“الزوجان القاتلان”.. إعدام ومؤبد في قضايا تلفها الألغاز

مهدي المبروك

الجريمة مرض يصيب جسد الدولة ويرفع درجات الخوف والهلع في صفوف المواطنين الذين عاينوها أو سمعوا بها أو اقترنت بقريب منهم، فيحلّ الرّعب مكان الأمن، وتنتشر حالة من الذعر سببها بقاء المجرم طليقا وربما سيصطاد فرائس جديدة، ولأجل إعادة السكينة إلى المجتمع فإن الشرطة تسعى باحثة عن أطراف الخيوط التي خلّفها المجرم وراءه في مسرح الجريمة.

دماء ووسائل ارتكاب جريمة وبصمات قاتل وغيرها من الآثار الموجودة في مكان وقوع الحدث، تأخذها الشرطة إلى مراكز البحث الجنائي؛ لعلها تهتدي إلى شخصية المجرم، فتعتقله ثم تخضعه للتحقيق كي ينطق بما اقترفت يداه أو تثبت براءته مما نسب إليه.

 

في بعض الأحيان يتخذ المحققون من وسائل التعذيب الجسدية طريقا ينتزعون من خلاله اعتراف المتهم بارتكابه الجريمة المنسوبة إليه، فيقرر الاعتراف مرغما للتخلص من العذاب وإن كان الثمن حبل المشنقة.

قضية هي الأغرب من نوعها يحكي قصتها فيلم “الزوجان القاتلان” الذي بثته الجزيرة الوثائقية، جريمة ظهرت للعيان عندما أرسل الجاني رسالة في 16 حزيران/يونيو عام 1998 إلى مديرية الأمن العام في محافظة الزرقاء شمال العاصمة الأردنية عمان يخبر فيها بارتكابه جريمة قتل المواطن مروّح عبد الجليل سلامة؛ بسبب اعتداء المغدور جنسيا على ابنه، ويهدد المجرم أيضا بقتل بعض أفراد الشرطة.

مقتل المسن مروح.. حين لا ينجي الفرار إلى ليبيا

في إطار التحقيقات وجدت الشرطة في سجلات المسافرين أن بلال وزوجته غادرا الأردن في 21 أيلول/سبتمبر عام 1998 أي بعد ثلاثة أشهر على إرسال الرسالة، وأخبر بلال عائلته أنه مسافر للعمل في ليبيا، فقد أراد المتهمان الهروب من أيدي العدالة، ولم يتوقعا أن يأتي فريق أمني مختص من الأردن للقبض عليهما، وقد قامت ليبيا بتسليمهما؛ لأنهما من رعايا الأردن ومطلوب القبض عليهما بتهمة جنائية.

أثبتت التحقيقات ونتائج البحث الجنائي وكشف البصمات أن الزوجين متهمان بقتل المسنّ “مروّح”، وبعد اعتراف القاتلين بارتكاب الجريمة طُلب منهما تمثيلها.

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشهد تمثيلي للجريمة، تبدو فيه زيارة الزوجين لمنزل مروّح وبحوزتهما “كعكة” للاحتفال بعيد ميلاد سوزان، ثم يبدأ مروّح بتجهيز الشاي، فتخرج سوزان إلى ساحة سماوية في منزل الضحية نحو الحمام، بينما يذهب بلال إلى المطبخ لغسل يديه.

يقف المجني عليه بالقرب من النافذة، فيهاجمه بلال بسكين ويطعنه عدة طعنات، ليعلو صراخ الضحية وتأتي سوزان وتغلق النوافذ، ثم يسقط مروّح قتيلا على الأرض، وبعد التأكد من مقتله تبدأ سوزان بتنظيف الأرض من الدماء، ويبدّل بلال ملابسه ثم يسرق 31 دينارا أردنيا، ويلوذان بالفرار إلى جهة غير معلومة.

دفاعا عن الشرف.. جرائم متسلسلة في الأردن

قامت الشرطة بالتحقيق مع الجيران الذين سمعوا أثناء ارتكاب الجريمة أصواتا عالية وشاهدوا القاتلين وهما يتجولان في منزل المغدور، وبسبب نظر الجيران إليهما أنّب بلال الجيران قائلا: نحن في زيارة لقريبنا، من العيب عليكم النظر إلى بيوت الناس.

أثناء التحقيق لم تُخفِ عائلة بلال عن الشرطة الحالة التي كان بلال عليها من الارتباك بعد عودته من الجريمة، كما أنهم اعتقدوا أنه متورط في قتل مروّح دفاعا عن النفس أو عن الشرف، وهذا الدافع الجنائي قد يخفف عنه الحكم من الإعدام إلى المؤبد أو إلى أي حكم آخر، لكن العائلة تفاجأت بتورطه في ست جرائم نشرتها صحف الأخبار.

مشهد تمثيلي لقتل المسنّ “مروّح” الذي ادعى القاتل أنه كان دفاعا عن الشرف

 

لم يُدن القضاء الزوجين بقتل المسنّ مروّح فحسب، بل كشفت محكمة الجنايات الكبرى عن إدانتهما بـ11 جريمة و12 ضحية، وقد حُمّل الزوجان المسؤولية الجنائية الكاملة على مقتلهم جميعا.

تنوعت الأماكن التي نُفّذت بها تلك الجرائم وكذلك الأزمان التي حدثت فيها، وأمّا الملاحظ فهو أن أغلبية الضحايا كنّ من الإناث، بالإضافة إلى رجل ستيني وطفل رضيع، وقد أسفرت هذه الجرائم عن قتل المغدورين بطرق متعددة، منها السكين والخنق والضرب بالكرسي على الرأس حتى الموت، تبع ذلك سرقة الأموال وسلاسل الذهب وبعض المقتنيات؛ مثل أشرطة الفيديو والكاسيت التي كانت في مسرح الجريمة.

نساء وأطفال ومسنون.. هوس القتل

في عام 1994 لاقت الضحية سعاد فريد ذات الـ40 عاما مصرعها في منزلها في ضاحية الرشيد بعد أن زارها الزوجان وطلبت منها سوزان أن تحضر كأسا من الماء، ثم هاجمها بلال بالسكين، وبعد موتها سرق من بيتها 40 دينارا وسلسلة من الذهب.

وفي ذات العام هاجم بلال ليلى الشاعر في شقتها في منطقة عبدون بعد أن دخل الزوجان منزلها بحجة أنهما مسوّقان لمجلة دعائية، ثم قتلها بلال خنقا بسلك الهاتف وسرق خاتمين وسلاسل وأساور من ذهب.

واعترفا كذلك بمسؤوليتهما عن جريمة قتل المدرّسة فاطمة جميل ذات الـ20 عاما بعد أن ركبت معهما في السيارة، حيث تظهر في الفيلم وهي جثة متعفنة ملقاة في أحراش بيرين بالقرب من محافظة الزرقاء.

جريدة شيحان تنشر صور بعض الضحايا الذين يعتقد بأن الزوجين قاما بقتلهم

 

واتُّهم الزوجان بأربعة جرائم قتل حدثت في عام 1995، ففي منطقة الشميساني أُدينا بمقتل مها المصرية ذات الـ23 عاما وطفلها الرضيع.

وفي العاصمة الأردنية عمّان، لم تنفع لينا برقان ذات الـ22 عاما محاولتها الدفاع عن نفسها باستخدام مسدس بعد شعورها بالخطر على حياتها، حيث تمكن بلال من طعنها بالسكين.

وفي قضية أخرى وبعد أن شعر بلال بالغيرة على زوجته حيث كان الستّيني بائع الملابس القديمة سعيد أبو خديجة يأتي قديما إلى منزلها ويزور والدتها ليعطيها نقودا، قرر بلال قتل الرجل، فباغت المغدور بعدّة طعنات بالسكين في بطنه ثم لف قماشا حول عنقه وخنقه حتى فارق الحياة.

أما ناجح الخياط ذو الـ60 عاما، فقد قتله بلال بعد أن عرَّفه على زوجته، ويظهر في مشهد تمثيلي ذهابهما إلى غرفة النوم الملاصقة للمكتب، حيث قتله بالسكين وضربه بالكرسي حتى تأكد من موته.

وفي عام 1997 قتل بلال الستّيني ربيع أبو ركبة وسط عمان، حيث هاجمه بالسكين في مخمر الموز وأصابه بظهره ثم طعنه في صدره حتى الموت، وعاد إلى عمله وكأن شيئا لم يكن.

وهناك قضية قتل أخرى، دخل القاتلان فيها منزل الضحية إيمان العمايرة 32 عاما من منطقة الهاشمي الشمالي، وعرّفا على نفسيهما أنّهما يعملان في مؤسسة للإجازات. قامت إيمان بتعبئة نموذج للدخول إلى مسابقة من أجل الفوز، ولم تنته من ملء النموذج حتى باغتها بطعنات قاتلة، وفي ذات العام واجهت صليحة مكودي الجزائرية الجنسية ذات الـ43 عاما حتفها بعد أن طعنها بلال 18 مرة.

منصة وقفصان.. بين يدي المحاكمة

يرى اللواء المتقاعد عبد المهدي الضمور أن المجرم مريض نفسي تتعدد دوافعه، فقد يقتل لمجرد القتل، وربما انتقاما لظروف مرّ بها، وإذا تنوعت وسائله في القتل، يكون الهدف من وراء الجريمة مادي، ومن ناحية أخرى؛ ليخفي الجريمة.

من خلال متابعتها لوقائع الجريمة، تنفي صحفية الجرائم الجنائية رنا الحسيني أن يكون الزوجان مجرمين متسلسلين؛ أي أنهما يعرفان تفاصيل حياة الضحية ويخططان للنيل منها بطريقة إجرامية، لأن المجرم المتسلسل يستخدم ذات طريقة القتل ونفس الوسيلة، وهذا مغاير لما ظهر في نتائج التحقيقات.

ثم تصف الحسيني المحكمة قائلة: “هي عبارة عن منصة يجلس عليها القضاة، وعلى طرفيها قفصان يقبع فيهما المتهمان اللذان ينظران إلى بعضهما البعض ويمنح كل منهما القوة للآخر”، نافية وجود أدلة غير اعترافات المتهمين.

على طرفي المحكمة قفصان يقبع فيهما المتهمان وينظران إلى بعضهما البعض ليمنح كل منهما القوة للآخر

 

ينقل المحامي المعيّن من قبل المحكمة زياد النجداوي عن المتهم بلال اعترافه بقتل مروّح فقط، ولا علاقة له ببقية القضايا الأخرى المنسوبة إليه، ويقول: إن الإعلام أدخل الخوف إلى كل بيت، حيث أصبح الجميع يعتقد أنه قابل المجرمَين يوما ما في مكان ما.

بعد أن ثبت لدى المحكمة ارتكاب بلال لجرائم القتل المتتالية التي اتهم بها، حُكم عليه بالإعدام شنقا، ونُفّذ الحكم في السابع من كانون الأول/ ديسمبر عام 2000، بينما لاقت زوجته سوزان الحكم بالمؤبد. وقد عقّبت المحامية والناشطة في حقوق الإنسان إفا أبو حلاوة على حكم الإعدام قائلة: لقد أقدم بلال على جريمته بدافع ثورة الغضب، حيث حاول المغدور الاعتداء على زوجته، وهذا يعني أنه لم يمارس القتل العمد، لذلك لا تقام عليه عقوبة الإعدام.

بلال وسوزان.. قصة حب طويلة تتوج بالزواج

يظهر في الفيلم صور تعود لبلال في مراحل مختلفة من عمره، حيث ولد في محافظة الزرقاء عام 1972 لأسرة فقيرة، وعندما بلغ الـ14 من عمره عمل في طلاء المنازل؛ لأنه يحب الألوان كثيرا، وعندما بلغ سن الشباب درس المحاسبة، ثم عمل بشركة تسويق المنتجعات السياحية في مدينة الصويفية.

وعلى الرغم من فتور العلاقة بين العائلتين، فإن علاقة بلال بسوزان كانت دافئة، حتى بعد ارتباطها بابن عمتها، فقد كان بلال يراقبها وهي على سطح المنزل مما أثار غضب زوجها وغيرته.

صورة حقيقية للزوجين القاتلين بعد زواجهما بفترة

 

بعد طلاقها من زوجها الأول تزوجت بلال، وكان هذا الزواج على مرحلتين؛ زواج عرفي امتد لشهرين، ثم زواج شرعي، وبذلك وضع بلال عائلتيهما تحت الأمر الواقع، وكان بلال وسوزان يحبان السفر والتنزه، لذلك أنفق بلال معظم أمواله على الرفاهية.

قاتل جديد.. غموض يفسد مصداقية القضية

على الرغم من وجود الأدلة على قيام بلال بقتل المسنّ ناجح الخياط، فإن متهما جديدا يدعى زهير الخطيب ظهر في عام 2005 يعترف بارتكابه ذات الجريمة.

وهنا يلقي المحامي النجداوي باللوم على المدعي العام الذي يصل عادة بعد انتهاء التحقيق؛ يقول النجداوي: ادعت الأجهزة الأمنية أن اختفاء بصمات المتهمين عن مسرح الجريمة كان سببه ارتدائهما للقفازات.

وينفي مشهور العوايشة مدير شرطة محافظة الزرقاء سابقا، أن يكون قد عُبث في مسرح الجريمة، لكنه لا يستغرب وجود بصمات من أشخاص ليس لهم علاقة بها، ثم يقول: إذا أثبتت التحقيقات بأن اعتراف المتهم حدث بسبب التعذيب، فإنه يخرج بالبراءة، لكن بلال وسوزان ثبت ارتكابهما للجريمة بأدلة عديدة.

حكم على المجرم بلال باإعدام شنقا، وعلى زوجته سوزان بالسجن المؤبد

 

يرى مدير مركز “عدالة” لدراسات حقوق الإنسان عاصم ربايعة أن الشك يفسَّر لصالح المتهم، فبمجرد وجود شخص واحد يعترف بقيامه بالجريمة، سيشكك في مصداقية اعترافاتهم كلها.

وتدّعي إفا أبو حلاوة أن بلال لم يرتكب الجرائم المنسوبة إليه، وكان تمثيله لها بناء على تفاصيل قدمتها له الشرطة وأجبرته على تمثيلها، لذلك يؤكد عطايا محامي الخطيب أن اعتراف زهير لم يكن في محله.

في حين ترى الشرطة أن اعترافات المتهمين وتمثيلهم للقضية تُعد أدلة تأخذ بها المحكمة، وتبيّن لها أن رواية بلال وسوزان هي الأدق في حادثة مقتل الخياط، خاصة أنه ثبت استخدام كرسي في قتله وهذا باعتراف الزوجان، وليس باستعمال مطرقة كما اعترف زهير الخطيب.

جريمة إجهاض.. ثغرات واتهامات للشرطة

يرى محامي بلال وسوزان أن الطريقة التي أُحضرا بها من ليبيا والتعذيب الذي تعرضا له أثناء التحقيق تسبب في إجهاض سوزان الحامل، وهذه جريمة مرتكبة لم يُحقّق في ملابساتها. وادّعى المحامي أن الشرطة أرادت أن تُغلق ملفات أمنية لم تستطع الوصول إلى نتائج فيها منذ تسعينيات القرن الماضي، فعمدت إلى إلصاق كافة الجرائم التي لم يُعرف فاعلوها بالزوجين.

كما اتهم أقرباء بلال وسوزان المحكمة بالتحامل على الزوجين وإلصاق التهم بهما وعدم الالتفات إلى القاعدة القانونية التي تقول إن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، وربما كان اعتراف الخطيب بارتكاب ذات الجريمة يدخل الشك على مجريات التحقيق ونتائجه بأكملها.

يقول العوايشة: “لا يمكن لأي جهاز أمني أن يُلصق مثل تلك التهم هكذا جزافا”، أمَّا الضمور فيشير إلى حلفه اليمين من أجل إحقاق الحق والحفاظ على أرواح الناس وممتلكاتهم، فكيف يلصق التّهم ببريء من أجل إغلاق ملف قضية؟

المحامون يتهمون التحقيقبأنه تسبب في إجهاض سوزان الحامل

 

جرائم يشوبها الغموض، ومن السهل الولوج إلى ثغرة تُشكّك في عدالة الأحكام، تلك القضايا التي دفع بلال حياته ثمنا لسدادها، أمَّا سوزان فأُجّل دفعها الثمن إلى أن ماتت بعد فترة من الاعتقال المؤبد، لكن هل يُعقل أن تُلفق التّهم لأبرياء كي يُغلق ملف أمني استعصى على الحل؟

إذا حدث ذلك فإن المجرمين الحقيقين لم يعودوا مساءلين عما فعلوا بعد أن حوسب بلال وزوجته على كل تلك الجرائم مجتمعة.

وبقيت تلك القضية محل جدل تعددت فيها وجهات النظر، فحكم المحكمة صدر وانسدل الستار على القضية، وأما المحامي النجداوي فبقي مُصرّا على رأيه أن بلال وسوزان بريئان من كل تهم القتل المنسوبة إليهما، باستثناء مقتل مرّوح بدافع الشرف، وبالمقابل فإنَّ جهات التحقيق والادعاء بقيت متمسكة بإدانة الزوجين ووصفهما بالقاتليْن.