حصار قطر.. حين ينقلب السحر على الساحر

خاص-الوثائقية

دفع النزاع دولة قطر إلى اتخاذ خطوات إصلاحية مفيدة ما كانت لتتخذها

“تشير تجارب الماضي بشكل واضح، إلى أن الحصار والحظر لا ينتجان دائما النتائج المقصودة لحظة اتخاذ قرار فرضهما”. هكذا تحدّث كتاب “الحصار من منظور تاريخي” لصاحبيه روبرت دوكتي وهارولد روف، والصادر سنة 1991[1].

تحليل المعطيات الخاصة بحالات الحصار والحظر التي عرفها تاريخ البشرية على مدى قرون طويلة، يفيد حقيقة إستراتيجية: غالبا ما تفشل هذه الأساليب في إرغام الدول على تغيير سياساتها، بل غالبا ما تفضي إلى نتائج عكسية. وحصار قطر الذي أنهى عامين كاملين، كان بدوره قرارا محفوفا بالمخاطر، اتخذ دون رؤية واضحة، ولا أخذ بعين الاعتبار ما تحفل به سجلات التاريخ من حالات مماثلة آلت إلى الفشل[2].

الدراسات المتخصصة تقول إن عمليات الحصار والحظر تؤول حتما إلى الفشل عندما تتعلّق بدول ذات ساكنة محدودة، وتتمتع بموارد كبيرة، ولا ترتبط بالبلدان المحاصرة لها بشراكات تجارية تجعلها عاجزة عن الحصول على مواد أساسية.. وهو ما يكاد ينطبق على الحالة القطرية.

 

الاختراق الأول

سنتان من الحصار ابتدأتا باختراق موقع وكالة الأنباء القطرية (قنا) وفبركة تصريحات منسوبة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، يزعم أصحابها أنه اعتبر إيران ضامنة لاستقرار منطقة الخليج، وأن التوتّر مع الولايات المتحدة الأمريكية لن يدوم.

وكمن يريد أن يكذب الكذبة ويصدّقها، دخلت وسائل إعلام سعودية وإماراتية في حملة محمومة لترويج تلك التصريحات المزعومة، مع حجب قناة الجزيرة داخل المملكة العربية السعودية لمنع وصول الرواية المضادة إلى الشعوب الخليجية، وتبرير خطوة الحصار التي كانت مبرمجة سلفا.

كان الاختراق الذي تعرضت له وكالة الأنباء القطرية في 23 مايو/أيار 2017 والذي مهد للحصار على قطر، محطة مفصلية في مجال الجريمة الإلكترونية والأمن السيبراني في منطقة الخليج خاصة. فهذا الاختراق كشف عن تنامي استخدام الإمارات والسعودية للهجمات الإلكترونية وتحولـها إلى سياسة ممنهجة ضد المعارضين والناشطين الحقوقيين والخصوم السياسيين[3].

في الثاني من يونيو/حزيران 2017، كُشف النقاب عن وجود محققين من مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) في الدوحة للمشاركة في التحقيقات الخاصة باختراق وكالة الأنباء القطرية. وإثر ذلك بثلاثة أيام، أي يوم 5 يونيو/حزيران 2017، أعلنت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وبدء حصارها، وطلبت من الدبلوماسيين القطريين المغادرة، وأغلقت كافة المجالات والمنافذ الجوية والبرية والبحرية مع الدوحة[4].

قدّمت دول الحصار الأربع 13 مطلبا أمهلت قطر 10 أيام لتنفيذها، أهمها خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية على أراضيها وإلغاء التعاون العسكري معها، وإغلاق قناة الجزيرة وكافة وسائل الإعلام التي تدعمها قطر بشكل مباشر أو غير مباشر، والكف عن تجنيس مواطنين تابعين لهذه الدول وطرد من سبق أن جنستهم. كما طالبت دول الحصار قطر بدفع تعويضات لهذه الدول عن أي ضرر أو ما تكبدته من مصاريف خلال السنوات الماضية بسبب سياستها..[5]

 

القرصنة الثانية

بعد ثلاثة أيام من إعلان القطيعة، تعرضت مواقع شبكة الجزيرة ومنصاتها الرقمية لمحاولات اختراق ممنهجة ومتزايدة، كما تعرض الموقع الإلكتروني لتلفزيون قطر لمحاولات مماثلة قبل أن تتصدى لها أنظمة الحماية. واستهدفت محاولات الاختراق الممنهجة والمستمرة كل أنظمة شبكة الجزيرة ومواقعها ومنصاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، وشهدت هذه المحاولات تزايدا كبيرا وباتباع أساليب مختلفة.

دول الحصار ورغم ردود الفعل الدولية والإقليمية الرافضة لقراراتها، زادت في هروبها إلى الأمام، وقررت وضع قائمة بأسماء شخصيات ومنظمات مرتبطة بقطر أو مستقرة بها، معتبرة إياها إرهابية،  من بينها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي، وكذلك 12 هيئة منها مؤسستا قطر وعيد الخيريتان، فيما ذهبت الإمارات إلى إعلان أن إبداء التعاطف مع دولة قطر أو الميل نحوها أو محاباتها بأي تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي سيعاقب بغرامة مالية باهظة لا تقل عن خمسمئة ألف درهم والسجن النافذ لمدة تصل إلى 15 عاما.[6]

شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية كشفت حينها أن المحققين الأمريكيين توصلوا إلى معطيات مفادها أن قراصنة روس شاركوا في عملية الاختراق، فيما كشفت صحيفة “واشنطن بوست” منتصف يوليو/تموز 2017 أن الإمارات تقف وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية ومواقع حكومية أخرى، وهو ما أدى إلى اندلاع أزمة الخليج، موضحة أن مسؤولين كبارا في الحكومة الإماراتية ناقشوا خطة قرصنة وكالة الأنباء القطرية في 23 مايو/أيار 2017، أي قبل يوم من حادث القرصنة[7].

وقد أكدت هذه المعطيات قناة “إن بي سي” الأمريكية يوم 19 يوليو/تموز 2017، حين نقلت عن مسؤولين أمريكيين تأكيدهم صحة التقارير عن قرصنة الإمارات وكالة الأنباء القطرية[8].

ونقلت القناة الأمريكية عن مسؤولين في واشنطن قولهم إن فبركة التصريحات المنسوبة إلى أمير قطر وشن الهجوم على هذه الدولة، يرمي إلى الإضرار بعلاقاتها مع واشنطن. وهو تعليق يجد مصداقيته في كون الحملة جاءت بعد أيام قليلة من قمة الرياض الأمريكية الإسلامية التي انعقدت يوم 20 مايو/أيار، أي قبل ثلاثة أيام فقط من اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية الممهد لإعلان الحصار.

وشكلت تلك القمة -التي سجّلت أول زيارة خارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ دخوله البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2017- مؤشرا على انطلاق سياسة أمريكية جديدة تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وهو ما دفع رباعي الحصار إلى تحرّكه الرامي إلى فرض رؤية معينة لمستقبل هذه العلاقات[9].

 

قمة الرياض.. بداية الغدر

تضمنت قمة الرياض اجتماعا ثنائيا بين الولايات المتحدة والسعودية، واجتماعين آخرين، أحدهما مع دول مجلس التعاون الخليجي والآخر مع الدول العربية والإسلامية (56 دولة). كما جرت القمة وسط احتفالية كبيرة من السعودية بضيفها الكبير، وفيها وقعت اتفاقات ومشاريع  وجرت في دهاليزها تفاهمات كان لها الأثر البالغ في زيادة منسوب التوتر في المنطقة بذهاب الدول الأربع (السعودية والبحرين ومصر والإمارات) إلى حصار قطر[10].

ما نشرته الصحافة الأمريكية عن كواليس تلك القمة، يصب في كونها جاءت ضمن مخطط مسبق التحضير يرمي إلى توطيد علاقات كل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، مع صهر ترامب ومستشاره في شؤون الشرق الأوسط جاريد كوشنر الذي بات اسمه يقترن بما يعرف إعلاميا “صفقة القرن” الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية.

الصحافة الأمريكية لم تكتف بالتحليلات، بل نشرت معطيات تفيد بإجراء اتصالات مكثفة بين كوشنر وولي العهد السعودي قبل وقت طويل من تنظيم قمة الرياض، حيث حاول الأمير السعودي الحصول على “الاعتماد” ليصبح وكيلا معتمدا لدى الأمريكيين لتمثيل مصالحهم في المنطقة العربية، وبالتالي إطلاق يده فيها.

ثمن هذا التفويض الموعود دون أن يتحقق حتى الآن، كان مئات المليارات من الدولارات، والتي لا يتردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعدادها أمام عدسات الكاميرات، والتي يعمل على نيل المزيد منها كلما احتاج إلى الرفع من شعبيته داخل أمريكا. كما تربط الصحافة الأمريكية بعد ذلك بين جل خطوات ولي العهد السعودي وبين اتصالاته ولقاءاته بجاريد كوشنر[11].

 

نار وغضب في الخليج

في كتابه “نار وغضب.. داخل بيت ترامب الأبيض”، يقول الكاتب مايكل وولف إن دونالد ترامب عندما شرع في التعامل الفعلي مع ملف الشرق الأوسط، قرر إحداث قطيعة مع سياسة الرئيس السابق باراك أوباما التي كانت تقوم على معادلة متعددة الأطراف وفائقة التعقيد من التهديدات والمصالح والصفقات، مكلفا صهره ومستشاره جاريد كوشنر بهذه المهمة.

وعندما بدأ مهندس صفقة القرن جاريد كوشنر التفاوض مع السعودية، اختار منذ البداية ألا يتعامل مع ولي العهد آنذاك محمد بن نايف، رغم ما كان يربطه من صلات طويلة وحميدة بصانعي السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصا داخل وكالة الأمن القومي، بل اختار ولي ولي العهد حينها محمد بن سلمان، متجاهلا اعتراض وكالة الأمن القومي.

يقول الكتاب إن نجل العاهل السعودي هو من بادر بالاتصال بكوشنر مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأخبره أنه مستعد أن يلعب دور وسيط دونالد ترامب الذي يمكن أن يعول عليه في ملفات المنطقة، فكان جواب كوشنر وجيزا “إذا أعطيتنا ما نريد ستحصل على ما تريد”[12].

الكاتب يقول إنه وبناء على تلك الاتصالات، وُجّهت الدعوة لمحمد بن سلمان لزيارة واشنطن رسميا في مارس/آذار 2017، وهي الزيارة التي شهدت هندسة مجموعة من التحولات في الشرق الأوسط التي حدثت في أعقاب زيارة ترامب إلى السعودية في مايو/أيار 2017.

مؤلف “نار وغضب” يقول إن ترامب قال للمحيطين به قبيل قمة الرياض، إن اتفاقه المقبل مع السعودية يقضي بتمويل الرياض لوجود عسكري أميركي جديد في السعودية ليحل محل القيادة الأميركية الموجودة في قطر، ودعم السعودية ومصر لإطلاق مفاوضات إسرائيلية فلسطينية ستغير اللعبة بشكل كبير وغير مسبوق.

وأضاف ترامب “ستقوم السعودية بشراء صفقات ضخمة، 110 مليارات دولار فورية و350 مليار دولار على مدى 10 سنين.. سيستثمرون المليارات في الولايات المتحدة، وستُخلق الكثير والكثير من فرص العمل”. ويذهب الكاتب إلى أن ترامب أكد لأصدقائه أيضا أنه تحدى نصائح صانعي السياسة الخارجية الأمريكية ووافق على إعطاء الضوء الأخضر للسعودية من أجل “الاستئساد” على قطر[13].

ونشرت صحيفة غارديان البريطانية تقريرا يوم 24 يونيو/حزيران 2017، يكاد يطابق رواية كتاب “نار وغضب”، حيث قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بتأييد الحصار على قطر، بالرغم من انتقاد الدبلوماسيين الأميركيين بشدةٍ للحصار، سببه عقود من التعاملات التجارية بين الرئيس الأميركي والدول التي تقود الحملة ضد الدولة الخليجية الصغيرة[14].

 

اكتشاف صراع جديد لواشنطن

الأزمة الخليجية المستمرة منذ عامين فتحت أعين المراقبين والمحللين الدوليين على جانب آخر من الانقسام في المنطقة العربية، مخالفة لتلك التقليدية القائمة على فكرة الصراع بين السنة والشيعة. وتركّز الوجه الجديد للخلاف داخل المعسكر السني في فكرة الموقف من الإسلاميين، بين من يؤمن بحقهم في الوجود وربما يدعمهم، وبين من يسعى إلى استئصالهم والقضاء عليهم[15].

ويقول تقرير موجه لأعضاء ولجان الكونغرس الأمريكي جرى إعداده في أبريل/نيسان 2019، إن السياسات المستقلة لقطر تجاه الهيمنة السعودية في المنطقة، ووقوفها إلى جانب الإخوان المسلمين إلى جانب رعايتها لشبكة “الجزيرة” التلفزيونية ذات الخط المنتقد للأنظمة السياسية في المنطقة، كلها عوامل أدت إلى تفجير الهجوم عليها من طرف رباعي الحصار[16].

ويوضّح التقرير الأمريكي أن اتفاقا عسكريا يجمع بين واشنطن والدوحة منذ العام 1992، وبناء عليه يوجد قرابة 13 ألف عسكري أمريكي في قطر داخل المقر الإقليمي للقيادة المركزية للجيش الأمريكي، وعدد من القواعد الجوية الأمريكية. ولم يمنع إعلان الحصار من جانب الدول الأربعة قطر من الدخول في حوار إستراتيجي مع أمريكا وتوسيع الاتفاق العسكري الذي يربط بين البلدين، فيما جرى الاتفاق في شهر يناير/كانون الثاني 2019 على توسيع قاعدة العديد الأمريكية في قطر[17].

 

مفعول عكسي

في الوقت الذي كان منفذو الحصار يعتقدون أنه سيؤدي إلى انهيارات سريعة في الاقتصاد والدبلوماسية القطريين، سجّلت جل التقارير الصادرة عن مؤسسات دولية ومراكز بحثية ذات مصداقية أن المفعول كان عكسيا وأدى إلى تطوير قدرات ذاتية كبيرة في قطر حالت دون الانعكاسات السلبية المقصودة. فالخطوط الجوية القطرية فتحت 25 وجهة جوية جديدة أمام طائراتها خلال العام 2018، كما رفعت من عدد طائراتها، وعززت موقعها التنافسي باتفاقيات جديدة خاصة مع الاتحاد الأوروبي[18].

هذا الصمود الذي أبدته قطر في وجه هذه العاصفة الطويلة تجسده بعض الدراسات في موضوع الهوية القطرية التي تشكَّلت عبر تاريخ هذه الدولة الفتية في تزاوج سلس بين المحافظة والانفتاح. وعلى خلاف دول الحصار التي رأت في صغر حجم قطر وقلة عدد سكانها نقطة ضعف يمكن أن تؤتى من قِبلها، يرى البعض أن هذا العامل مثَّل، بالعكس، إحدى نقاط القوة. لقد أسهم عامل الصغر” هذا في تكتيل الشعب القطري حول قيادته وإفشال مخططات دول الحصار لإضعاف الجبهة الداخلية وإحداث الفراغ من حول القيادة[19].

 

عناصر الصمود

على المستوى الخليجي، مثَّل حياد دولة الكويت وسلطنة عُمان رصيدًا لقطر وإن لم يكن داعمًا لها بشكل مباشر، فمجرد مخالفة هاتين الدولتين للموقف السعودي الإماراتي يعني أن الموقف الخليجي لم يكن موحدا في مواجهة قطر. فالحياد الظاهر لكل من الكويت وعُمان هو في جوهره انحياز للسردية القطرية، ويتجلى ذلك في كون مجلس التعاون الخليجي كأداة أرادت دول الحصار استخدامها لخنق قطر وعزلها خليجيا ثم عربيا، جعلته “الممانعة” الكويتية العُمانية يحبط ذلك المسعى ويمكّن قطر من الاحتفاظ بكافة استحقاقات عضوية المجلس[20].

إقليميا، لعب العاملان التركي والإيراني دورا كبيرا في ردع دول الحصار وفك الخناق الاقتصادي والتمويني عن قطر. فقد سارعت قطر للبحث عن بدائل تسندها وتعدِّل الكفَّة نسبيا مقابل الخلل الهائل في حجم القوة التقليدية التي يملكها المحاصرون. وهكذا اعتمدت قطر سياسة الانفتاح الانتقائي على طهران لأغراض تموينية بدرجة أولى، فيما اتجهت من جهة أخرى إلى حليفها التركي الذي ساعدها على امتصاص الصدمة الأولى وأسهم بشكل رئيسي في إفشال الحصار ومنع الأزمة من التحول إلى صراع عسكري[21].

في الدوائر الأوسع للعلاقات الخارجية القطرية، كسبت الدوحة موقفا قويا من جانب المغرب الذي أبان عن جرأة ووضوح دبلوماسي جلي بدعوته المتنازعين إلى ضبط النفس، وعرضه الوساطة بينهما. كما تمكنت قطر كذلك من كسب تأييد القوى الرئيسية في أوروبا وآسيا والابتعاد نسبيًّا عن موقف دول الحصار.

وعلى غرار الموقف الأوروبي، كان للدول الآسيوية الكبرى دور أساسي في صمود قطر الاقتصادي، خاصة وأن القوى الرئيسية في آسيا تعتمد بشكل كبير على الغاز القطري مثل الصين واليابان والهند إلى جانب النمور الآسيوية وكل من كوريا الجنوبية وسنغافورة[22].

أما في الواجهة الأمريكية، وبعد التأخر الذي سجله المراقبون في تمتين قطر علاقاتها مع واشنطن –على عكس خصومها الخليجيين- فتجسد في انقسام موقف الإدارة الأمريكية في البداية بتأييد الرئيس ترامب للتحرّك المعادي لقطر مقابل تحفّظ الخارجية؛ غير أن التركيز الدبلوماسي القطري المكثف على الموقف الأميركي، والتحرك النشط في واشنطن، أثمرا تدريجيا تحولًا في موقف الرئيس ترامب من الأزمة[23].

 

الابتكار في مواجهة الحصار

في الواقع، دفع النزاع دولة قطر إلى اتخاذ خطوات إصلاحية مفيدة ما كانت لتتخذها، من قبيل تخفيف إجراءا الحصول على تأشيرة الدخول وتنويع الشركاء التجاريين، كما أن صندوق النقد الدولي قال إن النزاع تحول إلى حافز لدى قطر لتعزيز الإنتاج الغذائي المحلي والتقليل من الاعتماد على بعض الدول في ذلك.

وإذا كانت بعض الأنشطة الاقتصادية قد تأثرت بالفعل، فإن أخرى حققت نجاحات، من قبيل ما تحدث عنه تقرير لصندوق النقد الدولي في مارس/آذار 2018، من قبيل فتح منافذ تجارية جديدة بشكل سريع مع كل من تركيا وعُمان وإيران، من بين دول أخرى عديدة، كما تم تعديل النظام المصرفي، خاصة عبر الزيادة من الودائع الحكومية[24].

حتى الدول الخليجية الثلاث التي شاركت في الحصار، لم تكن في حقيقة الأمر قاسية في تنفيذ ما أعلنته في البداية، خاصة في المجالات التي تمس مصالحها. فالغاز القطري استمر في التدفق عبر خط الأنابيب الممتد بين قطر والإمارات وسلطنة عمان، نظرا لحاجة هذه الدول إليه. كما واصلت الإمارات وقطر تعاونهما في الحقل البحري المشترك، بل تم تجديد امتياز استغلاله مع تجمع شركات يابانية[25].

صحف غربية متخصصة، قالت إن قطر فاجأت الجميع بقدرتها الكبيرة على الابتكار في مواجهة الحصار، وأكثر الإجراءات المنطوية على قدر كبر من المفاجأة، كان استيراد نحو 14 ألف بقرة تم نقلها جوا إلى قطر بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة الحليب[26].

أكثر من كل هذا، أقدمت قطر رغم حالة الحصار على خطوات كبرى أهمها إعلانها الانسحاب من منظمة الأوبك بدءا من يناير/كانون الثاني 2019. وبررت الدوحة القرار برغبتها في تركيز جهودها على خططٍ لتطوير إنتاجها من الغاز الطبيعي وزيادته من 77 مليون طنّ سنوياً إلى 110 ملايين طنّ في السنوات المقبلة[27].

 

بعد عامين.. من يفك الحصار عن دول الحصار؟

وقبل أسبوع واحد من حلول الذكرى السنوية الثانية لفرض الحصار الرباعي على قطر، نشرت وكالة “بولمبيرغ” الأمريكية افتتاحية تقول إن إنهاء هذا الحصار بات أمرا حيويا بالنسبة للمصالح الأمريكية، باعتباره يحول دون تشكيل جبهة موحدة في مواجهة إيران[28].

وقالت الوكالة إنه وضمن كل الانقسامات والخلافات التي يعرفها العالم العربي، يعتبر هذا الحصار الأكثر إضرارا بالمصالح الأمريكية في المنطقة. ويضع هذا الحصار -حسب “بلومبيرغ”- حلفاء أمريكا مثل الكويت وسلطنة عمان في حرج كبير، لعلاقاتهما الوثيقة مع قطر، واحتفاظهما بصلات مع إيران، لكنهما في الوقت نفسه غير قادرين على معاداة السعودية.

وقد شهد الحصار تراجعا مرحليا من جانب سلطات الإمارات التي رفعت الحظر عن السفن القادمة من الموانئ القطرية وباتت تسمح لها بدخول موانئها شريطة عدم رفع العلم القطري، كما وجّهت السعودية دعوة رسمية إلى أمير قطر لحضور القمم الخليجية والعربية والإسلامية التي انعقدت في مكة المكرمة متم شهر يونيو/حزيران 2019 بهدف توحيد السياسات العربية والإسلامية تجاه إيران.

مسعى انتزاع دعم عربي وإسلامي صريح لسياسات السعودية وحلفائها، كسره العراق بشكل خاص حين كشف تزامنا مع قمم مكة المكرمة رفض بغداد للحصار المفروض على قطر. فقد قال القائم بأعمال السفارة العراقية في الدوحة عبد الستار الجنابي في حوار مع “الجزيرة نت” تزامنا مع هذه القمم، إن “بلاده ترفض الحصار الذي فرضته عدة دول خليجية على قطر، وكانت من أوائل الدول التي فتحت أجواءها وموانئها أمامها”[29].

وكانت وزارة الحج والعمرة السعودية قد أعلنت في الذكرى السنوية الأولى لإعلان الحصار، عن السماح للمقيمين في قطر بأداء مناسك العمرة عبر السفر “جوا” بواسطة شركات العمرة السعودية[30].

المصدر: 

[1] Col. Robert A. Doughty and Maj. Harold E. Raugh Jr., “Embargoes in Historical Perspective,” Parameters 21, no. 1 (Spring 1991): 21-30.

[2] https://www.bakerinstitute.org/research/anti-qatar-embargo-grinds-toward-strategic-failure/ 

[12] Fire and Fury: Inside the Trump White House, michael wolf, Henry Holt and Co.; 1st Edition edition (January 5, 2018)

[13] Fire and Fury: Inside the Trump White House, michael wolf, Henry Holt and Co.; 1st Edition edition (January 5, 2018)

[15] https://www.areion24.news/2018/09/12/le-qatar-dans-la-rivalite-iran-arabie-saoudite/