“شوربة القرن”.. تراث أمريكي تسلل من موائد الأثرياء إلى بيوت الفقراء

حسن العدم

تحكي الأطعمة ثقافات الشعوب، وتطبعها ببصمة مميزة، مثلها مثل اللباس وفنّ العمارة والإنتاج الفكري، وتتوارثها الأجيال وتتأثر بها الأمم والشعوب، لا فرق في ذلك بين القوي والضعيف والمتحضر والبدائي. فإن زرتَ بلدا فستبحث أولا عن أطباقه المميزة ونكهاته المتنوعة، قبل أن تزور متاحفه التاريخية وتراثه المعماري.

 

وضمن سلسلة “أطعمة غيّرت العالم” التي تقدمها قناة الجزيرة الوثائقية، نتعرف في هذه الحلقة على “إمبراطورية الشوربة الأمريكية”، إنها “شوربة كامبل” التي لا يُتصور أن أمريكيا عاش خلال قرن من الزمان لم يتذوقْها، حتى أنها تجاوزت حدود القارة الأمريكية وأصبحت تباع في 120 بلدا عالميا، واستحقت بذلك لقب “شوربة القرن”.

إمبراطورية “هاينز”.. منتجات غذائية تغزو العصر الصناعي

في نهاية القرن الـ19، ترك الأمريكيون مزارعهم للعمل في المصانع، وبالتالي قلّ اعتمادهم على الطعام الذي يزرعونه، لصالح ما يستطيعون شراءه، وتهافت الناس على الطعام الرخيص البسيط سهل التحضير.

في هذا الوقت أسس “هنري هاينز” إمبراطورية الكاتشب الموثوقة، واستعمل لتعبئتها زجاجات شفافة ليرى الناس محتواها، وقد أحدث هذا ثورة جعلت “هاينز” من العلامات الوطنية المرموقة في أمريكا، وتأسس لها ولـ200 منتج آخر مصنع بأحدث وسائل التكنولوجيا آنذاك، ودارت آلاته بالكهرباء، وكانت الخضراوات الطازجة تصله يوميا بعربات القطار إلى داخل المصنع.

هاينز.. واحدة من أشهر علامات الكانتشاب والشوربات

 

كان “هاينز” رائدا في مجال الأطعمة المعلبة، ولا أحد ينافس شركته، لكن هذا سيتغير، فعلى بُعد 500 كم اشترى مساهِم حصة شركة صغيرة، إنه “آرثر دورانس” الذي يطمح لأن يكون “هاينز” الثاني، وكان مغرورا وواثقا بنفسه، فاشترى شركة متعثرة، وأراد أن يزيد فيها عدد خطوط الإنتاج لمزيد من الأطعمة.

كان مؤسس الشركة يدعى “جوزيف كامبل”، لكنه لم يكن يعلم أنه اسمه هذا سيمثل إمبراطورية عالمية لصناعة الشوربة تبلغ قيمتها 14 مليار دولار، وكان عمله مقتصرا على تعليب الخضار والفواكه التي تنتجها مزرعته. وتعود فكرة التعليب إلى القرن الـ18، عندما طلب نابليون من مستشاريه ابتكار فكرة لحفظ الطعام لجنوده على الجبهة، ثم جاء البريطانيون بفكرة العلب المعدنية المغلقة بلحام الرصاص.

“كامبل”.. كفاح الرمق الأخير لشركة مهددة بالإفلاس

في غمرة تركيز “آرثر دورانس” على خطته في تضخيم شركته الجديدة، زاره ابن أخيه الطموح “جون” الطالب المتفوق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والحاصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية من الجامعات الألمانية، واقترح على عمه أن يعمل معه في المصنع. بيد أن سلامة الأطعمة وقائمة مكوناتها لم تكن تلقى ذلك الاهتمام في نهايات القرن الـ19.

أراد “جون” أن يثبت لعمه أنه يمكنه أن يشكل إضافة نوعية للمصنع، وأن المستقبل سيكون لعلم الأغذية، ولذا استثمر مدخراته لشراء معداتٍ مخبرية لدراسة منتجات المصنع، فلم يجد عمه بُدّا من تعيينه كمختص كيميائي في الشركة، بشرط إحضار معداته المخبرية بنفسه، حينها لم يكن “جون” ولا عمه يعرفان أن إسهاماته الكيميائية ستجعل شركة “كامبل” معروفة في 120 بلدا حول العالم.

تهافت الأمريكان على الشوربة كطعام رخيص بسيط وسهل التحضير

 

في البداية واجه “جون” مشكلات في التمويل لأبحاثه المخبرية في الشركة، ذلك أن المبيعات كانت تعاني انخفاضا حادا أجبر عمه على تقليص النفقات، وكانت مقارنة مبيعات “كامبل” مع “هاينز” كارثية، وازدادت الخسائر بشكل لافت، وما لم تكن هنالك معجزة تجارية فقد تعلن الشركة إفلاسها.

في المقابل ارتفعت مبيعات “هاينز” إلى 2 مليون دولار سنويا، وهو ما يعادل 70 مليون دولار اليوم، وفي 1899 أقدم “هاينز” ومدير مصنعه “مولر” على خطة جريئة بفتح أبواب المصنع أمام العامة ليتسنى لهم رؤية خطوط الإنتاج وكيفية إعداد الأغذية بشكل صحي وآمن، فزار المصنع أكثر من 20 ألفا من مدينة بيتسبيرغ وفنانون ومشاهير من بعض دول أوروبا، وحتى منافسه “جون دورانس”.

طعام الأغنياء والأوروبيين.. مغامرة عالم الكيمياء في ميادين الطبخ

في بداية القرن العشرين زاد إقبال الأمريكيين على شراء الأغذية المعلبة، الأمر الذي دعا “جون” الطموح إلى التفكير في استغلال ذلك، وكانت فكرته التي يحاول أن يقنع بها عمه هي تقديم شيء جديد ومختلف للزبائن، حتى يضع قدما في سوق المنافسة الحقيقية، فالأصناف الـ200 التي ينتجها المصنع هي تكرار لما تنتجه المصانع الأخرى.

طرحت شركة كامبل 200 صنف من الشوربة في الأسواق الأمريكية

 

وكانت فكرة إنتاج الشوربة هي ما يسيطر على عقل “جون”، فقد كانت مشهورة في أوروبا حيث كان يدرس، ولكنها لم تكن بذات الانتشار في أمريكا، فإنما تتناولها طبقة الأغنياء فقط، لكون تكلفة إنتاجها باهظة. وكان المنافس “هاينز” يبيع هذا الصنف من الشوربة، ولكن بكلفة عالية تبلغ 40 سنتا، وبحجم علبةٍ كبير نسبيا، وتأخذ حيزا كبيرا في المخازن.

كان التحدي أمام “جون” أن يضع جميع مكونات الشوربة في حجم أصغر، وهذا يعني سعرا أقل وحيز تخزين أصغر وسرعة في النقل، ولأن الإبداع يتطلب شيئا من الجنون، فقد خطرت له فكرة مجنونة حقا، وتتمثل في تقليل الماء في الشوربة إلى الحد الأقصى، وإرشاد الزبون إلى إضافة كمية الماء حسب الرغبة إلى محتويات العلبة.

بدأ “جون” بسحب السوائل من الشوربة بالتبخير والتقطير والتكثيف، ونجح في ذلك نجاحا باهرا، لكن بقيت مشكلة أخرى وهي الطَعم، فقد كان “جون” عالما وليس طاهيا، وهنا قرر أن يغامر بما بقي لديه من المال، وذهب لتعلم الطبخ في عاصمة الطهي العالمية باريس، وتحول فجأة من عالم كيمياء إلى مساعد للطهاة، يقضي جل وقته في تقشير البصل وتقطيع البطاطا.

معرض باريس الدولي.. انتصار في عالم الطهي وحلة وطنية جديدة

عاد “جون” لمختبره منتعشا بعد الوقت المفيد الذي قضاه في باريس، عاد متسلحا بفن الطهي بالإضافة إلى علم الكيمياء، وقد أبهر عمه بنكهات عدة لشوربة المستقبل، بوزن وحجم أقل وسعر بلغ 10 سنتات فقط. لقد اختار “جون” الطريق الذي لا يرتاده أحد، وكان هذا سر تفوقه وتميزه، فأذهل العالم بابتكار جديد لم يعرفه الناس من قبل.

مدير شركة كامبل يسافر إلى باريس ليتعلم فن طبخ الشوربة

 

لكن بدايات انطلاق الابتكار باءت بفشل ذريع، فالمجتمع الأمريكي لم يكن قد تعود بعد على تناول الشوربة، وقد خسرت الشركة أموالا طائلة، ولم يكن لدى “جون دورانس” إلا محاولة أخيرة للإنقاذ، وهي البحث عن علامة تمنح الموثوقية لتلك الشوربة، وكان الحل في باريس مرة أخرى، فقد أقيم هناك المعرض الدولي عام 1900، وشاركت فيه “كامبل” إلى جانب كبريات الشركات العالمية.

وكان منافسه اللدود “هاينز” قد أرسل عينات من أطعمته كذلك إلى المعرض الدولي. بدأ المعرض، وكانت “كامبل” واحدة من 83 ألف منتج دخلت المنافسة، وقد فازت “هاينز” بميداليتين ذهبيتين عن جودة المنتجات وتجهيزات المصنع، بينما عادت “كامبل” بميدالية ذهبية لتميزها في الشوربة.

قامت الشركة بتعديل غلاف المنتج بحيث أبرزت صورة الميدالية الذهبية، التي صارت بمثابة ختم اعتماد لجودة الشوربة، وغيرت ألوانها للأبيض والأحمر ليعطي ذلك للمنتج ميزة وطنية، ولتصبح شوربة “كامبل” جزءا من الثقافة الأمريكية، ثم لتقف ندا رئيسيا، بل وحيدا، لخصمها اللدود “هاينز” في مجال الشوربة.

“مساحة كامبل”.. نجاحات هائلة وحملات دعائية ضخمة

في غضون أشهر ارتفعت مبيعات شوربة “كامبل” إلى 100 ألف دولار، أي ما يعادل 3 ملايين اليوم، وأدرك “هاينز” -على الرغم من تفوقه في عدد الميداليات- أنه أمام منافس شرس في مجال الشوربة، وأدرك كذلك أن سر انتشار شوربة “كامبل” يكمن في إزالة السوائل التي سمحت بوزن أخف وسعر أقل.

بعد النجاح المذهل، وبحلول 1905 سمحت عائلة “دورانس” بإنفاق 5% من العائدات على الدعاية والإعلانات، وأطلقت لأول مرة أضخم حملة دعائية لمنتج واحد، وصارت إعلاناتها تحظى بالحيز الأميز في الصحف والمجلات، حتى صار يطلَق على أهم مساحات الإعلانات “مساحة كامبل”، وارتفعت المبيعات إلى نصف مليون علبة، وأصبح تركيز “كامبل” منصبا على الشوربة فقط.

أطلقت “كامبل” 16 نكهة مختلفة دفعة واحدة في سنة واحدة

 

أما في أروقة “هاينز” فقد جرى تفكيك شوربة المنافس، وعلى الرغم من أن “هاينز” تسيطر على الأسواق العالمية في معظم المنتجات الغذائية، فإنها لا تريد أن يسحب البساط من تحت قدميها، ولو حتى في منتج واحد، فقدمت نكهتين من شوربتها المكثفة الأولى عام 1907، لكن هذا لم يكن ليخيف “جون دورانس” الذي أطلق 16 نكهة مختلفة دفعة واحدة.

ارتفعت مبيعات “كامبل” إلى 16 مليون علبة سنويا، بينما كانت مبيعات “هاينز” حوالي مليون علبة فقط، وأدرك “هاينز” أنه يمكن أن يعود إلى المنافسة من خلال إعادة تصميم العلبة نفسها، فقد كان اللحام بالرصاص ينطوي على مشاكل كثيرة تصل حد التسمم بمادة الرصاص التي ربما نفذت إلى داخلها، أو التسمم السجقي الذي يهاجم الجهاز العصبي.

تركيز الصناعة على المنتج الواحد.. طريق التميز والريادة

أسفرت بحوث هوارد “هاينز” عن تقنية جديدة للتعليب، وتسمى الغطاء المعقوص، ويرتكز على فكرة لحام الغطاء بالعلبة من الخارج دون السماح لمادة اللحام بالتسرب إلى داخل العلبة، وزادت منتجات “هاينز” بهذه التقنية من 1500 علبة إلى 100 ألف علبة يوميا، لكن هذا فتح معركة أخرى مع المنافس اللدود “كامبل”.

في 1914 باع “آرثر دورانس” آخر أسهم حصته في شركة “كامبل” إلى ابن أخيه “جون دورانس”، ليقود “جون” شركته إلى مساحات أخرى من النجاح، فقام بتقليص منتجاته البالغة 200 لتصبح صنفين ناجحين فقط، وبلغت مبيعاته في تلك الفترة حوالي 7 ملايين دولار سنويا، وتضاعفت 3 مرات أخرى خلال سبع سنوات لاحقة.

تقدم “كامبل” إلى الأسواق مليارين ونصفا من علب الشوربة سنويا

 

أثناء الحرب العالمية الأولى سيطرت العلامات التجارية الأمريكية على أسواق أوروبا بالكامل، بل تجاوزتها إلى أستراليا والأسواق البعيدة، وبينما كانت شوربة “كامبل” تشق طريقها عالميا، كان لمنتجات “هاينز” الأخرى قصب السبق على مستوى العالم أجمع. والحقيقة الواحدة أن الشركتين قد نقلتا تكنولوجيا الطعام إلى آفاق لم يكن يحلم بها العالم قط.

اليوم تقدم “كامبل” إلى الأسواق مليارين ونصفا من علب الشوربة سنويا، وتتجاوز قيمتها السوقية 17 مليار دولار، وما تزال تحتفظ بالمذاق الشهي نفسه، بل وأصبحت من التراث الأمريكي الذي تتناقله الأجيال، بحيث لا يُتصور أن أمريكيا قط، منذ أكثر من قرن من الزمان، لم يتذوق شوربة “كامبل” في يوم من الأيام.