فاس البالي.. سحر الشرق ورقّة الأندلس

فاس تلك المدينة المغربية باذخة الجمال، تتربع على بقعة خضراء تحيط بها الغابات والتلال وفيها بالإضافة للنهر  الذي يرويها ما يزيد عن ستين منبع للماء، كانت جميعا السبب لاختيار موقع بنائها.

تعتبر المدنية تحفة فنية رائعة، تزهو بموروثاتها التاريخية العريقة، وتزخر بمبانيها الجميلة المترفة بطابعها الأندلسي، وزقاقها ومساجدها وقصورها وأسواقها التقليدية العامرة .

هذه الحلقة من سلسلة قلب مدينة التي تبثها الجزيرة الوثائقية تأخذنا إلى قلب مدينة فاس العتيقة، التي تعود للعصور الوسطى وأسوارها العالية ومدارسها القديمة وبواباتها الكثيرة ومعالمها التاريخية القديمة التي بنيت قبل 13 قرنا.

المؤسس من نسل فاطمة الزهراء

أسست فاس في بدايات القرن التاسع الميلادي عام  808 على يد إدريس الثاني وهو ابن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء.

اغتيل والده إدريس الأول من قبل البرامكة على يد سليمان بن جرير، وبعد شهرين وضعته أمه كنزة  .

أختار إدريس الثاني الموقع، وهناك بنى أول مسجد وسمي بمسجد “الأشياخ” وفيه كان يجتمع بشيوخ القبائل، وفي هذا المسجد بويع وألقى خطبته الشهيرة التي أوضح فيها أهداف تأسيس المدينة لتكون منارة علم وفقه ومعرفة.

وكان في فاس ما يعرف بالعدوة الغربية عدوة القرويين وهم مهاجرون عرب أتوا من القيروان، وعدوة الأندلسيين وهم من جاء من الأندلس .

مدينة جمعت القرويّين والأندلسيين

في القرن الرابع عشر أعيد تهيئة المدينة، فكانت ساحة الصفارين- كان اسمها السفارين بالسين لوجود أصحاب تسفير (تجليد) الكتب فيها- وهي ملاصقة تماما لجامع القرويين، وجعلت منطقة القرويين محورا للمدينة ونقطة ارتكازها، ومنها انطلقت دوائر تحيط بها، كانت الدائرة الأولى مخصصة لمحلات الصاغة والملابس وهي أقل تلويثا للبيئة.

طريقة بناء مدينة فاس على شكل دوائر

بعدها كانت الدائرة الثانية التي تضم بعض الحرف مثل النجارين، ثم الدائرة الثالثة التي ضمت المهن الأكثر تلويثا للبيئة وتضم دار الدباغة والحدادين.

كان الصناع يعلمون في من الصباح وحتى العصر، قبل أن تفتح المحلات وفي ساعات الفجر كان أصحابها يبدأون يومهم بقراءة أورادهم اليومية، وقد كانت هذه فرصة للعاملين في الأسواق من الصبيان والعمال لتعلم أمور دينهم والأخلاق الحميدة من أصحاب المحلات، الذين كان لهم حضورهم المؤثر في المجتمع.

المدينة ذات الـ400 حرفة

تعتبر الدباغة في المدينة حرفة تقليدية مهمة، يعود تاريخها لما يقرب من ألف عام، ويتبعون فيها نفس مراحل الدباغة التقليدية القديمة، ويستخدمون الأصباغ الطبيعية كقشور الرمان والتين ويدقونها في مهاريس الحجر لطحنها وعمل الصباغ منها.

يلبس العمال السراويل القصيرة ويغطون رؤوسهم، ويقبلون بحماسة قل نظيرها على الجلد لتصبينه بأرجلهم، ويستخدم جلد الماعز في صناعة البلغة (نوع من الأحذية) يُلبس في المناسبات مثل الأعراس والأعياد، وتسمى أيضا المدفونة وتتميز بلونها الأصفر وتصنع يدويا، وتمر بستة مراحل في تصنيعها حتى تجهز وهي من أشهر المنتجات في فاس.

يتحدث الحرفي إدريس الفيلالي الذي يقوم بتصنيع الأدوات الحادة والسكاكين، فيقول إنه تعلم هذه الحرفة وهو في عمره تسع سنوات، وها قد مر عليه في 72 عاما في هذا العمل الذي كسب فيه قوته وقوت أولاده وأحفاده ولا يزال يعمل.

الأصباغ المستخدمة في دباغة الجلود حيث المهنة الأكثر تداولا في فاس

ويقول كله بتوفيق الله، فالجميع هنا يتعاملون معه ويشترون بضاعته، منهم الدباغين وصناع وسائد الجلد (السطارمية) وبائعي التوابل والحلاقين، وحتى الأطباء الذين يأتون بمختلف المقصات ومشارط الجراحة.

أما محمد العسري فهو صانع الأمشاط، فقد بدأ عمله في خمسينيات القرن الماضي، وهو يصنع الأمشاط من قرون الثيران على وجه التحديد، وقد ارتفع سعرها وقل توفرها في الآونة الأخيرة، كما أن الطلب أيضا قل عليها وأصبح الناس يستخدمون البلاستيك.

أما مهنة الترميم، فتعد واحدة من المهن المطلوبة في فاس، ويقول أحد المرممين إنه تربى بالقرب من مسجد سيدي بو جيدة وتعلم حرفة تصفير (زخرفة) النحاس التقليدية، ثم بدأ العمل في ترميم المنازل التراثية  القديمة .

ويستخدم الآجر التقليدي المصنوع يدويا من الطين، ثم يشوى بأفران النار ليأخذ شكله النهائي وهذا الآجر الذي يسمى “البلدي” يصنع بنفس الطريقة التي يعود تاريخها  لقبل 1200 عام وقد بنيت المدينة منه.
هناك أزيد من 400 حرفة داخل السوق كما يقول الدكتور محمد اللبار، تبدأ من النسيج لتصل إلى الأسلحة، وقد سمح وجود التجار والحرفين بالقرب من مسجد القرويين لهم بالتعلم عن طريق حضور الدروس، وكثير منهم تعلم وأصبح من شيوخ القرويين .

أما عدوة الأندلس فلها تاريخ مهم بالنسبة لاقتصاد المنطقة، إذ أنها كانت تستقطب الحبوب ومختلف الغلال الزراعية وكانت تدخل من باب الخوخ أو باب الفتوح باتجاه عدوة الأندلس، ومدينة فاس مشهورة برحبات الحبوب وفيها أربع رحبات أقدمها يعود للقرن التاسع الميلادي.

الكتّاب.. مدرستي الأولى

اشتهرت فاس بالمسيد أو الكتاتيب وهناك مسيد موجود في درب سلمى وقد تخرج الكثيرون منه ممن التحق بجامعة القرويين، ومنهم من غادر المدينة.

إن وجود الجامع أتاح للتجار والصناع أخذ العلم وإجازته، وفي العصر الذهبي للقرويين كانوا لا يجيزون العالم إلا إذا تمكن من العلم وكان ذو خلق ودين.

من القرويين خرج التجار باتجاه أفريقيا ونشروا الإسلام وأثروا في الناس من خلال أخلاقهم الحسنة وتدينهم  .

الساعة الشمسية (المزولة) المستخدمة في تحديد وقت الصلاة في جامع القرويين

تعد جامعة القرويين أهم معلم من معالم فاس بل حتى كامل المغرب وقد اعتمدتها موسوعة “غينيس” كأقدم جامعة في التاريخ الإنساني، بنتها “فاطمة الفهرية” وهي سليلة عائلة قيروانية كم شيدت أختها مريم جامع الأندلس على الضفة اليمنى للقرويين والمشابه له في الأهمية وليس في حجم البناء .

بني جامع القرويين عام 859 النواة الأولى كانت المسجد، وعرف توسعتين: الأولى في عصر الأمراء الزناتيون قاموا بتوسعة مقدارها نحو 3 آلاف متر مربع في أواخر القرن التاسع، والثانية في عهد المرابطين الذين أضافوا مساحة كبيرة للجامعة بلغت ما يقرب آلف متر مربع، وبني الصحن محاكاة لقصر الحمراء بالأندلس وقد حوى ثلاثة نوافر ماء.

جامعة القرويين.. صرح من صروح الإسلام

ومن المعالم المهمة في جامعة القرويين الصومعة التي بناها أحمد بن أبي بكر الزناتي أحد ولاة الدولة الأموية في الأندلس في منتصف القرن الرابع الهجري وهو الذي بنى صومعة جامع الأندلس .

وهناك الغريفة، وهي غرفة المؤقتين الذين اعتمدوا على الفلك والنجوم لضبط مواقيت الأهلة والصلوات، وكان لجامع القرويين دوره ليس فقط في تلقي العلم، بل أن  له كان له دور اجتماعي مهم، حيث أن الدروس كانت متاحة للجميع ولم تكن خاصة بالطلبة فقط، فكان سكان المدينة والتجار والصناع يذهبون إلى هناك، وهذا أوجد فضاء للتسامح الديني حيث سمح المسلمون لليهود والمسيحيين في تلقي العلوم.

المدخل إلى صومعة جامع القرويين التي بناها أحمد بن أبي بكر الزناتي أحد ولاة الدولة الأموية

ومن أشهر المسيحيين الذين درسوا في القرويين “جربار دورياك”، المعروف بإسم “سيلفستر الثاني” بابا الفاتيكان، ويقال إنه من أوائل من أدخلوا الأرقام العربية إلى الغرب.

ومن أشهر اليهود الذين درسوا في القرويين “موسى بن ميمون” وهو من أصل أندلسي كما أنه عاد للقرويين مرة أخرى ودرس فيها الطب والفلك.

ابن تاشفين.. يترك بصماته

قرب المحراب في جامع القرويين يوجد المنبر الأصلي الذي يعود تاريخه  للقرن الحادي عشر، أما الثريات الموجودة فيه هي عبارة عن أجراس لها علاقة وثيقة بتاريخ المرابطين.
ففي عهد ملوك الطوائف كان الإسبان يحولون المساجد إلى كنائس، وفي المقابل كان كل يوسف بن تاشفين وبعد كل انتصار كان يأخذ الأجراس من المدن التي يستعيدها ويرسلها إلى جامع القرويين، فهذه الثريات هي انتصارات بن تاشفين .

جامع القرويين، واحد من صروح العلم في المغرب العربي عبر التاريخ

ومن معالم المدينة سوق الحناء المختص بتجارة الحناء، وفيه أواني الخزف الفاسي المشهورة، كان في الماضي يسمى “ماريستان سيدي فرج” وكان يضم مكان للإقامة وحديقة مرتبطة به، بني في القرن الثالث عشر في عهد المارينيين في حكم يوسف بن يعقوب.
وقد اختص هذا المكان في علاج المرضى النفسيين، ويروي المهتمون بتاريخ الطب أن هذا المكان كان أول مستشفى للأمراض النفسية في العالم، وأنه تضمن العلاج بالموسيقى حيث كانت يقدم كل يوم خميس درس  في الطرب الأندلسي للمرضى.

فنادق لأمهات مرضعات

اشتهرت المدينة بكثرة فنادقها، ووصل عددها إلى سبعين فندقا وقد تعرض الكثير منها للتلف ومن الفنادق المتبقية فندق البركة الذي بني في القرن الثامن عشر وفي المخيال الشعبي هذا المكان كان لبيع العبيد وسمي البركة لأنهم كانوا يجثون على ركبهم .

وهناك فندق سيدي عبد المجيد المناري أو فندق المرضعات حيث كانت النساء تتطوع لإرضاع الأيتام الذين فقدوا أمهاتهم، وفي المقابل كان هناك عدة أشهاد يشهدون على أن المرضعة أرضعت هذا الطفل ويجعلون له نسبا .

مدينة فاس التاريخية اشتهرت بكثرة الفنادق، حيث بلغ عدد الفنادق فيها في ذلك الزمان 70 فندقا

يقول لطفي ابن إبراهيم لابد أن تنتهي الرحلة إلى مدينة فاس بزيارة حرم الإدريسي مؤسس المدينة، وهناك معراض يرسم حدود الضريح، وفي المخيال الشعبي هذا المعراض وضع للركوع قبل دخول الضريح من باب التقديس، لكنها معلومة مغلوطة رغم تبني بعض الناس لها، ووضع فقط لمنع الدواب من دخول الضريح فالإسلام لا يقدس الأضرحة .

بيوت بنكهة أندلسية

وكغيرها من المدن القديمة  اشتهرت فاس بأزقتها الضيقة، ومنها تلك الأزقة سرية التي لا يعرفها إلا أهل المدينة، وهناك اعتبارين لتلك الأزقة الأول أمني فهي مجهولة للآخرين والآخر الاستفادة من الفضاءات.

وترى المهندسة المعمارية “مريم غاندي” أن أزقة فاس النموذجية تخفي خلفها مظاهر الثراء وتحجب الوضع الاجتماعي للعوائل، كما أن المنازل لها نوافذ محكمة الإغلاق وشديدة الصغر في حجمها، أما الدور العلوي فهناك نوافذ بشبابيك حديدية مزخرفة بالتشبيك.

بناء البيوت في فاس يقوم على الطراز الأندلسي والدمشقي حيث التهوية إلى الداخل

في الداخل أنموذج للمنازل في العهد الأندلسي التي تحمي صحن البيت من عيون المارة ولا تسمح للزائر برؤية مكونات البيت الداخلية إلى بعد تخطي الردهة، ولم يكن يسمح للمرأة في تلك الفترة أن تفتح الباب بشكل تلقائي للطارقين بل تنظر من خلال الأسوار الحديدية لمعرفة الطارق.

وفي الفضاء الداخلي للرياض تكون الهندسة تناظرية متماثلة بحيث يوجد محور مقسم لجزأين متقابلين مع أبواب ضخمة صنعت من خشب الأرز، وعند فتح تلك الأبواب تعلق رائحة العود في يد لامسها رغم مرور قرون على صناعتها، وبفضل الحرفين تعود تلك الأبواب مجددا كما كانت لأنهم يدركون تماما قيمتها.

وتزين الردهة حنايا مستوحاة من الثقافة الأندلسية لأناس قدموا من الأندلس ومن بينهم فنانين قدموا معارفهم، وطرقا فنية لرصف الزليج (بلاط الفسيفساء) ونقش الجبس .

فسيفساء الهندسة والجمال

كانت مدينة فاس تقع في طريق القوافل، حتى قال عنها ابن بطوطة “أصبحت فاس مرآة العالم”، لأنه حمل إليها مختلف المعارف، خصوصا تلك الفنون والحرف القادمة من الأندلس، التي عبر عنها أصحابها بطريقة ساحرة وأنيقة، ظهرت في البيوت بشكل واضح، ومنها لوحات الزليج (الفسيفساء) والرسوم المخرزة والحديد المشبك والخشب المنقوش بطريقة مذهلة خلاقة .

الزخرفة والفسيفساء هي طابع البيوت والأبنية الفاسية

في البيوت كانت توضع الستائر التي تضفي أجواء ربيعية وتترك مفتوحة عندما يكون الطقس معتدلا وتغلق في الحر مع ترك الباب مفتوح ليدخل الهواء كما أنها تغلق إذا دخل شخص غريب إلى البيت  .

في تلك البيوت كانت حيوات رغدة لنساء كن يحضرن الطعام لأسرهن، وفيها استقبال أشراف المدينة، ومناقشات تدور حول الشعر والغناء ومختلف العلوم، والسهرات الراقية على أنغام الموسيقى الأندلسية وصفقات تجارية تعقد.

الموسيقى الفاسيّة.. سهرات وحفلات

يقول الموسيقي محمد العلوي عندما كنت شابا لم يكن هناك شهرة واسعة للفنانين، لكن فيما بعد بدأت الآلات الموسيقية تلقى شهرة، “كنا نستمع للموسيقى من خلال الأسطوانات التي كانت تصنع يدويا”.

لما ظهر المذياع في حقبة الستينيات من القرن الماضي، كان أول المشاهير الموسيقار والفنان عبد الكريم الرايس، ويقول العلوي “في الحفلات كان هناك فصل بين النساء والرجال تجلس النساء في الدور العلوي والرجال في الأسفل حيث كن يروننا ولا نراهن ثم تطورت الأمور وأصبحنا نجلس سويا”.

ويتذكر عندما زار عبد الحليم فاس واستقبله الموسيقار أحمد الشجعي وكان صوته شجيا حتى أن عبد الحليم جثى على ركبتيه، وقال “الله عليك يا أستاذ أحمد” .

للموسيقى والأناشيد طقوس يتعلمها حتى الأطفال

يعتبر المديح والسماع من التراث الأصيل لأهل فاس والمغرب على وجه العموم، وهو فن دارج في الزوايا والأعراس وفي جميع مناسباتهم، يقول يوسف بنعبد الله رئيس جمعية الداردارية للسماع يفرح المغاربة بقول “لا إله إلا الله ومحمد رسول الله” تلك الكلمات تدخل البهجة والسرور للنفس والتي نذكرها دائما مع شيوخنا في الزوايا ومنهم سيدي عبد الحق العطار وسيدي حميدي العمراوي وسيدي العربي العمراوي وأخير الحاج محمد بنيس، كانوا في في عهد دولة المرينيين يجتمعوا ويصلوا على النبي .

فاس مدينة أسسها الأدارسة وبناها الأمازيغ وسكنها العرب والأفارقة والأندلسيون وشملت الديانات السماوية الثلاث، مدينة جمعت بين سحر الشرق ورقة الأندلس مفتاح سرها جامع القرويين.