سينما الثورة السورية.. حروب الكاميرا وشروط الرقابة المحلية والدولية

منذ أكثر من عشر سنوات تحولت سوريا إلى أكبر مسرح تُعرض فيه أكثر القصص إيلاما وإلهاما أيضا، وتذكرنا تقارير مراسلي الحرب تحت القصف في سوريا، وأكوام بقايا البنايات المهدمة بمئات قصص بطولات وملاحم وصبر السوريين.

لقد أصبحت الأحداث بعد عشر سنوات من الحرب صيدا ثمينا لصانعي الأفلام السوريين، مثلما كانت قصص الإيطاليين بعد دمار إيطاليا إبان الحرب العالمية الثانية طبقا دسما للمخرجين الإيطاليين الذين أسسوا تيار “السينما الواقعية”، فأصبح مشتلا لأروع الأفلام في تاريخ السينما.

بدأت سوريا في إنتاج السينما من قصص واقعية في أواخر عشرينيات القرن الماضي، لم تكن هذه الانطلاقة مبكرة، كما أنها رسمت طريقها بصعوبة، وسطرت مسارها طيلة عقود، وتغذت الدراما والوثائقيات وحتى الكوميديا من المجتمع السوري في سلمه وحربه وبكل أحداث دول الجوار. فهل نهلت السينما السورية اليوم من تركة ما قبل الحرب، أم أنها رسمت مسارا جديدا؟ وما الذي ميّز سينما الحرب السورية؟ وهل يستوي القول إن مسار السينما السورية خلال الحرب سيكون شبيها بمسار السينما الإيطالية إبان الحرب العالمية الثانية؟

سينما الثورة.. كاميرا تمجد الثوار وأخرى تمجد القائد

أحدث المشهد السينمائي السوري بعد العام 2011 تغييرا جذريا في شكل الأفلام التي ظهرت منذ اندلاع الثورة السورية، من حيث الصورة والمواضيع التي تناولتها. لقد كان ذلك التغير بديهيا، ففي كل متغيرات العالم، كان لا بد للسينما أن تجد المكان المناسب لها، وفي سوريا اختارت السينما الارتباط بموضوع الثورة، إما أن تمجدها وتوثقها، وإما أن تقف في الشق الآخر المناصر للنظام.

وفي الواقع عمقت الحرب في سوريا غياب سينما محلية متنوعة، وانعكست في فرقتين، الأولى يقودها من انخرطوا في الثورة وساندوها، فنزلوا إلى الميادين مسلحين بكاميراتهم وبمعدات متواضعة، وأغلبهم توجهوا نحو الأفلام التسجيلية والوثائقية، أما الفرقة الثانية فهي من الشق الذي ساند بشار الأسد، وبقي تحت “سينما الدولة”، ولعل أبرزهم المخرج نجدة إسماعيل أنزور، والمخرج جود سعيد صاحب فيلم “درب السما”.

الممثل أسعد فضة في فيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس” للمخرج محمد عبد العزيز، والذي عرض عام 2015

“الرابعة بتوقيت الفردوس”.. لسان الكرد المحرم يخترق السينما

وصل عدد الأفلام التي أنتجتها المؤسسة الوطنية للسينما بين العامين 2011 و2018 إلى ما يقارب 30 فيلما روائيا طويلا، في حين بدأت تلك المؤسسة الرسمية الداعمة للسينما في الاعتماد على أسماء جديدة، مثل يزن أنزور ومحمد عبد العزيز، بعد أن احتكرت أسماء أخرى صناعة الأفلام في الماضي.

استفاد المخرجون الذين يتلقون دعما من تلك المنظمة من بعض الانفتاح الذي انتهجه النظام تجاه بعض المواضيع المحرمة، مثل المسألة القومية الكردية، فخفت يد الرقابة نوعا ما على أفلام تناولت هذا الموضوع، مثل الفيلم الروائي “الرابعة بتوقيت الفردوس” للمخرج محمد عبد العزيز الذي عرض عام 2015.

تحدث الممثلون باللغة الكردية في هذا الفيلم، وهو أمر لا تأتيه السينما التي ترعاها المؤسسات الرسمية في سوريا، لكن هذا الانفتاح قابله تحرر من نوع آخر خلقه الشق الآخر الذي وقف ضد النظام في سوريا، ولم يشمل التحرر في تناول القصص فقط.

 

مقاطع الاحتجاجات المصورة.. حاجة الثورة إلى التوثيق تصنع المخرجين

شهدت بداية الثورة السورية نمطا خاصا من مقاطع الفيديو التي خرجت من شوارع المدن السورية والأحياء التي تمردت على النظام، وكانت مهمة مصوري تلك الفيديوهات نقل الأحداث اليومية، وتصوير المظاهرات المناهضة للرئيس السوري ونظامه في مواجهة للتعتيم الإعلامي.

لم تكن مقاطع الفيديو التي صورت بواسطة هواتف المتظاهرين ذات جودة، لكنها كانت مواد دسمة استعان بها مخرجون سوريون في أفلامهم الوثائقية. لم تنقل كاميرات صانعي الأفلام التوثيقية سوى الحدث كما اختبره المصور الذي كان في بعض الأحيان في صفوف المحتجين، وكان أهم ما يميز هذه الصور جرأتها وعفويتها أيضا.

لم يمض وقت طويل حتى ظهرت الحاجة إلى استخدام تلك المقاطع ضمن عمل فني قائم على قصص تصف الثورة وانتفاضة الشارع، فبدأ صنع الأفلام التي كان بعضها أشبه بالتقارير الإخبارية، والأخرى وثائقية.

تنامت حاجة المتظاهرين إلى توثيق احتجاجاتهم، فلجؤوا إلى مصورين هواة تحولوا إلى مخرجي أفلام تسجيلية، مثل المخرج سراج الباشا الذي درس هندسة البرمجيات، ثم وجد نفسه مصورا صحفيا يوثق للاحتجاجات والحرب، فاضطر إلى تعلم المونتاج على الإنترنت، ليصبح فيما بعد مخرج أفلام وثائقية.

مخرج آخر كانت له فرصة أخذ الوثائقي السوري إلى العالمية، وهو المخرج الفوز طنجور الذي حصد جوائز عالمية عن فيلمه المميز “ذاكرة باللون الخاكي” الذي شاركت الجزيرة الوثائقية في إنتاجه.

سينما الحرب.. رحلة المشاهد الواقعية إلى شاشات العرض

في فيلمه الوثائقي “سينما صامتة” يقول المخرج السوري ميار الرومي إنه “لا توجد سينما سورية، بل توجد أفلام سورية وصانعو أفلام سوريون”. وينطبق هذا التشخيص على كافة مسارات تطور صناعة الأفلام في سوريا منذ احترافها مع رشيد دلال وشركائه إلى غاية الآن، فلا يمكن الحديث مثلا عن سينما سورية دون الحديث عن المخرج محمد ملص الذي حاز عدة جوائز، أو عن المخرج أسامة محمد الذي يحظى بتقدير كبير في العالم، أو المخرج عمر أميرالاي.

ورغم تميز هؤلاء المخرجين، فإنه من الصعب الحديث عن وجود سينما سورية محلية، أو حتى عن تأسيس سينما ثورية في فترة الحرب، رغم أن أفلاما كثيرة حصدت الجوائز والتنويهات، لكن في المقابل يمكننا الحديث عن مسار كامل صنعه مخرجون شبان بدؤوا طريقا مشتركا في توثيق أحداث الثورة، إلى التوجه نحو بناء وجه جديد للسينما بدأ بتحرير الصورة من قيود سلطة الرقابة، حتى أصبحت وثيقة بصرية خالية من التزامات الشكل الفني والأطر الدرامية التي تتطلبها دورة صناعة الفيلم عموما.

لم يكن ذلك التحرر يعني بالضرورة خدمة للسينما، أو استنباطا فنيا مثلما كان الحال مع السينما الإيطالية التي تحررت من الأستوديوهات، ومن الأطر التي تحدد الممثلين، ونزلت إلى الشوارع، فتخلت عن أجهزة الإضاءة وعناء تجهيز الديكور، لكنه أصبح سمة تميز العمل السينمائي في سوريا لدى الشق الثوري، رغم أنه يخص بصفة أكبر الأفلام الوثائقية والتوثيقية.

استطاعت أفلام -مثل فيلم “درب السما” (2019)- أن تحصد تنويها كبيرا في مهرجانات عالمية، رغم أنها تتشارك في المواضيع ذاتها، وهي حياة السوريين في الحرب، ولم تعد جمالية الصورة تطرح بشكل كبير أمام واقعية ما يعيشه الإنسان خلال الحرب، خاصة أن الصورة لم تصنع داخل أستوديوهات خاصة، بل كان الديكور الحي والحقيقي هو إطارها، مثل فيلم “لِسّه عم تسجل” للمخرج غياث أيوب، ويمثل يوميات مجموعة من شباب منطقة دوما قرب حلب، ففي الفيلم أصبح الغرض الإنساني الذي تؤديه الصورة أهم بكثير من غرضها الفني والجمالي، فحين تصطدم بمشاهد حقيقية في ميدان الحرب، وبقبح مشهد سقوط مُصوّر صحفي في الوقت الذي لم تتوقف فيه الكاميرا عن التسجيل، يصبح الحديث عن جمالية الصورة أمرا ثانويا.

بوستر فيلم “رجل الثورة” للمخرج نجدت إسماعيل أنزور، والذي لقي هجوما حادا من معارضي بشار الأسد لتبرئته النظام من ارتكاب المجازر

“رجل الثورة”.. احترافية أفلام الدعاية الأسدية

في الجهة المقابلة للثورة خاض مخرجون سوريون من الشق المساند للنظام حروبا بدورهم، لكن عن طريق الأفلام الروائية، وقد كانت تلك الأفلام أكثر احترافية، لكنها كانت في الجبهة المضادة للأفلام الأخرى، ففي العام 2012 أعلن المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور عن قرب عرض فيلمه “ملك الرمال” الذي يروي قصة مؤسس المملكة العربية السعودية، وجاء ذلك الإعلان في تاريخ رمزي عالميا، وهو الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وأثار جدلا كبيرا.

كان الفيلم في صالح نظام بشار الأسد على حساب المملكة العربية السعودية إحدى أكبر الدول التي دعمت المعارضة المسلحة في سوريا، واستعرض نجدت إسماعيل أنزور إمكانات تقنية ضخمة، واستعان بممثلين بريطانيين وأتراك وإيطاليين.

استفاد المخرج نجدت إسماعيل أنزور من دعم المؤسسة العامة للسينما في فيلمه “فانية وتتبدد” (2016)، وهو فيلم روائي عن ممارسات المسلحين المتطرفين في سوريا، وقد استوحى عنوان فيلمه المضاد لشعار ترفعه تلك التنظيمات، وهو “باقية وتتمدد”، وصُوّر في منطقة غوطة دمشق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري، التي كانت لا تزال تشهد صراعا مسلحا في فترة تصوير الفيلم.

وفي العام 2018 عرض فيلم “رجل الثورة” للمخرج ذاته، ولقي هذا الفيلم هجوما حادا من معارضي بشار الأسد، معتبرين أنه يبرئ ساحة النظام من ارتكاب مجازر. حيث يروي الفيلم قصة صحفي بريطاني يسعى إلى نيل جائزة “بوليتزر” العالمية، فيعقد اتفاقا مع قائد مجموعة مسلحة من أجل اختلاق أحداث وتصويرها، وقد وصلت حد سرقة جثث ضحايا من قرية موالية للنظام، فيصورهم باعتبارهم ضحايا الجيش السوري، اعتُبر ذلك الفيلم دعاية للنظام السوري لدى الشق المعارض، في حين مثّل كشفا للحقائق التي تشوهها التقارير الأجنبية بالنسبة للشق الموالي لبشار الأسد.

لقطة من فيلم “آخر رجال حلب” للمخرج السوري فراس فياض الحائز على جائزة مهرجان ساندانس في العام 2017

ميدان الحرب والحرب المضادة.. سينما بين رقيبين

أصبحت السينما في سوريا ميدانا للحرب والحرب المضادة، غير أن ما يسمى بجيل الثورة الجديد من السينمائيين، كان مواجها شرسا لجيل قديم من السينمائيين اصطف بعضه إلى جانب النظام السوري، واستغل إمكانات الدولة، في حين لم تكن مسألة الإتقان الفني للتصوير أو الإخراج مشكلة رئيسية للمخرجين المنتمين للجيل الجديد الذي ظهر خلال الثورة السورية، لكن التحرر في المواضيع والصورة بدأ يصطدم بطلبات الداعمين الأجانب، حتى أنه بدأ الحديث عن رقابة جديدة تواجههم وهي رقابة الممولين.

كانت الرقابة بكافة أشكالها أول عدو قاتله المتظاهرون السوريون منذ العام 2011، وحاول الثوار السوريون كسر القيود التي فرضها النظام على حريتهم في التعبير، وكانت الكاميرا هي أداة كثيرين منهم، حيث استعملوها أداة للتوثيق وللبقاء أيضا، فكان لها الفضل في قيادة أفلام كثيرة إلى المهرجانات الدولية، لكن أصبح المخرجون في مواجهة حرجة مع مموليهم.

يقول المخرج السوري فراس فياض صاحب فيلم “آخر رجال حلب” الحائز على جائزة مهرجان ساندانس في العام 2017 في مقال نشرته “أوبن ديموكراسي”: “إن الإذعان لأجندات الممولين الذين يريدون فقط التركيز على الإرهاب وحده، أو إدانة جانب واحد دون الآخر، يمثل مشكلة أيضا”، وحسب فياض فإن السينما الجديدة -وبشكل أساسي الوثائقية- حررت نفسها تماما من اضطهاد النظام، ولم تعد تخشى معايير الرقابة التي يفرضها النظام، ومع ذلك فإن رقابة من نوع آخر ولدت لتتحكم في مواضيع، وفي تقنيات تصوير تلك الأفلام.

“آخر رجال حلب”.. هجوم روسي وتركي ومنع عربي

يروي المخرج فراس فياض حادثة عاشها حين قدم مشروع فيلم جديد، حيث اعترض عضو لجنة التحكيم على الإشارة إلى روسيا في مشروعه، وقال فياض: إن روسيا ليست قادرة على التأثير على الانتخابات هنا والحروب هناك فحسب، لكن على الأجندات السينمائية أيضا.

وهو الشأن ذاته في تركيا، حيث هوجم فيلم “آخر رجال حلب” من قبل الصحافة اليسارية في تركيا بعد أن وصفته بأنه يقف في صف الإرهابيين، رغم موقف تركيا المعلوم من النظام السوري، ويقول فياض: هذا يؤثر في مسيرتك كفنان، وقد يمنعك من تنفيذ مشروع فيلمك التالي، وإذا جرى تصنيفك على هذا النحو، فلن تقبل أي جهة دعمك في المرة القادمة.

منع فيلم “آخر رجال حلب” من العرض في لبنان، ولم يعرض في دول مثل الأردن والمغرب والمملكة العربية السعودية، رغم أن الفيلم لا يتعارض مع توجه المملكة السياسي تجاه ما يحدث في سوريا، ويستنتج فياض أن مواضيع الإرهاب واللاجئين والعمالة في سوريا هي أكثر المواضيع التي يمكن أن توفر دعما لمشاريع الأفلام، ويسعى الممولون الذين يدعمون مشاريع سينمائية في سوريا إلى الحصول على مشاهد ترضيهم، وهي بالأساس مشاهد الحرب حسب المخرج السوري عمار البيك الذي يقول: يمنحك المموّلون المال، لأنهم يتوقعون منك تصوير لقطات للحرب في فيلمك، وهو ما حوّل عددا من مشاريع الأفلام السورية إلى تقارير صحفية لا أفلام.

ويشترط الاتحاد الأوروبي عند تمويله لمشاريع الأفلام القصيرة في سوريا مبدأ الحياد الذي لم يكن ضمن خطة صانعي الأفلام في بداية الحرب، كما يحدد مواضيع خاصة تطرح قبل تمويلها، ويقول المخرج هشام الزعوقي “تقدم المنظمات والمؤسسات والمهرجانات الداعمة للسينما عشرات المنح سنويا لإنتاج الأفلام، لكنها تظل كعكة صغيرة يتنافس عليها المئات ممن يجب عليهم الخضوع لمعايير محددة.

“سينما الأوبرا” في حمص والتي هدمت قاعتها بسبب الحرب السورية

خراب السينما.. قاعات مدمرة وأسعار باهظة

يواجه صانعو الأفلام في سوريا حربا لا يملكون فيها سلاحا، فبعد أن فتحت أبواب التحرر من رقابة السلطة على مصراعيها في مناطق يسيطر عليها الثوار داخل سوريا، وفتحوا ميادين الحرب واقتحموها لتكون أستوديوهات عملاقة لتصوير أفلامهم، فقد فشلوا في فتح نوافذ أوسع تطل منها أعمالهم على الجمهور السوري، بعد أن أصبح من المستحيل عرض أفلامهم في المنصات التقليدية في سوريا، وهي بالأساس المحطات التلفزيونية والمهرجانات السينمائية السورية وقاعات السينما.

وذلك لسببين، الأول هو انقسام الجمهور في الحرب السورية إلى شقين، شق معارض للنظام وشق مساند له، أما السبب الثاني فهو بفعل الحرب التي دمرت قاعات العرض في مدن كثيرة من جهة، وأثرت في قدرة محبي السينما على ارتياد ما بقي من تلك القاعات من جهة أخرى، وذلك بسبب أسعار التذاكر الباهظة.

تقول دراسة بعنوان “السينما السورية في مواجهة الحرب والإرهاب” إن ثمن تذكرة دخول الشخص الواحد لقاعة السينما وصل إلى حدود ستة دولارات أمريكية، وهو سعر لا تسطيع تحمل تكلفته أغلب العائلات بسبب ظروف الحرب. وحسب الدراسة ذاتها، فقد دمرت قاعات العروض السينمائية في حلب، بعد أن كانت أولى المدن التي احتضنت عروضا سينمائية في سوريا في بداية القرن العشرين، فاختفت قاعات شهيرة مثل “سينما حمص” و”سينما الأمير” وسرقت تجهيزاتها، كما هدمت قاعة “سينما الأوبرا”، وتحولت قاعات سينما أخرى في اللاذقية ودير الزور إلى مستودعات حربية.

الانقسام السياسي.. ضريبة يدفع ثمنها صناع السينما

قد يبدو إغلاق قاعات السينما أو حتى تدميرها مشهدا اعتياديا في الحرب، لكن ما يخيف صانعي الأفلام السوريين أعمق من غلق محافل العروض السينمائية التقليدية، وهذا ما تطرحه المصورة السورية وصانعة الأفلام الوثائقية جيفارا نمر، وتقول في مقال نشرته في العام 2020: ما حصل في الحرب كان تقسيما سينمائيا سياسيا جليا، على الأقل في السنوات الأربع الأولى من عمر الثورة السورية، حيث أصبح الفيلم الوثائقي هو عمل فني معارض بالمطلق، وينتجه سينمائيون معارضون لهذا النظام، بينما العمل السينمائي التخيلي/الروائي تحول إلى بروباغندا موالية للنظام، أو رمادي صامت يختار مواضيع قد تبدو سريالية بالنسبة لأي جمهور سوري، وحتما تحتكر إنتاجه المؤسسة العامة للسينما.

قبل إنتاج أفلامهم، أصبح على مخرجي الأفلام في سوريا، بما في ذلك الأفلام الوثائقية، التفكير في أي جمهور سيشاهد عملهم. لقد قلّص الانقسام السياسي لجمهور السينما من المدى الذي يمكن أن يصل إليه المخرج السوري، فلا يمكن لقاعات العرض السينمائي التقليدية في المناطق التي يسيطر عليها النظام أن تعرض أفلاما وثائقية أو روائية أنتجها مخرجون معارضون، كما لا يطمح مخرجون سوريون مساندون لبشار الأسد أن يحصدوا جوائز في مهرجانات عالمية، أو أن تصل أعمالهم إلى سوريين نزحوا من منازلهم، أو لجؤوا إلى دول أخرى.

تلك حقيقة يعلمها الشقان من صناع السينما، غير أن الجيل الجديد من المخرجين يذهب إلى أبعد من ذلك وهو أن الارتباط بالمانحين يجعل الجمهور السوري في الصف الثاني، وتقول جيفار نمر: العمل مع المنتجين الأجانب هو أمر مشروط بكل تأكيد، حيث أن العروض الأولى تخضع لأولويات هؤلاء المنتجين، بمعنى أن التلفزيون المحلي في بلد الجهة المنتجة يكون الأوفر حظا للتفرد بالعرض، كذلك الأمر بالنسبة للمهرجانات، وتأتي قائمة المهرجانات الدولية تبعا لأهمية الجوائز أو السوق التخصصية التابعة لكل مهرجان. يمكن أن نتخيل هنا صغر حجم فرصة العرض لأي جمهور محلي بالنسبة للمخرجين، مقابل الجمهور المحلي أو العالمي للجهات المنتجة.

وهنا يطرح سؤال مهم بعد أن تطرح الحرب أوزارها، هل من صلح فني قادم؟