تفجير “محطة بولونيا”.. جريمة إيطاليا المستمرة منذ أربعين عاما

خاص-الوثائقية

“بعد ثلاثة أشهر من الهجوم، مررت بمتجر كبير بالقرب من مكان عملي، كانت دمى عرض الملابس عارية ومتناثرة على الأرض، ذكرني ذلك بمنظر الجثث في المستشفى، استخدموا مصلى المشرحة لتوفير مساحة أكبر لاستقبال العدد الكبير من الجثث، لم أتأثر عندما وقفت على الجثث المتناثرة يوم التفجير، ولكن عندما رأيت دمى العرض استحضرت المشهد وغبت عن الوعي”. هكذا وصف “باولو بولونيزي” مشهد تفجير قطار بولونيا وتداعياته على نفسه.

وبعد ما يقرب من أربعين عاما على الحادثة، وحرمان 85 قتيلا و200 جريح من حقهم في العدالة، فما زال “بولونيزي” -وهو قريب لأحد الضحايا- يمنّي نفسه بمعرفة الجناة الحقيقيين، وإصدار عقوبة رادعة بحقهم.

 

علمنا التاريخ الإيطالي أن الفاشية وإن كانت قاتلة، فإنها لم تكن لتصمد لولا أن الشارع الإيطالي وقف معها في مواجهة اليسار الشيوعي. هذا الصراع الذي بلغ أوجَه في فترة ما يعرف بسنوات الرصاص، كان موضوع فيلم بثته قناة الجزيرة الوثائقية، ضمن سلسلة “الإرهاب المنسي”، ويحمل عنوان: “محطة بولونيا”.

إعدام الطاغية “موسوليني”.. إيطاليا تخلع رداء الفاشية الظاهري

خرجت إيطاليا من الحرب العالمية الثانية مقسمة ومنكسرة، وأعدِم “بينيتو موسوليني” الدكتاتور الفاشي من قبل الشيوعيين الإيطاليين، إلا أن العداء بين الشيوعية والفاشية لم ينته بانتهاء الحرب، بل العكس هو ما حصل، فقد بقي الفاشيون مسيطرين على مقاعد سياسية وأمنية مهمة في البلاد، بينما أصبح الشيوعيون الحزب الأقوى في البلاد على مدى عقود.

وعلى الأرض استمر الصراع بين اليمين واليسار، فاليمين لا يريد للاتحاد السوفياتي أن يقود إيطاليا، واليسار لا يريد عودة الحكم الشمولي الدكتاتوري، وقد تلت ذلك سنوات من الصراع والتصفيات الجسدية فيما عرف لاحقا بسنوات الرصاص، فلم يفرق الرصاص المنهمر فيها بين صحفي وقاض ورجل دين أو سياسي، ناهيك عن مئات المدنيين الأبرياء.

إعدام الدكتاتور الإيطالي الفاشي موسوليني وحبيبته من قبل الشيوعيين الإيطاليين وتعليقهما بالمقلوب

 

يقول “فينشينزو فنتشيغيرا” وهو يمين فاشي: أنا شخصيا لا أحبذ القتل ولا سفك الدماء، أما سياسيا فقد حقق هذا الإجراء نجاحا، ولكن من الناحية الإنسانية فقد كانت وطأة الموت شديدة. في البدايات كان الصراع لا يتجاوز حوادث الضرب بالعصي في الأماكن العامة، ولاحقا أخذ الأمر منحى شديد العنف، واستخدمت الأعيرة النارية للمرة الأولى.

ويتابع “فينشنزو”: “لا أنكر أن اليمين المتطرف كان يلقى تعاطفا من الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى، وعلى الرغم من الصراع المحتدم بين الطرفين فإن اليمين لم يكن يحارب الدولة، بل دافع عنها وحماها لأنه يعتمد عليها.

بينما يقرر “فيليتشي كاسون” وهو قاضي تحقيق أن الاستخبارات تعاونت مع الجماعات اليمينية المتطرفة والفاشيين، ويضيف أن الحديث عن الإرهاب اليميني في بلد مثل إيطاليا أمر معقد للغاية، وعند التعامل مع أقسام معينة في الدولة على مستوى رفيع يصبح الأمر مدعاة للقلق، لقد كانت الدعوة القضائية المتعلقة بانفجار بولونيا بالغة الأهمية، وكانت العوائق كبيرة ضد من حاول السير في الاتجاه الصحيح.

يوم المذبحة.. عندما توقف الزمن في محطة بولونيا

يصف “ليساندرو فيجليتي” -ناظر محطة بولونيا وأحد الناجين من الانفجار ذلك اليوم- الانفجار بقوله: كان يوم السبت 2/8/1980 يوما استثنائيا في محطة بولونيا، كنت أعمل ناظر محطة على خط “بولونيا- فيرونا” لعامي الرابع، في البداية شعرت بهبوب ريح قوية، تبعها انفجار هائل ألقى بي عشرة أمتار إلى الخلف، ثم ساد صمت مطبق، قبل أن يبدأ الجميع بالصراخ.

ويتابع: كان والدي مثل أبناء جيله يعاني من مشكلة التعبير عن عواطفه تجاه أطفاله، لكنني عندما علمت أنه مشى أكثر من عشرة كيلومترات ليطمئن عليّ، أدركت كم كان يحبني، وعلى الرغم من أنه لم يقل إلا كلمات معدودة: “أرى أنك بخير”، فإن نظرتي تجاهه قد تغيرت بعدها إلى الأبد.

توقف الزمان في محطة قطار بولونيا يوم الثاني أغسطس/آب 1980 بعد الانفجار المدمر

 

وقد ضاعت بعض متعلقات “فيجليتي” الشخصية عدة أيام دون أن يشعر بفقدانها لهول الحادث، إذ يقول: في وقت متأخر من المساء اكتشفت أنني لا أرتدي ساعة عملي، لم أعتقد أنني سأجدها ثانية، وبعد حوالي عشرة أيام، اتصلت بي شرطة محطة القطار، وطلبوا مني المجيء إلى المحطة، وعنما وصلت أعادوا لي ساعتي، فقد عثروا عليها بين الركام، وكانت ساعة المحطة تشير إلى يوم التفجير فقد توقف الزمن هناك عند 10:25 صباحا، وقت ربما يشير إلى أكثر الأحداث حزنا في تاريخنا.

عائلات الضحايا.. سبع سنين عجاف من انتظار العدالة

يصف “باولو بولونيزي” يوم الانفجار بقوله: كانت محطات القطار مكتظة، وهنالك الكثير من التأخير، الجميع يود الذهاب إلى الشواطئ، وأكثرهم عالق في المحطات، يومها كنت قادما بالقطار مع والدتي وولدي وزوجتي وأمها من بازل، وكنا نود الذهاب إلى الجبال لقضاء فترة نقاهة، ولكن القدر عاجلنا، وخطف الموتُ والدة زوجتي، بعد أن سقط عمود عليها بفعل الانفجار الضخم، بينما نجت والدتي وابني بمعجزة.

في البداية ظن الناس أن مرجل غاز قد انفجر، إلى أن عُثِر على شظايا متفجرات، كان هجوما لم يقم بتبنيه أحد، وانطلق تحقيق كبير وأشارت الأدلة المبدئية إلى تورط منظمة “إن إيه آر” (N.A.R) في الهجوم، وهي منظمة فاشية جديدة زرعت حقيبة متفجرات، واعتقل على إثر ذلك 28 شخصا معظمهم أعضاء في تلك المنظمة، ولكن بعد عام أطلق سراحهم جميعا لعدم كفاية الأدلة.

عائلات الضحايا في مسيرات سنوية لمعرفة الحقيقة الغائبة

 

استمرت الاحتجاجات في كافة أنحاء إيطاليا مدة سبع سنين قبل أن تنطلق محاكمة المتهمين. يقول المدعي العام “يبيرو مانكوسو”: كلفني المدعي العام للجمهورية بالتحقيق جزئيا في هذه الحادثة، وكان واثقا من قدرتي على إيجاد شيء، وذلك لخبرتي السابقة في قضايا حساسة كثيرة مثل قضايا الألوية الحمراء، وكان عليّ قراءة آلاف الوثائق لفهم ما جرى والغوص في تاريخ وأحداث البلاد.

“كان عليهم أن يدفعوا الثمن”.. مراهقان سفاحان

يقول المدعي العام “يبيرو مانكوسو”: قادني بحثي المتواصل في الوثائق إلى شخصية كل من “مامبرو” و”فيورافانتي”، وبعد تعقُب خط سيرهما وجدنا أنهما كانا قد وضعا المتفجرات والأمتعة في محطة بولونيا. في البداية كانا قد وصلا إلى روما بالطائرة ثم توجها إلى “باليرمو” ومنها إلى صقلية، حيث قاما بقتل عضو في المافيا، اسمه “مانجاميلي”، بحجة أن لديه معلومات كان ينبغي أن لا يعرفها، ثم أشير إلى أنهما متهمين بانفجار بولونيا.

اعتقل “فاليريو فيورافانتي” و”فرانشيسكا مامبرو” باعتبارهما الشخصيتين الرئيسيتين وراء الانفجار في بولونيا، ثم قاما أثناء جلسات المحاكمة بتقديم معلومات مضللة عن حجة غيابهما، وكانا يحاولان أن يظهرا بمظهر المراهقين البريئين ويتحدثان بعفوية ويتضاحكان، ولكن كان من المعلوم أنهما عضوان مهمان في منظمة فاشية يمينية متطرفة.

الصديقان المجرمان “مامبرو” و”فيورافانتي” منفذا عملية تفجير بولونيا يُحكمان بـ 250 سنة ويخرجان بعد 20 سنة فقط

 

كان مظهرهما المريب في المحاكمة يدل على أنهما مطمئنان للخروج ببراءة، كانا يعتمدان بثقة على جهة رسمية ما لإخراجهما من هذه الورطة، بل إنهما كانا يخبران المدعي العام بأن عليه أن لا يضيع مزيدا من وقته الثمين في التحقيق معهما.

بعد الإفراج عنه بسنين يقول المتهم “فيورافانتي”: في السابق كنت مجرما أطلق النار على كل من يرتدي الزي الرسمي، وقد هاجمت قضاة وشرطة وصحفيين، وحكم عليّ بـ33 قضية قتل مختلفة، ثم تبعتها إدانتي بتفجير بولونيا، كان معظم الضحايا من رجال الشرطة، كان عليهم أن يدفعوا الثمن، لقد قتلوا واعتقلوا الكثير منا، لقد تعرضتُ للإصابة أنا وزوجتي عدة مرات نتيجة إطلاق النار علينا.

“هنالك من أخفى الأدلة متعمدا”.. حين تحمي الدولة الإرهاب

كان “مامبرو” و”فيورافانتي” مراهقيْن عندما انضما إلى الفاشية، وارتقيا لأعلى الرتب في الخلايا المسلحة الثورية، وهدفها إبادة الشيوعيين، كانا لا يترددان في إطلاق النار على كل من يشتبهان في كونه شيوعيا، حتى لو كان مدنيا عاديا، وكان يسود بينهما تفاهم وتناغم، وكل منهما يشعر بأن الطرف الآخر يدافع عنه ويغطي على تجاوزاته، وكمراهقيْن لم يجهدا نفسيهما في التفكير في عواقب ما يقترفانه.

وصلا إلى محطة بولونيا ومعهما حقيبة محملة بـ25 كيلوغراما من المتفجرات الخطرة، ثم وضعا الحقيبة على إحدى الطاولات في قاعة الانتظار، وتركاها هناك وفجراها وقتلا 85 شخصا، كان لديهما سجل حافل بالجرائم والملاحقات وسيرة ذاتية إجرامية.

المتهم الأول في التفجير قبل وبعد خروجه من السجن

 

المشكلة أن الدولة كانت متهاونة معهما، بل إن من كانوا يتولون مناصب التحقيق والقضاء كانوا يعرقلون إجراءات إدانتهما، وفي النهاية ها هم أصبحوا طلقاء يتمتعون بكامل الحرية، لقد قضيا مدة العقوبة وهي عشرين عاما أو أقل، ولكن أليس حجم الجريمة أكبر بكثير من العقوبة؟

ويتذكر “فيورافانتي” يوميات المحاكمة: كانت محاكمتنا سيئة، لكن لاحقا حصلنا على تضامن وتعاطف القضاة الآخرين، وها نحن خرجنا على كل حال. أغرب ما في المحاكمة هو أنهم لم يعثروا على أي دليل ضدنا، يبدو أن هنالك من أخفى الأدلة متعمدا، إنهم الاستخبارات، هكذا كانوا يقولون، يمكن هذا، ويمكن كذلك أنهم كانوا يبحثون في الاتجاه الخاطئ.

“عمل قذر لا يقوم به إلا الشرفاء”.. تورّط الاستخبارات

في أواخر الثمانينيات بينما كانت إجراءات المحاكمة مستمرة تكشفت خيوط تشير إلى أن التفجير يورط جهات أخرى غير اليمين المتطرف، فثمة إثباتات على أن أعضاء من الاستخبارات زوّروا أدلة لتضليل المحققين والقضاة، وقد اكتشف المحقق “كاسون” تقريرا سريا يثبت تعاون الاستخبارات مع اليمين المتطرف.

الدافع من الإرهاب هو جعل الناس يشعرون بمزيد من الخوف على حياتهم، وبالتالي دفعهم إلى التصويت للأحزاب الاستبدادية للعودة إلى السلطة، فأحزاب قوية ودولة مسيطرة -حتى وإن كانت مستبدة- خير من يساريين وشيوعيين يضعفون الجيش ويحدون من سلطات الشرطة، لقد كان للاستخبارات الإيطالية نهج يتماشى مع اليمين المتطرف، ولذلك عمدوا إلى تضليل المحققين.

لكن “باولو إنزيريلي” رئيس الاستخبارات في فترة الثمانينيات كان له رأي آخر، إذ يقول: أستبعد تدخل الاستخبارات، لقد عملت هناك مدة 17 عاما، وفي النهاية أصبحت رئيس الاستخبارات، أستبعد بشكل قاطع اشتراك الاستخبارات في أي مذبحة.

يستبعد “باولو إنزيريلي” رئيس الاستخبارات في فترة الثمانينات تدخلهم في هذه الجريمة المنظمة

 

قاد “إنزيريلي” الاستخبارات وعملية “غلاديو” وهي منظمة سرية شبه عسكرية أسستها الاستخبارات الأمريكية لدعم حزب الناتو، وفي هذه المنظمة كان كل شيء مباحا للقضاء على الشيوعية والحد من امتدادها في أوروبا، وقد زودت بالأسلحة من أمريكا، وكانت مخصصة لأغراض التدريب فقط.

يصف “إنزيريلي” عمله قائلا: الاستخبارات عمل قذر لا يقوم به إلا الشرفاء، يجب أن تكون نبيلا لا تسرق ولا تخون، كنت أتعامل مع مليارات الليرات وأنا أقود غلاديو، فقد كان علينا أن نقنع الإيطاليين بالخطر الشيوعي الذي يتهددهم، وبالتالي ليطمئنوا لنا ويدعمونا.

ويتابع: كما قلت لك، لم نستخدم الأسلحة إلا للتدريب. كانت مرة واحدة فقط استخدمنا فيها السلاح خارج نطاق التدريب في بولونيا، حين استخدمناها لأغراض التضليل، أذكر أنهم زرعوا حقيبة مليئة بالمتفجرات في قطار، هناك ضباط فاسدون كان يجب ألا تطأ أقدامهم الاستخبارات. يبدو أنني سآخذ إجابات كثير من التساؤلات معي إلى القبر؛ من فعل هذا، ولماذا فعله، وأين ومتى.

“إن الدولة هي الإرهابية”.. وشهد شاهد من أهلها

يقول المدعي العام “مانكوسو” متحدثا عن تواطؤ الاستخبارات مع اليمين المتطرف: بعد خمسة أشهر من الحادثة وتحديدا في يناير/ كانون ثاني 1981 وجدوا شحنة متفجرة على متن أحد القطارات تحمل نفس مواصفات الشحنة التي تفجرت في بولونيا، واعترف عميل من الشرطة العسكرية أنه زرع المتفجرات، بالإضافة إلى مدفع رشاش ووثائق مزورة لتضليل القضاة.

يقول “فينشينزو فنتشيغيرا” -وهو فاشي ومدان بقتل ثلاثة من الشرطة-: من المضحك أن تدعي الاستخبارات أنها لم تقتل أحدا، فمعظم الناس يموتون إما بالانتحار أو حادث سيارة أو بالسقوط من النافذة، فهم لا يقتلون بشكل رسمي، من غير اللائق القول إن الدولة تقتل رعاياها، فالدولة بدأت مهمة محددة، وجّهها قادتها وحدُّوا حدودها، ولذلك بوسعي أن أقول إن الدولة هي الإرهابية.

العميلان السرّيان اللذان وضعا المتفجرات في عربة قطار بتهمة تضليل العدالة

 

أدين العميلان السرّيان اللذان وضعا المتفجرات في عربة قطار بتهمة تضليل العدالة، وثبت أن “فانتي” و”مامبرو” مجرما تفجير بولونيا، وحُكم عليهما بعشرة أحكام بالسجن مدى الحياة، بالإضافة إلى 250 عاما أخرى. وبعد عشرين عاما عفي عنهما، كما عفي عن باقي الإرهابيين في سنوات الرصاص، باستثناء “فنتشيغيرا” الذي رفض العفو بحجة أن عناصر من اليمين المتطرف قد خانوه.

يقول “فينتشيغيرا” عن نفسه: أنا من القلائل الذين لم يكن لهم تواصل مع الاستخبارات، ويؤسفني أن أقول إن الآخرين لم يكونوا كذلك. سجنت لمدة أربعين عاما إلا قليلا، وكان مطلوبا أن أبدي شيئا من الندم والذل وتخفيض الرأس حتى أخرج من السجن، كلهم تنازلوا عن قناعاتهم السياسية حتى يخرجوا، أنا لم أفعل ذلك، ولذلك تأخر الإفراج عني.

“لن تحصلوا على أي معلومة، ولكن يمكنكم أن تعيشوا بسهولة”

يقول “فانتي” بعد الإفراج عنه: أعلم أن هناك أشخاصا يقولون إن الاستخبارات ساعدتنا، وهذا شائع في كل قضية، ولا أستطيع أن ألومهم أو ثنيهم عن رأيهم، نحن لا نتحمل أي مسؤولية عن التفجير، فذاك لم يكن أسلوبنا ولا خيارنا، فقد أرادوا فقط أشخاصا يحملون التهمة حتى يهدأ الجمهور، وأنا أتفهم اللعبة جيدا، فثمة شبكة شكلت بواسطة استخباراتنا، وما تزال تعمل.

ويتابع متحدثا عن أسلوب الدولة في اللعب تحت الطاولة من أجل تنفيذ خططها الأمنية: نحن الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم يحصل فيها تفجير من قبل الإسلاميين، وهذا أمر جيد، وما زالت ابنتي تركب القطار دون خوف من التفجير. ربما حمّلوني التهمة من أجل حماية أشخاص كانوا أنفع لخططهم، وأنا لا أمانع في ذلك ما دمت أعيش الآن حياة كثيرة، وأنا كذلك. فقد قالها لنا رئيس جمهورية سابق، وكذلك العديد من الضباط: لن تحصلوا على أي معلومة، ولكن يمكنكم أن تعيشوا بسهولة.

لا تزال العدالة لم تأخذ مجراها حتى بعد سجن المتهمين عشرين عاما، وهو ما يطالب به أهالي الضحايا

 

ما زال ذوو الضحايا يخرجون للاحتجاج كل سنة، يريدون معرفة حقيقة ما جرى، ويطالبون بمحاكمة عادلة للجناة الحقيقيين، وما زالت إجراءات قانونية تُتخذ كل عام لاكتشاف أسباب التفجير وما إذا كانت الدولة تتحمل المسؤولية، فالقضية طويلة ومعقدة، إذن فالدولة خصم وليست صديقة لمواطنيها.

تفجير بولونيا.. حقيقة معروفة غير معلنة

في عام 2018 -أي بعد 38 عاما من الهجوم- بدأ تحقيق جديد في مصادر المتفجرات. يقول “دانييلو كوبي” خبير المتفجرات: لا أعرف ما الأفضل بالنسبة للدولة، أشخاص يعيقون عملية التحقيق بشكل متعمد، أم أشخاص لا يجيدون التحقيق بشكل صحيح، يفضل الكثيرون الحقيقة المغلوطة على عدم وجود حقيقة.

ويتابع “كوبي”: لا يأبه ذوو الضحايا بمعرفة نوع المتفجرات المستخدمة في الهجوم، وهذا لا يعجبني، فقط يهمهم معرفة أدلة مؤكدة بشأن القضية، وهنا في إيطاليا يؤسفني القول إن معظم المذابح ليس عليها أدلة قاطعة.

ويقول المدعي العام “مانكوسو”: أعتقد أن الحقيقة معروفة لكنها غير معلنة، فلا تحقيق فيها ولا هي جزء من التاريخ الوطني، وللتخلص من هذه الآليات الإجرامية، علينا التعرف إلى تاريخنا، حتى عندما يكون الأمر صعبا ومؤلما، ودون المزيد من التحقيق والمعرفة، فلن نتخلص مطلقا من القوى المنظمة المحركة التي تحكم بلادنا.

مدعي عام الجريمة الذي كشف عن خيوطها والمتورطين فيها

 

ويقول خبير المتفجرات “كوبي”: هذا بلا شك من أصعب التحقيقات التي عملت فيها، وعند التفكير بشأن تفجير خلّف 200 مصاب و85 قتيلا فهذا يعني أن التفجير تسبب بفوضى عارمة كانتشار حطام الضحايا وأشلائهم وأمتعتهم. بالنسبة للمحقق الذي دخل مشهد الكارثة في ذلك الوقت، فلا بد أنه كان من الصعب عليه إملاء الأوامر في تلك الفوضى.

ويضيف: في الحقيقة كان علينا كإيطاليا البدء من جديد نظرا لعدم صحة التقارير السابقة، هنالك ثلاثة أسئلة لم يجيبوا عنها، وهي مهمة في أي تحقيق من هذا النوع: ما الذي انفجر؟ وما حجم الانفجار؟ وما الذي تسبب بالانفجار؟ ما زلت أزور ذوي الضحايا وأجمع المعلومات، فأنت إن كنت مستعدا، فبإمكانك الحصول على دليل، حتى بعد 38 عاما.

ستظهر الحقيقة بعد 40 أو 50 عاما، لا يهم ذلك، المهم أنها ستظهر، وسنحتفل جميعا بظهورها، وحتى ذلك الوقت يجب أن نعيش حياتنا بسعادة واهتمام، ونحاول أن نتجنب الاستهتار والتلقائية.