شيخوخة اليابان.. خطر داهم يهدد نهضتها

خاص-الوثائقية

هذا الفيلم الوثائقي الإنساني المؤثّر يدفعنا غصباً لمراجعة حساباتنا الإنسانية والشخصية، فهو يحكي عن التحدي الأكبر الذي سيواجه كل من طال به العمر الذي لا يرحم ولا يُجامل؛ الشيخوخة والضّعف والحاجة الملحّة إلى كتف تسندنا وإلى يدٍ تمتد نحونا كيَدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق.

تعتبر اليابان الدولة الأكثر شيخوخة في العالم، وهذا ينذر بأزمة في التركيبة السكانية، فاليابانيون يعيشون بعمر أطول فيما يتناقص معدل المواليد، ولهذا كان على الحكومة اليابانية أن تواجه هذه المعضلة بزيادة الضرائب ورفع سن التقاعد. ويتناول فيلم للجزيرة الوثائقية بعنوان “شيخوخة اليابان” هذه القضية.

 

إكسير الحياة

“ساكاي ماتسو زاوا” مسنة (85 عاما) تعمل في مطعم للسوبا، تقول إن عملها اليومي يبقيها بصحة جيدة، تدير عدة مطاعم وتشتهر بوجباتها اللذيذة التي تجتذب الزبائن لوصفاتها السرية.

تعتقد ساكاي أن الطعام الياباني القليل الدهون والعلاقات العائلية والتماسك الاجتماعي هو سرّ العمر الطويل في اليابان. وما زالت ساكاي مرحة تغني وتخرج مع أصدقائها وتعيش في مدينة نانغو السياحية، وهي مدينة مأهولة بالمسنين الأكثر نشاطا في اليابان مع أن عائلتها تنصحها بعدم العمل لأنها أصبحت جدّة، لكنها ترفض وتتمنى ألا يطول عمرها أكثر، وترغب فقط أن تموت بسلام.

أما “كيسايو شيمدزو” البالغة من العمر 100 عام، فإنها ترفض التوقف عن العمل، وعادة تزور أختها البالغة من العمر 103 سنوات لتتبادل وإياها الأحاديث، وهي تعتقد أن السرّ في طول عمر اليابانيين هو الهواء النقي.

كيسايو واحدة من 50 ألف معمّر في اليابان ممن تجاوزوا حاجز الـ100 عام، قضت حياتها كلها مزارعة، وتنتج أعمالها بجدارة ولا تعاني من أي مرض أبدا، وما زال باستطاعتها أن تتناول كل الأطعمة.

تحب كيسايو أن تغني الأغاني الشعبية عن جمال مجتمعها الجبلي، مع أن هذه الطبيعة هي موطن أسطورة شعبية تسمى كوبا سوتي تحكي عن أبوين مسنّيْن تُركا وحدهما حتى الموت.

 

عبء على المجتمع

في اليابان الحديثة يُعتبر المُسنون عِبئا على المجتمع، وقد بلغت نسبتهم بين السكان 23% في عام 2010، ويُتوقع أن تصل النسبة إلى 28% بحلول عام 2050؛ وهذا سيكلف الحكومة ربع ميزانيتها على معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي للمسنين.

تقول “هيكا ريكا أونو” المتحدثة باسم الحكومة اليابانية: في النظام الياباني يجب أن نقرّ بأن المنافع تذهب للمسنين، وتتحمل الأجيال الشابة الأعباء، وهذا أمر صعب.

طول الأعمار في اليابان وتناقص عدد المواليد يؤدي إلى تراجع في عدد السكان، ويُتوقع أن ينخفض عدد السكان في طوكيو إلى النصف، وأن تنقص نسبة السكان في سنّ العمل بشكل كبير، وهو ما ينذر بانهيار اقتصاد اليابان.

ففي عام 1965 كان يقابل كل شخص يُحال إلى التقاعد تسعة موظفين أو عُمال، أما الآن فيقابله اثنان فقط، وبالتالي فإن عدد دافعي الضرائب يتراجع بشكل سريع مما يزيد الفجوة بين الذين يدفعون والأشخاص المستفيدين من المعاشات التقاعدية كما يقول الاقتصادي هيرو متشي كاوا.

هذه الحالة تجعل الوضع المالي تحت ضغط شديد، وعلى ذلك فإن الخدمات المقدمة للمسنين في تراجع أيضا، ففي مركز هايدو للمسنين على سبيل المثال هناك أحد النزلاء ويدعى كودو يقول: إن الخروج من المركز أمر صعب، وكل ما زاد العمر قلت فرص العمل، وهذا المكان يساعدني ولكن ليس كثيرا، أنا لا أريد البقاء هنا لكنه أمر لا مفرّ منه.

 

وحدة قاتلة

يتّهم آخرون الحكومة بأنها بطيئة في اتخاذ القرارات ولا يمكنها مواجهة نمو أعداد المسنين، كما أن عدد المستشفيات لا يواكب أعداد المسنين، ولهذا السبب تشجع الحكومة الرعاية الصحية في المنازل، كما أنها تتوقع نقصا في التمويل وفي الأيدي العاملة جراء الضغوط المالية على المستشفيات، وتقدم اقتراحات كأن يدفع المسنون المزيد من التكاليف للمستشفيات.

أيضا من الحالات التي يعرضها الفيلم؛ “كايكو مورا ماتسو” موظفة رعاية منزلية ترعى والدتها المصابة بالخرف منذ 13 عاما وتعوّدت على العمل من دون مساعدة، وتتلقى أمها الرعاية الصحية في المستشفى يومين في الأسبوع، مما يتيح لها القيام بالأعمال المنزلية، وتساعدها ابنتها “فومي” وقد أثّر هذا في حياتها الاجتماعية وعلاقاتها مع أصدقائها.

“إيتسوكان ديتسو” رجل متفرغ لرعاية أمه، فهو يرافقها إلى السوق يوميا، وهي لا ترغب في الذهاب إلى بيوت رعاية المسنين مما اضطره أن يعمل جزئيا وأن يفقد فرصا ثمينة للعمل، لكنه يتلقى دعما من جمعيات وأصدقاء، وعلى الرغم من بلوغه الـ51 من عمره فإنه ما زال عازبا.

يُقدّر عدد المسنين الذين يعيشون وحدهم بنحو 3.8 ملايين لعدم وجود من يرعاهم من عوائلهم، ويقوم “هايدي نوريه” بزيارة بعض هؤلاء المسنين الوحيدين ويحكي عن تجربته مع مُسنّ غرفته مليئة بالغبار ولا يأكل إلا الأرز، وقد وجَده غير قادر على الكلام بل يصرخ فقط لأنه لم يكن يتواصل مع أحد منذ مدة طويلة؛ فـنسي الكلام.

ومثال آخر هي السيدة “ماناكا”، فابنها الوحيد في السجن، وزوجها مريض في المستشفى، وتعيش وحيدة ولا تستطيع المشي، وتتمنى أن يكون لها أصدقاء ليشربوا معها الشاي.

 

روبوت لخدمة المسنّين

ولاحتواء هذه المعضلات الاجتماعية تتبنى اليابان تكنولوجيا جديدة وهي الروبوت أو الإنسان الآلي، وتتنافس في هذا المجال شركات عديدة ومهمة مثل شركة تويوتا التي تُنتج الأسِرّة التي يمكن التحكم بها عن بعد، والأدوات التي تساعد المسنين في المهام المنزلية وحتى التي تساعدهم في استعمال دورات المياه.

وتأمل الحكومة بحلول عام 2025 أن تتمكن من إنتاج مليون وحدة روبوت على الرغم من تكاليفها الباهظة، لكن المشكلة أيضا أن طريق تطوير هذه الروبوتات ما زال طويلا، فهي ما زالت قاصرة عن تلبية حاجات المسنين كلها، فكل شيء يحتاج إلى برمجة معينة، كما أن الروبوت بطيء جدا في حالات الطوارئ.

يقول “كويتشي أيكيدا” وهو يعمل في جناح تويوتا للمُرافق الآلي: إن التحدي يكمن في محدودية ما يمكن للروبوت القيام به من مهام.

ويرى البعض أن تشجيع الهجرة إلى اليابان يمكن أن يكون أحد الحلول لمواجهة انخفاض عدد السكان، مع أن هذا الحلّ تواجهه صعوبة التجانس الثقافي واللغة، فمثلا في مستشفى إيساي تفوز اثنتان من كل 11 متقدمة للعمل من الجنسيات الأخرى لصعوبة الاختبارات واللغة، ولذلك يفضل الأجانب العمل في الدول الناطقة بالإنجليزية.

كما تعتبر زيادة ضريبة الاستهلاك إلى 5 أو 10% قد يُعد أحد الحلول أمام الحكومة لمواجهة ظاهرة الشيخوخة، كما تقول المتحدثة باسم الحكومة اليابانية.

وقد أشاد بعض الاقتصاديين بهذه الإجراءات مثل الاقتصادي هيروميتشي الذي يقول إنه لا يمكن للحكومة الاستمرار في الإنفاق على المسنين، فلا بدّ من التقنين، فيما تتقدم الحكومة اليابانية بمجموعة سياسات لتحسين أوضاع المسنين والخدمات المقدمة لهم ورفع سنّ التقاعد إلى عمر الـ70.

 

سن التقاعد

“نوبو هيكو” البالغ من العمر 65 عاما ويعمل مرشدا سياحيا في مدينة ديزني طوكيو؛ يُشجع بفرح وأمل وتفاؤل رفع سن التقاعد إلى 70 عاما، ويشعر أن بإمكانه العمل حتى بعد هذه السنّ، وعندما يراه المسنون بهذه الطاقة الإيجابية يتحمسون للعمل مثله، وهو يؤمن أن الجميع يتعلمون من بعضهم البعض، فيصحح لزملائه الأصغر منه سنّا ويتعلم منهم الجديد.

لكن البعض الآخر يعتقد أن رفع سنّ التقاعد لا يجدي نفعاً، فـالسياسات صحيحة من حيث التوجّه ولكن مشكوك فيها من ناحية الفاعلية.

إن الزيادة المستمرة في أعداد المعمّرين من مؤشرات التعافي في المجتمعات، وبحلول عام 2050 سيكون هناك أكثر من 50 دولة تضم نسبة هائلة من كبار السنّ.

وينتظر كثيرون اليابان ويتساءلون كيف ستتغلب على مشكلتها مع الشيخوخة، ولعل الجواب يظهر متمثلاً في “كايكو” التي تبلغ من العمر 60 عاما وما زالت ترعى أمّها المسنّة، فهي في هذا العمر مسنّة وراعية في الوقت نفسه، وما زالت تقول بتفاؤل وأمل: شكرا يا أمي لأنك معي.. شكرا لأنك بصحة جيدة.. شكرا لك كل يوم وطول اليوم.