“اللحن الأسير”.. أهازيج الحرية القادمة من عتمة الزنازين

أن تكون أسيرا يعني في كثير من الأحيان توقف الحياة حتى إشعار آخر، لكن هناك من عقد العزم على أن تستمر حياته ولو بالغناء، فبقدر ما كان يُخفف عن الأسرى آلامهم، فإنه يغيظ سجانيهم. وعلى الرغم من الحرب الشرسة التي تشنها إدارة السجون الإسرائيلية بحق المعتقلين الفلسطينيين بمنعهم من أبسط حقوقهم، فإنهم تمكنوا من انتزاع مساحة فنية لأنفسهم يُعبرون فيها عن واقعهم.

يرصد فيلم “اللحن الأسير” -الذي أنتجته وبثته “الجزيرة الوثائقية”- التجربة الغنائية في الحركة الأسيرة الفلسطينية، ليكشف الشقين الإنساني والفني للأسير خلف القضبان، من خلال استعراض أغاني السجون التي كُتبت ولُحنت وأُديت داخل السجون الإسرائيلية، على لسان من تحرر من الأسر، ليشكل أربعة منهم فريقا فنيا أطلقوا عليه اسم “فريق الوفاء الفني”.

“عصفور طل من الشباك”.. أغاني الزنزانة

يقول الأسير السابق أمجد عرار إن الغناء جزء من الحياة والطبيعة؛ فالرياح تغني، والعصافير من حولنا تغني، ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الغناء. وإذا كان السجّان يُصادر حرية الأسير، فإنه لا يستطيع أن يصادر قدرته على الغناء حتى في أقسى ظروف التحقيق، معتبرا أنه لم يكن يغني لنفسه فقط، بل لرفقائه أيضا.

الأسيرة المحررة وفاء البسّ

وتروي الأسيرة المحررة وفاء البسّ ذكرياتها وهي ترقب من شباك زنزانتها العصافير الحرة وتنشد:

عصفور طل من الشباك
وقال لي يا نونو
خبيني عندك خبيني
دخلك يا نونو
قلت له أنت من وين
قال لي من حدود السما
قلت له جاي من وين
قال لي من بيت الجيران
قلت له خايف من مين
قال لي من القفص هربان
قلت له ريشاتك وين
قال لي فرفطها الزمان

“ضمة السجن الأولى”.. استقبال خاص من السجان والمسجونين

رغم صدمة الساعات الأولى في السجن والمعاناة والتعذيب وغيره، فإن استقبال زميلات الزنزانة لوفاء بالأغاني والزغاريد خفف عنها كثيرا هذه المعاناة ومنحها بصيص أمل.

ومهما قيل عن معاناة السجن، فلن يكون أحد أقدر على وصفها من أسير عاشها سنوات وسنوات، وهي تبدأ من “ضمة السجن الأولى” كما يسميها الأسير المبعد رمزي العك، وهي خليط من الذكريات والألم، لا يخففها سوى عظم القضية التي اعتقل من أجلها، وبعض الغناء والسمر.

أسرى محررون ومبعدون شكلوا فرقة غنائية فلسطينية بعد التحرر

وهنا يشير الأسير المبعد حمودة صلاح إلى استثمار الأسرى لأي قادم جديد إليهم يمتلك صوتا نديا وموهبة غنائية للترفيه عن رفقاء الزنزانة ورفع معنوياتهم.

لكن الأسير المبعد مصعب الهشلمون يلفت إلى بعد آخر يصنعه الغناء بالأسرى، فإذا كانت الحرية بعيدة المنال عنهم -ولو إلى حين- فإن الغناء ربما يكون كافيا لإطلاق أرواحهم من قيد الأسر إلى فضاء الحرية.

“قالوا إجا العيد”.. صناعة الأعياد والأفراح العائلية

لا شك أن أيام السجن ليست سواء، لكن أصعبها أن تأتي مناسبة عامة كالأعياد، أو خاصة كزواج ابن أو نجاح ابنة، ولا يستطيع الأسير أن يشارك أهله فرحتهم، وهنا يأتي دور الرفقاء في محاولة إدخال الفرحة على زميلهم بما استطاعوا من غناء أو حلوى، كما يروي الأسير المبعد رمزي العك.

الأسرى يحاولون التغلب على مرارة السجن بالغناء

وليس بعيدا عن ذلك احتفال الأسيرات بالأعياد، لكن ربما يزداد احتفالهن بمزيد من التصفيق والغناء وصنع كعك العيد بما تيسر لهن، بحسب الأسيرة المحررة وفاء البس التي تتذكر أغنية العيد المشهورة داخل الزنزانة:

قالوا إجا العيد
قلت العيد لأصحابو
شو بينفع العيد للي مفارق حبابوا.. آخ يا يما
العيد يا يما لما بلادنا بتعود
وأرجع ع أرض الوطن وأبوس ترابه

يا يما لو جاني العيد
ما في عيد بيسعدني
وأنا عن دياري بعيد
وما لي حدا يعايدني
يا يما لو جاني العيد

“هذا دربك درب رجال”.. صوت الغناء يرعب السجانين

يعود الأسير السابق أمجد عرار ليؤكد أن الأغنية من أهم الوسائل التي تُبقي قضية ما حية، فهي الأقرب لوجدان الناس ووعيهم، والأبسط للفهم، ولكل ذلك كان سجّانو الاحتلال يستاؤون من أصوات غناء الأسرى، فيقتحمون زنازينهم ويطلقون عليهم الغاز.

ورغم ذلك كان الأسرى يتحايلون على سجانيهم للحصول على كلمات الأغنية عبر أجهزة الراديو، وهي عملية تستغرق أياما وربما أشهرا، فكل يوم يكتبون بضع كلمات وينتظرون إلى أن تُبث الأغنية مجددا ليضيفوا غيرها، وهكذا قبل أن تكتمل الكلمات لتبدأ مرحلة الغناء، ويُسخّر فيها الأسرى كل ما تيسر لهم من أدوات وأوانٍ لتخرج الأنشودة في نغم جميل، بحسب الأسير المبعد مصعب الهشلمون.

وإذا كان الوصول إلى كلمات أنشودة تُبث عبر الراديو صعبة، فإن الحصول على شريط تسجيل يضم عددا من الأناشيد كان بمثابة فتح مبين.

روحك ما يهمها اعتقال
مهما طال السجن وطال
هذا دربك درب رجال
سجنك خلوة وابتهال
والزنزانة جمع أبطال
منك سجانك ما ينال
راسك عالي جبينك عالي
عزمك صامد مثل جبال
وأنت الغالي لأهلك غالي
قسما تحريرك بالبال

صناعة آلة العود.. بذرة حلم فني أبعد من الخيال

لم تقتصر محاولات الأسرى التغلب على مرارة السجن على الغناء فقط، بل حاولوا صنع آلة عود، في محاولة يصفها الأسير السابق أمجد عرار بالتحدي، فأنّى لهم بمكوناته وهم في الأسر؟

استمرت المحاولات حتى نجحت أخيرا في صنع عود من خشب طاولة الزهر وأحبال الخيمة. لكنه نجاح لم ترض به إدارة السجن فصادرته أملا في حرمان الأسرى من أحد مصادر بهجتهم، لكنهم أعادوا الكرة ثانية.

وبمرور سنوات السجن الطويلة، يعيش الأسرى على أحلامهم في غد أفضل. ويروي الأسير المبعد حمودة صلاح كيف نشأت فكرة تكوين فريق غنائي بعد الخروج من الأسر، وهي فكرة بدت في وقتها مجافية للمنطق ولا تمت للواقع بصلة؛ فهم أسرى ولا يجمع بينهم مدينة واحدة، وإن جمعتهم أحكام المؤبدات في زنزانة واحدة.

لكن ما كان خيالا وقتها تحقق بفضل صفقة تبادل الأسرى “وفاء الأحرار” عام 2011 التي وقعت بموجبها مقايضة إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” بالإفراج عن 1027 أسيرا فلسطينيا.

“فريق الوفاء الفني”.. سفير الأسير في ذكرى صفقة وفاء الأحرار

وتشاء الأقدار أن يخرج الأسرى الأربعة؛ علي عصافرة ومصعب الهشلمون وحمودة صلاح ورمزي العك معا إلى غزة، لا إلى مدن الضفة الغربية المتباعدة، أو إلى قطر وتركيا والأردن، كما حدث مع غيرهم من المحررين، ليتحقق حلمهم بإطلاق “فريق الوفاء الفني” بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لصفقة “وفاء الأحرار”، ويكون الهدف من الفرقة إيصال معاناة الأسرى الذين يقبعون خلف الزنازين، وذلك بلسان أسرى محررين خاضوا غمار تجربة المعاناة في السجون سابقا.

فريق الوفاء الفني

وكما جمعتهم قضية فلسطين في السجن، فقد جمعتهم في تشكيل ما يسميه رمزي العك “سلاح الفن” للدفاع عن قضيتهم. وكانت باكورة أعمال هذه الفرقة أنشودة سجّلها الأسرى الأربعة المحررين بأصواتهم وأدائهم، نقلوا من خلالها الأغنية الوطنية التي وُلدت داخل السجون وتحررت، مُسطرين بهذه الطريقة نموذجا للمقاومة السلمية التي ترتبط بها قصص لا تنسى في ذاكرة الحركة الأسيرة التي ما زال كثير من أصحابها خلف القضبان.

معنى يشدد عليه الأسير السابق أمجد عرار، فالفن ينبغي أن يتبنى قضايا المظلومين ويدافع عنها، وليس أهم في ذلك من قضية الأسرى التي لا تخص الأسير وحده، بل أسرته ومحيطه الاجتماعي بأكمله.

يُذكر أن فيلم “اللحن الأسير” قد فاز بالجائزة الفضية في “مهرجان الأردن للإعلام العربي” في دورته الرابعة لعام 2021.