتلهم جميعا.

أعدم صلاح الدين مجموعة الصليبيين الذين أرسلوا لهدم الكعبة ونبش قبر النبي

ويضيف الدكتور محمود سعيد عمران أن صلاح الدين نجح في إحباط هذه المحاولة وأصبح رمزا وكل يوم يعرفه الناس ويعلو اسمه.

“أريون ديشاتون” أو “أرناط” كما يرد في المصادر العربية، كان يسيطر على الكرك، ويُعرف بصاحب الكرك، وهي قلعة حصينة تقع على طريق الحج، ولذلك أراد أن يستفيد من هذا الموقع لإعاقة المسلمين واستفزازهم، ويصفه ابن الأثير بأنه كان من أخبث الإفرنج وأشدهم بغضا للمسلمين.

حشد في عين صفورية.. نقل المعركة إلى قلب فلسطين

ارتكب أرناط جريمة أخرى في انتهاك صريح للمعاهدة، فقد اعترض قافلة تجارية كبيرة للمسلمين، فنهب جنوده القافلة وأخذوا من كان فيها سبايا وقتلوا من قاوم منهم، وتصرف جند الصليبيين بصفاقة ووحشية.

أثارت حادثة نهب القافلة التجارية غضب صلاح الدين فأقسم على قتل “أرناط” إذا ظفر به، وقد واتته الفرصة لينفذ مشروعه، حين شعر أن لديه القوات الكافية لتقاتل الصليبيين، أما على الجبهة الصليبية فقد كانت ظروفهم هي الأخرى تغري بمعاجلتهم لحسم المعركة.

“أريون ديشاتون” أو “أرناط” ملك الكرك.. مدينة في طريق القوافل والحجاج

يقول الدكتور محمد مؤنس عوض: لقد قرر صلاح الدين أن يفرض على الصليبيين المعركة زمانا ومكانا، وكان يعي أنه إذا تمكن من نقل الصراع إلى قلب فلسطين فإنه يكون قد أصاب الصليبيين في مقتل، وبالتالي قام بحصار قلعة طبرية، ولم تكن هذه عملية سهلة فمملكة بيت المقدس حشدت أكبر جيش تمكن الصليبيون من حشده منذ قدومهم للمنطقة عام (1098م).

ولا بد أن نشير هنا إلى أن الكيان الصليبي في ذلك الوقت اتبع استراتيجية قتالية، تشبه إلى حد كبير ما يقوم به الكيان الصهيوني في العصر الحديث، بمعنى أن كل الرجال مقاتلون، لأن هذه المملكة الصليبية كانت كيانا عسكريا قائما على فكرة العسكرة والغزوات، وكانوا يدركون أن هزيمة واحدة يمكن أن تقضي عليهم.

أما في سياق حراك الصليبيين، فقد حشدوا في عين صفورية -وهو مكان في غاية الأهمية نظرا لتوفر المياه فيه- وعسكروا فيه وقضوا أياما وهم يناقشون هل يذهبون إلى صلاح الدين أم يتركونه يأتي إليهم.

وفعلا كان ثمة فارق جوهري بين الخيارات المتاحة للفريقين، فقد كانت جبهة صلاح الدين قوية موحدة، تتميز بكونه هو واضع الخطة وصاحب القرار، بينما كان الصليبيون مشتتين ويؤثّر على قرارهم تعدد الرؤوس وتنافس قيادتهم وضعف ملكهم، فكل شخص يريد أن يكون له رأي.

العطش في حر يوليو.. من لم يمت بالسيف مات بغيره

تضمنت خطة صلاح الدين مناورة ذكية فهو يريد أن يستدرج الصليبيين للخروج في معركة، وكان هناك رأي في أوساط الصليبيين يطرحه “ريمون دي سنجيل” يقول: اتركوه يأتي إلينا. وكان صلاح الدين يدرك أن نتائج النصر ستكون محدودة إذا كانت المعركة في مكان حصين، أما إذا تمكن من إخراجهم من حصن صفورية إلى معركة مفتوحة فإنه سيقضي عليهم.

خروج الصليبيين من صفورية لملاقاة صلاح الدين في حطين.. انتحار في حر الصيف

وكان مقدّم الداوية فرسان المعبد من أنصار فكرة الذهاب إلى صلاح الدين، وكان أيضا من أنصار هذا الرأي “أرناط”، وقد انتصر الرأي القائل بالخروج من صفورية، ومع ضوء الصباح الأول واصلوا النفير العام والاستعداد للمسير والخروج لملاقاة صلاح الدين الأيوبي.

إنها فكرة قاتلة لمشروع المملكة الصليبية وذات تأثير سلبي كبير على الوجود الصليبي، فقد كان على الجيش الصليبي أن يزحف حوالي 20 كيلومترا في ظل حر شمس يوليو في الصيف، دون التفكير في آلية لتوفير المياه وتأمين خطوط تموين لجيشهم، وكانوا حريصين على ألا يخرجوا في معارك كبيرة في الصيف، غير أنهم وجدوا أنفسهم مدفوعين لذلك في حطين.

حطين.. ويشفِ صدور قوم مؤمنين

على الطرف الإسلامي من المعركة فرضت قوات صلاح الدين الإسلامية سيطرتها على مصادر المياه وأخذت استعدادها الكافي للمعركة الفاصلة، حائلا بين الصليبيين وماء البحيرة. وهناك عند سور طبرية، يؤدي القائد صلاح الدين صلواته في اطمئنان تام والنصر القادم يتجسد في خياله، وتبرز أولى مقدماته في خروج الصليبيين لملاقاة جيش المسلمين.

وعند موقع يدعى قرون حطين، عسكر جيش الصليبيين، وأمضى ليلة سوداء بعد زحف يوم قائظ، وقد نفّذت طلائع الجيش الإسلامي عملية مع بزوغ الفجر، حينما استهدفت المعسكر بعملية تسلل ذبحت بعض الحراس، وأشعلت النيران في الأشجار المحيطة بالمعسكر.

قرون حطين.. موقع عسكر فيه جيش الصليبيين استعدادا للقاء صلاح الدين

وقد وقع الجيش الصليبي تحت حصار حر يوليو، ودخان النار الموقدة في تلال الوادي تحت رجليه. وهنا يجب أن ننبه إلى أن الفارس الصليبي كان يلبس درعا من حديد وثيابا حديدية، فوهج النار مؤذ له، فضلا عن المناوشات والتكبيرات والرمي بالأسهم وإشعال النيران في الخيام.

يقول أنطوان ضوميط: عند الصباح كان الإرهاق قد تمكن من الجيش الصليبي، والمسلمون يحولون بينه وبين ماء بحيرة طبرية.

وتقدر المصادر عدد الجيش الصليبي بما زيد على 60 ألفا من الفرسان والجنود المقاتلين.

جيش الرب.. لقاء بين الحق والباطل

وقف صلاح الدين الأيوبي، مخاطبا جيشه مؤكدا على التفاني في القتال وجعل هذا اليوم يوم حصاد لما سبق من جهود، مذكرا بالبلاء الذي أصاب ديار الإسلام بالهجوم الصليبي الإفرنجي عليها قبل تسعين عاما، مذكرا بأن النصر من عند الله، وأن المسلمين لا يغلبون من قلة.

والتقى الطرفان في حطين، في معركة حاسمة، تعتبر أخطر معركة في تاريخ الحروب الصليبية عام (583هـ/1187م) وكانت الدائرة على جيش الرب، فقد سحق المسلمون جيوش أوروبا الزاحفة على بطونها، وما بُني في تسعين عاما هوى بين ليلة وضحاها.

معركة حطين.. مقدمة النصر نحو تحرير بيت المقدس

يقول البروفسور “جوناثان فيليبس” أستاذ التاريخ بجامعة “رويال هولو واي” بلندن: تمكن صلاح الدين من سحق جيش الفرنجة وأسر ملك بيت المقدس، واحتفظ بالصليب الحقيقي، فكان ذلك هو الانتصار العسكري الأكبر الذي مهد الطريق لاسترداد بيت المقدس.

فتح الساحل الشامي.. إغلاق الشواطئ في وجه النجدة

في الليلة التالية للانتصار بمعركة حطين احتفل صلاح الدين مع قادة جيشه بالنصر المبين، لكن ذلك الانتصار لم يثنهم عن تتبع شتات المنهزمين في استعادة مدن الساحل الشامي، ومع خيوط فجر اليوم التالي استأنف مسيره صلاح الدين الذي كان يرى ضرورة فتح الساحل الشامي قبل فتح بيت المقدس، وهذا تفكير منطقي من الناحية العسكرية، لأنه سيضعف الجبهة الصليبية للمملكة المكلومة في هزيمة حطين، ولذلك أنفذ السرايا باتجاه القلاع الصليبية على الساحل فأسقطتها، مما جعل مشروع فتح بيت المقدس ثمرة ناضجة بين يديه.

صلاح الدين يحرر جميع القلاع الواقعة على المتوسط باستثناء صور

يقول الدكتور محمد المخزومي أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية: بدأ صلاح الدين بتحرير القلاع الواقعة على المتوسط وخاصة قلعة أشقيف أرنو في لبنان، وتوجه لعكا وصيدا وبيروت وجبيل، فحرر جميع هذه المناطق باستثناء صور، وهذا كان خطأ كبيرا من صلاح الدين، لأن بقايا الصليبيين في المنطقة تجمعوا في صور لتظهر فيما بعد هذه المدينة مقاومة صليبية قوية تحتفظ بالوجود الصليبي للرد على المسلمين بعد حطين.

لكن الدكتور قاسم عبده قاسم يرى أن هناك مبالغة في التهويل من هذا الخطأ لأن القرار العسكري في تلك الظروف ليس سهلا، ومن المهم استحضار ظروف القائد ومدى قدرته على المجازفة.

ويتحدث الدكتور محمد مؤنس عوض عن ملابسات هامة لفك حصار صور من قبل صلاح الدين، ففي ذلك الوقت كان الشتاء قد حل، والجيش الأيوبي منهك، والاستمرار في الحصار أمر عبثي، فلا بد من السيطرة على مناطق أخرى واستكمال الاستعداد للتحرك إلى تحرير القدس.

ثغرة في أسوار القدس.. مشهد التحرير

وقف صلاح الدين وجيشه يتأملون أسوار زهرة المدائن المحتلة. كان ذلك في العام (583هـ/1187م)، وقد أقسموا ألا تحول بينهم معها حامية الصليبيين.

تولى الدفاع عن القدس القائد الصليبي “ديبليان”، وقد قاموا بطقوس غريبة جدا، فجاءوا ببنات النبلاء وحلقوا شعورهن، وقاموا بالتضرع والتوسل حتى ينجيهم الرب من شر هجوم الجيش الإسلامي لتحرير المدينة.

صلاح الدين وجيشه يتأملون أسوار زهرة المدائن المحتلة قبل دك حصونها

كان صلاح الدين مصرا على اقتحام القدس، وأن يأخذها بالسيف لكي ينتقم لما جرى لأهلها منذ ثمانية وثمانين عاما. ونظرا لوضعية المدينة المقدسة وحرمتها عند صلاح الدين فقد أكد على جيشه ألا يرموا بالمجانيق على المدينة القديمة حتى لا يصيبوا المقدسات.

وقد استشار مهندسي الإنشاءات فدله أحدهم على جانب من السور كان ضعيفا، عند بوابة القديس “استيفل” التي تقع في الجهة الشمالية، فأحدثوا ثغرة فيه لدخول الجيش، وفعلا دخلوا المدينة، غير أن صلاح الدين، سعى إلى تطبيق أحكام الفقه الإسلامي بدقة.

“ليت ملوكنا مثلك”.. انتصار وشهامة

لم يفعل صلاح الدين بالصليبيين ما فعلوه بالمسلمين يوم دخلوا بيت المقدس مغتصبين وقاتلين، بل إنه عفا عن سكانها وسمح لهم بالخروج، فخرجت عائلات النبلاء ولم يتعرض لهم أحد من المسلمين، وفرض المسلمون على الصليبيين ضريبة خروج رمزية.

والغريب أن الأغنياء من أمراء الصليبيين رفضوا أن يدفعوا الفدية عن الفقراء والخدم والجنود من بني دينهم ودفعوا عن أنفسهم فقط، حتى إن هرقل بطريرك بيت المقدس جمع كل ماله وخرج به دون تقديم فدية عن أحد من بني جلدته وديانته.

فتح بيت المقدس وخروج الصليبيين من القدس بعفو عام من القائد صلاح الدين

وهنا برزت شهامة صلاح الدين وتسامحه الديني فقد سدد من ماله الخاص الضريبة عن العاجزين من فقراء الصليبيين والسماح لهم بالخروج من القدس، وسجل هذا حتى من قبل أعدائه فأكدته المصادر الغربية.

يقول البروفيسور “جوناثان فيليبس”: اشتهر صلاح الدين في التاريخ بكرمه وعدله وقدرته على إثارة حماس شعبه، وقد أكسبه هذا الاحترام بين المسيحيين والمسلمين على حد سواء، فهناك الكثير من القصص التي تشير إلى ذلك؛ إحدى هذه القصص أن امرأة من الفرنجة اختُطف طفلها وأُخذ به إلى سوق المسلمين وبيع هناك، وكانت الأم مصدومة، فقال لها أحد الفرنجة “اذهبي إلى صلاح الدين أثق في أنه سيساعدك”، فهبّت إليه، فصحبها للبحث عن الطفل، ولم يهدأ له بال حتى وجده وسلمه إليها، فركعت عند قدميه تقول: يا ليت ملوكنا مثلك في النبل والرحمة لرعيتهم.

صلاة الجمعة بالأقصى.. السهم الذي قتل البابا الأكبر

بعد أن أمّن صلاح الدين المدينة وضمن احترام الجيش الإسلامي لقواعد ذمة الله ورسوله في مراعاة حقوق أصحاب الديانات الأخرى، دخل صلاح الدين المسجد الأقصى وقد تزين بالمنبر الذي صنع منذ سنوات في عهد نور الدين محمود، فصلى فيه الجمعة.

وعلى الجبهة الصليبية سبّب فتح بيت المقدس صدمة كبرى في أوروبا الغربية، فقد مات البابا عند سماعه هذا النبأ وهو شيء لم يحدث في المسيحية من قبل، كما يقول البروفيسور “جوناثان فيليبس” أستاذ التاريخ بجامعة لندن.

منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى المبارك

ويوضح الدكتور “كريستوفر تيرمان” أن المصادر تتحدث عن نوع من الانهيار العصبي الجماعي، لأنهم كانوا يؤمنون أن بيت المقدس قد عاد إلى الحكم المسيحي، وأن ذلك جزء من النعمة الإلهية، لذلك فقد كان السؤال كيف للرب أن يسمح بحدوث ذلك؟ لقد كان ذلك الخبر يشكل صدمة.

البول على كنيسة القيامة.. الحملة الصليبية الكبرى

تجمع الصليبيون بعد خروجهم من القدس في صور التي كانت لا تزال الإمارة الحصينة المتبقية للصليبيين، وتتمثل أهميتها أيضا في كونها ميناء تجاريا يستقبل الدعم والسفن مباشرة من أوروبا، ومن المآخذ على صلاح الدين أنه ترك الفارين من كل المناطق يتجمعون في هذه المدينة.

وبلغ من خطورة صور أنها فرضت حصارا على عكا استمر لعامين، وفي هذا الوقت كان التحرك في الغرب جاريا لإغاثة الوجود الصليبي، فقد بدأت حملات تعبوية جديدة لحث الناس على النهوض نحو المشرق لإغاثة الوجود المسيحي هناك.

تجييش الصليبيين لحملة صليبية جديدة عبر صورة فارس مسلم على حصان يبول على كنيسة القيامة

وكان بعض القساوسة الذين يدعون الناس للخروج للشرق يستصحبون صورة رسم عليها فارس مسلم على حصانه والحصان يبول على كنيسة القيامة، حتى يستفزوا مشاعر الناس للدفاع عن الكنسية، وقد بدأت حملة صليبية جديدة، لاستعادة المملكة الصليبية والسيطرة على القدس، وتعتبر هذه هي الحملة الثالثة الأكبر في تاريخ الحروب الصليبية.

“ريتشارد الأول”.. ملك إنجلترا يغدر بأهل عكا

عاد الكثير من القوات الإسلامية إلى بلدانها، بينما كانت القوات الباقية في حالة إنهاك، فمنذ أكثر من سبعة عشر عاما والقتال مستمر، وقد تحقق الهدف الأكبر وهو استرجاع القدس، فلم يبق للقوات الإسلامية عامل تعبئة كبير، بينما في الغرب كان العكس من ذلك.

كان الوجود الصليبي في صور يتعزز وعكا تحت الحصار لمدة سنتين، وحالة من الارتخاء في عزائم المسلمين هي التي فتّت في عضد صلاح الدين لتأخير الهجوم على الصليبيين.

ريتشارد الأول يدخل عكا بعد حصار طويل ويعدم ثلاثة آلاف مسلم فيها غدرا

لقد اشتد الحصار على المسلمين في عكا ولم يكن أمامهم إلا التسليم الذي أعلنوه في منتصف يوليو (1191م/587هـ)، لقد سلم المسلمون بناء على أمان منحه الصليبيون لهم، غير أن “ريتشارد الأول” غدر بهم، فقتل ثلاثة آلاف من المقاتلين.

بلغ الخبر بطل حطين صلاح الدين فاعتصره الألم، لعجزه عن فك الحصار عن عكا وغصة في حلقه خلفتها جريمة ريتشارد الغادرة بأسرى المسلمين، فانخرط وهو يدرك خطورة الموقف وقلة ما بحوزته من قوات في تهيئة استراتيجية دفاعية تؤمن القدس وتتحكم في كل نقاط المياه.

صلح الرملة.. يدرك بالحيلة ما لا يدرك بالقوة

كان “ريتشارد” ينتظر بفارغ الصبر للانقضاض على صلاح الدين لتحقيق نصر خاطف، غير أن أخبارا تصله بتهديد عرشه جعلته يستعجل عائدا لإنكلترا، ويبحث عن عقد هدنة مع صلاح الدين، تحفظ له ما حقق من انتصار في عكا، حتى لا تعدّ عودته لبلاده هزيمة منكرة، فأرسل الرسل يريد مقابلة صلاح الدين وجها لوجه لعقد هدنة وليحقق نصرا إعلاميا يحفظ به سمعته، وصلاح الدين يقدر الموقف ويمانع في مقابلة ريتشارد، لأنه أدرك أن خصمه لا محالة مغادر فرفض صلاح الدين المقابلة.

وقد أرسل صلاح الدين شقيقه العادل أبا بكر لمقابلة ريتشارد، لكي يتوصل لحل مع الصليبيين، وبعد عام كامل من المفاوضات، توصل لما يعرف بـ”صلح الرملة” وهو ذروة الدبلوماسية الأيوبية.

صلاح الدين يرفض مقابلة رييتشارد ويعقد معه صلح الرملة من خلال أخيه “العادل أبي بكر”

وتضمن الاتفاق عقد هدنة بين الطرفين مدتها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وهذا الصلح يبقي الوضع على ما هو عليه كل طرف في مكانه، فصلاح الدين احتفظ بالمدن التي أخذها من الصليبيين، والصليبيون احتفظوا بما كان عندهم من مدن بعد فتح بيت المقدس وأهمها أنطاكية وطرابلس وصور وعكا وحيفا وقيسارية.

خاض صلاح الدين تجربة الانتصار الدبلوماسي والسياسي بعدما خاض تجربة الانتصار العسكري الحاسم في حطين وبيت المقدس، فقد حول النقص العسكري في قدراته إلى انتصار عبر استخدام الأدوات الدبلوماسية والسياسية، فكان أن حقق النصر الدبلوماسي بعد النصر العسكري وانتقل من نصر إلى نصر.

وانتهت هذه الحملة بعودة ريتشارد إلى بلاده، واستراح صلاح الدين قليلا، ولكن المرض كان قد أنشب أظفاره فيه فمرض لمدة أحد عشر يوما وتدهورت صحته وهو في دمشق.

أفول شمس السلطان المظفر.. تمديد إقامة الصليبيين

في فجر الأربعاء 4 مارس توفي صلاح الدين (589هـ/1193م) وعندما فتحت خزنته المالية لم يكن فيها إلا دراهم معدودة -حوالي 94 درهم- فقد أنفق ماله على الجهاد حتى إنهم استلفوا ما يشترون به كفنا له، فعليه رحمة الله.

السلطان صلاح الدين.. نجم يأفل بعد عصر طويل من الانتصارات

وقد أحسن من قال:

دفن السماح فليس تنشر بعدما .. أودى إلى يوم النشور رفاته

الدين بعد أبي المظفر يوسف .. أقوت قراه وأقفرت ساحاته

جبل تُضعضَع مِن تَضعضُع ركنِه .. أركانُنا وتهدُّنا هداته

ما كنت أعلم أن طودا شامخا .. يهوي ولا تهوي بنا مهواته

ما كنت أعلم أن بحرا طاميا .. فينا يطم وتنتهي زخراته

بحر خلا من وارديه ولم تزل .. محفوفة بوفوده حافاته

من لليتامى والأرامل راحم .. متعطف مفضوضة صدقاته

فعلى صلاح الدين يوسف دائما .. رضوان رب العرش بل صلواته

ويلخص قاسم عبده قاسم قائلا: أنجز صلاح الدين وحركته الجهادية، أهم إنجاز تمثل في القضاء على زهرة الجيوش اللاتينية، واسترداد بيت المقدس رمز الصراع طويل الأمد مع الصليبيين، لكن المشكلة أن خلفاء صلاح الدين لم يكونوا على شاكلته فمدوا في أجل الكيان الصليبي حوالي مائة سنة أخرى.