تفجير فندق الملك داود.. جريمة الصهاينة المسكوت عنها

في 22 يوليو/تموز 1946، أقدم منظمة صهيونية تدعى “الإرغون” على ارتكاب جريمة كبيرة بتفجير في فندق الملك داود في القدس، تلك الجريمة المروعة التي حدثت وذهب ضحيتها 91 شخصا معظمهم من العرب الفلسطينيين، مع جنسيات أخرى مختلفة.

صورة فندق الملك داود بالقدس بعد استهدافه بالتفجير الإرهابي الصهيوني

تقول “أيريت غال” ابنة منفذ الجريمة: ظل والدي فخورا بتفجير فندق الملك داود طوال حياته، كان قائد وحدة خاصة، وقد زرع داخل الفندق المذكور حاويات حليب تحتوي في داخلها على مواد متفجرة، كان الفندق حينها مقر قيادة الجنود الإنجليز في القدس، وقد قتل 91 شخصا في الهجوم، بينهم عرب ويهود وإنجليز.

وتضيف “غال”: في أيار/مايو 1945 مات هتلر، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وحسب الرواية الصهيونية فقد قتل النازيون ستة ملايين يهودي، وغادر الناجون معسكرات الاعتقال، وبدأت معاناة العودة إلى الوطن، ولكن أي وطن؟ لقد كانت حياة اليهود في أوروبا مستحيلة، فإما دولة خاصة بهم، أو الاختفاء من الوجود.

بريطانيا وفلسطين.. هبة من لا يملك لمن لا يستحق

في 1922 منحت عصبة الأمم البريطانيين تفويضا لتأسيس وطن لليهود في فلسطين، واتضح لاحقا أن حماية حياة اليهود والعرب معا مهمة مستحيلة، إذ اندلعت مناوشات عنيفة بين اليهود والعرب.

تقول غال: كان والدي نموذجيا يؤمن بأن الحرية يجب أن تتحقق مهما كان الثمن، وبأن ما حدث سابقا لن يتكرر أبدا؛ لن يسمح بقتل اليهود مجددا، وكان مستعدا هو وأصدقاؤه للتضحية بأرواحهم إذا لزم الأمر.

“أميرة شتيرن” أمينة الأرشيف في معهد جابوتنسكي تحمل بيدها وثيقة عملية “مالونجيك” الاسم السري لفندق الملك داود

عملية “مالونجيك”.. رائحة الجيش الجمهوري الأيرلندي

تصاعد العنف بين العرب واليهود، وكان الإنجليز مجبرين على التدخل أكثر فأكثر، وزاد الضغط حينما كانت موجات الهجرة غير الشرعية تلقي بآلاف اليهود القادمين من أوروبا إلى فلسطين، ولكن البريطانيين بزعم اليهود لم يسمحوا لهم بالدخول إلى فلسطين، الأمر الذي أثار غضب العصابات الصهيونية المتشددة مثل منظمة “إرغون” التي لجأت إلى حل الإرهاب المجرَّب.

يقول “بين بريسكو” ابن قائد الجيش الجمهوري الأيرلندي: كنت صغيرا حين زارنا القيادي الثاني في “إرغون”، كان في إيرلندا بهدف لقاء كبار الضباط في الجيش الجمهوري الأيرلندي، لدراسة أساليبهم المعتمدة في الهجوم على البريطانيين آنذاك، حيث اعتمدوا الكثير من تكتيكاتهم، ورأى والدي أن الحل الوحيد لبقاء اليهود هو حصولهم على دولة خاصة بهم، ولا يتأتى ذلك إلى بقوة السلاح.

التفجير الإرهابي لفندق الملك داود أدى إلى مقتل وجرح قرابة مئة شخص

ويتابع: كان فندق الملك داود مركز قيادة الضباط البريطانيين، وكان ناديهم ومقر إقامة الكثير منهم، كانوا يشغلون الطابق الخامس بأكمله، وكان يساعدهم عدد من السكان المحليين في الشؤون الإدارية، ولذا كان هدفا منطقيا لمنظمة “إرغون”، ولطالما حذّرتهم المنظمة من أنها ستدمره، ولا أدري إن كان عدد من اليهود بداخله عند تفجيره.

تقول “روث لامدان” ابنة أحد الضحايا: نال والدي ترقية لوظيفة في المكتب الرئيسي لفندق الملك داود في القدس، وكان يساعد الإدارة البريطانية، كان عمري يومها ثلاث سنوات، وكان عمر أخي شهرا ويومين.

وتقول “أميرة شتيرن” أمينة الأرشيف في معهد جابوتنسكي: كان هنالك ملف يحتوي الأوامر وشارة البدء لتنفيذ عملية “مالونجيك”، الاسم المشفر لفندق الملك داود، مقر المسيحي العبد، وكانت الأوامر تقضي بتنفيذ العملية في الموعد المحدد دون ترك أي أدلة على المنفذين.

“كانوا يقفون في وجه تأسيس دولتنا”.. ضربة الإرهاب الموجعة للمحتل

تقول “إيريت غال” ابنة منفذ الجريمة متحدثة حول تفاصيل العملية: تنكروا بزي عربي، وأدخلوا المواد المتفجرة في عبوات حليب، زرعوها في الجناح الغربي من المبنى، وعندما شعرت عاملات قسم الاتصال بفوضى تحدث قمن بإخبار الضابط المسؤول الذي حرّك قوة بدأت بإطلاق النار، مما أدى إلى قتل أحد المتسللين، في الوقت الذي قامت فيه المنظمة الإرهابية بالطلب من الإنجليز ضرورة مغادرة المبنى قبل 15 دقيقة.

إرهابيو الحركة التصحيحية الصهيونية المتهمون بالتفجير في اجتماع للحركة ببولندا

انهار الجناح الغربي تماما، كان الهجوم عنيفا، ومن أعنف الأعمال الإرهابية على الإطلاق، وقتل على الفور 65 قتيلا، بينما كان عدد المفقودين الذي لا يرجى العثور عليهم أكثر من خمسين، وقد استنكرت الوكالة اليهودية هذه الجريمة الدنيئة، وقالت إن من نفذ العملية هم عصابة خارجة عن القانون، بينما أكدت بريطانيا عزمها على إيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية.

تقول “أميرة شتيرن” أمينة الأرشيف بمعهد جابوتنسكي: لدينا نسخة من صحيفة “هاماشكيف” الصادرة في 22/7/1946 نشر فيها الخبر، وذكرت أن 41 قيلا و52 مفقودا، بينما كان عدد الجرحى 53. وأعلنت جماعة “إرغون” الإرهابية -التي أسسها اليهودي الروسي “زئيف جابوتنسكي”- مسؤوليتها عن الحادث”.

لكن مدير معهد جابوتنسكي “غيديون مشنيك” يبرر العملية بقوله: كان الهجوم على الفندق ردا على الإرهاب البريطاني ضد اليهود، كانوا يقفون في وجه تأسيس دولتنا، نعم لقد كان حادثا خطيرا، ولكنه حدث مرة واحدة فقط، ولم يكن الهدف قتل مدنيين.

هجرة يهود العالم.. عقيدة جماعة “إرغون” الإرهابية

كان “جابوتنسكي” يعتقد أن دولة إسرائيل لن تقوم إلا بهجرة جماعية من كل يهود العالم إلى فلسطين، وكان مقتنعا أن هذا لن يكتمل إلا بالمقاومة المسلحة، ولذلك قام بتشكيل عصابة متطرفة ستكون نواة للجيش الصهيوني الذي آمن به، وهو صاحب فكرة الجدار الحديدي، ويعتقد الكثيرون أنه كان فاشي النظرة ويكره العرب، وكان يراهم عقبة يجب التخلص منها لتحقيق أحلامه.

عرض مسرحي صهيوني في أمريكا بعنوان “لن نموت أبدا” ركّز على إبادة اليهود، وشارك فيه ألف عارض

يقول “بريسكو”: “التقى والدي مع “جابوتنسكي” في لندن، ولقد جنّد والدي للذهاب إلى أمريكا لجمع التبرعات، مستفيدا من علاقات والدي بالأيرلنديين هناك، توجه والدي إلى أمريكا وخاطب الأيرلنديين وتحدث إلى اليهود الأمريكيين، وحرضهم على فعل شيء من أجل إقامة دولتهم، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون الإبادة إذا لم يصنعوا دولتهم بأنفسهم فلن يصنعها لهم أحد غيرهم.

وتقول “ريبيكا كوك” ابنة أحد قادة “إرغون”: كان والدي ابن ١٦ عاما عندما انضم إلى “إرغون”، انحدر من عائلة أرثوذكسية متدينة، ولكنه ألقى بالكتاب المقدس جانبا وحمل البندقية، كان شديد الإعجاب بشخصية “جابوتنسكي” ومفتونا به، ترقى في المنظمة بسرعة، وفي عام 1937 أُرسل إلى أوروبا لتسهيل الهجرة غير الشرعية ليهود أوروبا إلى فلسطين.

ملاذ الدولار الآمن.. وقود الجرائم الصهيونية

تقول “ريبيكا كوك”: بعد الغزو النازي لبولندا استنتج “جابوتنسكي” أن الملاذ الآمن والوحيد لزعماء اليهود هو أمريكا، لذا طلب من والدي مرافقته. كان والدي جريئا في طرح أفكاره للمشاهير وأصحاب النفوذ في أمريكا، وقد قام كلاهما بتنظيم عرضين ضخمين جدا، كان اسم أحدهما “لن نموت أبدا”، وركّز على إبادة اليهود، وأهدياه إلى مليونين من اليهود الذين ماتوا في أوروبا، وشارك فيه ألف عارض.

مناحيم بيغن ممثل منظمة إرغن نفذ الكثير من العمليات الإرهابية التي أهلته لاحقا إلى رئاسة وزراء إسرائيل

أما العرض الثاني فكان اسمه “ولادة علَم”، شارك فيه العديد من مشاهير هوليود والفنانين الموهوبين، وقال عنه والدي في مقابلة تلفزيونية إن حضوره كان هائلا؛ لقد امتلأت ساحة “ماديسون سكوير” مرتين في ليلة واحدة، كان والدي جريئا، حرّك مشاعر المشاهير وأعضاء مجلس الشيوخ لإنقاذ اليهود من مخالب النازية، ثم لتمويل قيام دولتهم المستقلة.

كان الحاضرون يتبرعون بسخاء في السلال التي أعدها المشرفون على الحفل، لم يكونوا يسألون ما إذا كانت هذه الدولارات ستذهب إلى “إرغون” المتطرفة أم “الهاغانا” المتوحشة، كل ما كان يقوله المشرفون أنها “ستنفق على أفضل وجه”، يا للسخرية، لم يدر بخلد المتبرعين كم أرواحا سيزهقون بدولاراتهم هذه.

ضرب مواقع الإنجليز.. أيرلندا أخرى في الشرق

كانت “إرغون” منظمة هرمية تعتبر نفسها شبه عسكرية، وكان “كوك” يشغل رتبة عليا فيها، ولذلك فقد كانت له مساهمة فعالة في تعيين قائد المنظمة في فلسطين، واختير “مناحم بيغن” لهذا المنصب. تقول ابنة “كوك”: ومع الوقت ندم والدي على اختيار “بيغن” لهذا المنصب.

ترعرع “بيغن” في روسيا وأرسله والداه للالتحاق بحركة “بيتار”، وهي حركة الشباب الصهيونية التي يقودها “زئيف جابوتنسكي”، وقد عين قائدا للمنظمة في فلسطين عام 1943، حيث استأنف هناك العمليات الإرهابية العنيفة ضد العرب والإنجليز، وكان من أبرزها الهجوم على فندق الملك داود الذي شكّل ضربة قوية للبريطانيين، ثم تلتها ضربة أقوى تمثلت في إعدام رقيبين بعد اختطافهما.

ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الصهيوني بعيد إعلان قيامها في 14 مايو/أيار 1948

لم تهدأ هجمات إرغون وشتيرن على الجنود الإنجليز ومعسكراتهم، فبحسب شهادات بعض الجنود الإنجليز المخضرمين، كان الصهاينة يباغتونهم ليلا بالأسلحة الرشاشة، ويلوذون بالفرار بسيارات عسكرية متطورة في ذلك الوقت.

ويقول آخر: وقع تفجير قطار ركاب أمامي وقتل 26 شخصا، وكان ذلك بأوامر من “بيغن”، هذا الإرهابي -الذي أصبح فيما بعد رئيس حكومة- لم يكن محترما على الإطلاق.

يعقد “بريسكو” مقارنة غير موفقة بين عمليات الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي كان يبحث عن استقلال بلاده من احتلال الإنجليز، وبين عصابات إرغون وشتيرن التي شنت عمليات الإرهاب المتطرفة على أرض ليست لها ضد مواطنين عزل هم أهل البلاد الأصليون.

إسرائيل.. دولة جيش بلا حدود ولا دستور

في مايو/أيار عام 1947 وبعد أشهر على العملية المروعة في فندق الملك داود أجلت بريطانيا جنودها عن فلسطين، وفتحت الباب على مصراعيه أمام عصابات الصهاينة لتدمير الأرض والإنسان الفلسطيني، وإنشاء دولة إسرائيل في 14 مايو/أيار 1948، وقد أعلنها “بن غوريون” وكان أول رئيس لحكومتها.

تقول “ريبيكا كوك”: كانت “إرغون” في نظر والدي حركة سياسية، وكانت له مفاهيمه الحكيمة في أسلوب قيام الدولة، ولكن “بيغن” لم يكن كذلك، فلم يفهم كيفية الترويج لفكرة قيام الدولة كما رآها أبي، وكان يتفاخر بأنشطته الإرهابية.

ناضل اليهود من أجل أن يحصلوا على وطن قومي لهم على حساب أرض وشعب فلسطين الذي لن يتنازل ولن يستسلم

وتقول “روث لامداند” وهي ابنة أحد الضحايا اليهود: لم يعتذر أحد عن هذه الجريمة، ولم يتصل أحد بنا للتعزية أو المواساة، ولم يتحمل أحد من المجرمين المسؤولية عن هذه المجزرة، ما زلت غاضبة على “بيغن” وعصابته، وحزينة على أبي حتى اليوم، بعد الحادث قاموا بنقلنا إلى تل أبيب، وعند عودتنا إلى بيتنا في القدس وجدنا أنهم قد سرقوا منه كل شيء.

وفي معرض تبريره لفعلته الشنيعة يقول “مناحم بيغن”: نشبت معارك كثيرة بين المسلحين والقوات المسلحة الإنجليزية، لم نلجأ لأسلوب الاغتيالات قط، ولم نكن ننوي إيذاء المدنيين، واعتدنا تحذيرهم من دخول المناطق الخطرة، ولم نلجأ قط للإرهاب، إطلاقا.

بينما تعارضه “ريبيكا كوك” قائلة: لم يتغير شيء بعد “الاستقلال”، عقلية الدولة الإرهابية هي السائدة، إسرائيل دولة بدون دستور ولا حدود حتى هذه اللحظة، “بن غوريون” سرق الجمعية التأسيسية ووجّهها إلى غير الوجهة التي انتخبت لأجلها، صرخ والدي “انقلاب”، ولكن لا شيء تغير، وشطبت كلماته من بروتوكول الكنيست، وبعد 70 عاما ما زلنا نبحث عن الذات، ونتلمس حدود “دولتنا”.

جدلية المناضل والإرهابي.. من يملك حق التوصيف؟

وعن تداعيات الجريمة تقول “غال” ابنة منفذ العملية: ظل أبي فخورا بكونه منفذ عملية التفجير، كان يعلمنا أن الحرية لها مذاق مميز، كان يحلم أن يكون القائد العام للجيش الإسرائيلي، وقد استاء كثيرا حين رفضتُ الانضمام إلى الجيش، بل وقطع علاقته بي، ولم يتقبل الأمر قط. لقد قال لي حينها: أنتِ لستِ ابنتي، وأنا في حداد متواصل عليكِ.

وتتابع: الآن يحدث شيء مغاير تماما، الفلسطينيون هم الذين يبحثون عن حريتهم الآن، الأمر معقد بالنسبة لي كإسرائيلية تتعاطف مع الفلسطينيين، وتقف إلى جانب مطالبهم بالحقوق المشروعة، وبدأت بتصوير أفلام حول المفهوم الفلسطيني للحرية.

ما زالت جدلية تحديد من هو المناضل الباحث عن الحرية، ومن هو الإرهابي المجرم أمرا عصيا على الفهم، وحده الشاهد على ذلك العصر هو الذي بإمكانه التمييز بين المناضل والإرهابي.