“كازاخستان.. الإرث المسموم”.. سم الرصاص العابر للأجيال

 

سناء نصر الله

في عالم سادت فيه المادية، وطغى فيه المال ليغطي على كامل المشهد، تختلط الأولويات، وتسود الفوضى، وتصبح حياة الناس البسطاء لا قيمة لها، فمعاناتهم مع الفقر والتلوث والمرض لا تعني شيئا لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين، ولا لمن يدعمهم من الفاسدين من أصحاب السلطة.

في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة بعنوان ” كازاخستان.. الإرث المسموم” ضمن سلسلة “عالم الجزيرة”، يقدم لنا معد الفيلم والصحفي روبين فورستر، صورة جلية لطغيان المتنفذين من البشر، فلم يقتصر هذا الطغيان على الإساءة للبيئة فحسب بل تعداها إلى الإنسان، الذي أصبح فريسة سهلة للأمراض الناجمة عن التلوث.

يحكي لنا الفيلم قصة مصنع صَهر الرصاص في مدينة شيمكنت، وهي ثالث أكبر مدينة في كازاخستان، ويقطنها أكثر من 600 ألف نسمة، لكنها تعد واحدة من أكثر المدن تلوثا على وجه الأرض، فقد عانت عقودا من الإساءة للبيئة عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي.

ومثل كثير من مدن العالم، فمدينة شيمكنت غنية بمواردها الطبيعية، وقدّر لها أن تكون مقرا لمصنع الرصاص الذي اعتبر مثالا مذهلا على النمو القوي للصناعة الاشتراكية، لكن في المقابل لم يهتم أحد بوضع البيئة، والآثار التي يمكن أن تحدثها مثل هذه المصانع على حياة الناس.

 

80 عاما من التلوث.. مخلفات الجيش الأحمر

تم تشييد مصنع الرصاص عام 1934 وهو من أهم المصاهر في الاتحاد السوفياتي، وخاصة في الطلقات النارية، فثلاثة أرباع الرصاص الذي أطلقه الجيش الأحمر كان يُنتج في ذاك المصنع.

عمل هذا المصهر القديم طوال الحقبة السوفياتية وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي القرن الـ21 استمر حتى عام 2008 عندما أغلق المصنع، لكن فجأة في عام 2010 تم إشعال أفران الصهر في المصهر من جديد بعد اتفاقية مع أصحاب المصهر.

يقول المهندس الكيميائي “جيف تيمبل”: عملت في المدينة لعدة سنوات، كانت المخلفات غاية في الخطورة وقد أنتجت ثمانين سنة من التلوث في هذه الأرض، لقد تسببت نتائج فحص عينات من التربة بصدمة للمشرفين على البحث.

كان معدل الزرنيخ في عينات الاختبار أكثر من الطبيعي بأكثر من ثلاثين ضعفا، أما معدل الرصاص فقد تجاوز المعدلات المسموح بها بنحو 70 ضعفا، كما تجاوزت معدلات معدن كادميوم عشرة أضعاف.

لك أن تتخيل حجم التلوث الذي تعرض له الأطفال عندما كانوا يلعبون في هذا المساحات أثناء تشغيل المصنع، أما سكان البلدة فلا يفصل بينهم وبين المصنع إلا مسافات قصيرة، بل إن بعض المناطق كانت ملاصقة للمصنع.

سببت إعادة تشغيل المصنع صدمة للمهندس الكيميائي جيف، فكيف يعاد تشغيله وقد تسبب فيما تسبب به من المعاناة والمرض للسكان؟

شيمكنت.. أجيال لم تولد بعد، لكنها لن تعيش طويلا

قام فريق بيئي دولي في عام 2012 بإجراء فحوصات للأطفال في المدينة، وكانت النتائج مخيفة، فقد أظهرت إصابة 52% منهم بأعراض التسمم نتيجة للتلوث البيئي، أي أن أكثر من 100 ألف طفل تعرضوا للتسمم. كانت أعضاء الأطفال النامية هشة وضعيفة، والتسمم بالرصاص يخلّف آثارا مريعة في تطور ونمو الأطفال، بالإضافة لضعف الإدراك الذهني ونسب الذكاء.

عُرضت نتيجة البحث الذي أُجري في شيمكنت على خبيرة الرصاص في بريطانيا كارولين تايلور، وكان تعليقها أن هناك خوفا على الأطفال الذين لم يولدوا بعد وعلى الأجيال القادمة في هذه المدينة.

وتقول كارولين: قد نتوقع نسبة كبيرة من الأجنّة الذين يولدون بأقل من الحجم الطبيعي، وسيعيشون بحجم ضئيل مقارنة مع أقرانهم، كما أن لذلك أثرا على درجة الذكاء والتحصيل العلمي، بالإضافة إلى أن ذلك سيؤثر على سلوكهم كالنشاط المفرط، وكل هذه العوامل ستخفض من قدراتهم.

أكثر من 100 ألف طفل تعرضوا للتسمم في شيمكنت

 

الأراضي الرخيصة.. المستجير من الرمضاء بالنار

في حي كزيغوت الملاصق للمصنع، يلجأ السكان إلى هناك لأن أسعار الأراضي رخيصة، لكن المعلمة المتقاعدة “سليمة أورتايكايزي” التي انتقلت إلى شيمكنت في السبعينيات من القرن المنصرم، لاحظت شيئا غريبا وغير معتاد في أطفال هذه المنطقة.

تقول سليمة: كنت أتوقع أن يكون الأطفال هنا أكثر ذكاء وتميزا من أطفال القرية، لكن على العكس من ذلك كانت صحتهم ضعيفة وإدراكهم العقلي متدنيا.

تأخذنا سليمة في جولة لبعض العائلات التي يعاني أطفالها من المشاكل، هنا الطفل نوربك الذي يبلغ من العمر 11 عاما، لكن حجمه أقل بكثير من أقرانه.

تقول عمته التي تقوم على رعايته: إنه لاينمو ولايحب اللعب ولا الضوضاء، وعندما يلعب يصيبه المرض وعندما يشعر بالضوضاء يتملكه الغضب.

والحال نفسه في المنزل المجاور حيث الأخوين “طرسنوف”، وكذلك “داريا” و”لوفساي” أبناء العم، فهما يعانيان من صعوبة في التعلم بالإضافة للمشاكل في التواصل والتأخر في النمو. معظم أطفال المدينة الذين تم تشخيصهم تبيّن أن الأمراض والاعتلالات التي كانت تصيبهم تشير إلى التسمم بالرصاص.

إعادة التشغيل.. عودة السحاب الأسود

يتحدث المدراء في الشركة المشغلة “كزاخميس” عن النتائج التي سيعطيها المصهر، فالهدف إنتاج 32 ألف طن من المواد الخام، مع وعود بالسيطرة على الإنتاج والتشغيل. ويقول رئيس مجلس إدارتها إن الشركة بنفسها ستتولى الإدارة المالية والتشغيلية للمصهر، أما سلامة البيئة فلا ذكر لها.

وتعتبر شركة “كزاخميس” أكبر شركة منتجة للنحاس في كازاخستان، وهي شركة بريطانية مقرها لندن، وتملك 16 منجما ينتج الزنك والفضة والذهب، وتبلغ قيمتها السوقية 6 مليارات دولار أميركي.

يقول معد التحقيق روبين: لم تفصح الشركة عما ستفعله بالمصنع، لكننا عرفنا من تقرير رسمي للشركة أن العملية كبيرة، وكانت المخلفات تحتوي على غبار الرصاص والزرنيخ ومعادن أخرى ثمينة، تريد الشركة معالجتها للاستفادة منها، لكن دائرة الصحة المحلية لم تمنحهم إذنا بالعمل.

لقد تسببت الشركة في الكثير من الأذى المستمر للأرض والسكان عبر إزعاجات وأدخنة منبعثة لا يمكن السيطرة عليها، فقد استيقظ السكان ذات يوم على سحابة سوداء من الدخان تعم الأجواء، مما أدى إلى فزعهم من تلك الظاهرة. تقول إحدى السيدات: شاهدت سحابة سوداء وشعرت بعدم القدرة على التنفس، فهرعت راكضة إلى البيت وأغلقت النوافذ.

حسب القانون البريطاني فعلى تلك الشركة مراعاة القانون البيئي البريطاني قبل البدء بعملياتها، لكن لم يتم تقييم هذا الخطر البيئي.

يقول روبين: لقد عثرنا على وثائق من وزارة البيئة الكزخية تفيد أن المصهر مسموح له بإنتاج 28 طنا في العام الواحد، وقد تم تجاوز هذا الرقم باستمرار، وتم تغريمهم عدة مرات.

مصنع الرصاص تم تشييده عام 1934 وهو من أهم المصاهر في الاتحاد السوفياتي

 

“المصنع ليس لنا”.. التهرب والتناقض

في تفاصيل القصة أن شركة كزاخميس حاولت أن تنأى بنفسها عن المصهر، وقالت إن مصهر الرصاص في شيمكنت لا يمت لها بصلة.

ويظهر الصحفي روبين فوستر التقرير الذي صدر بعد إنكار الشركة علاقتها بالمصهر، إذ لا يوجد في التقرير ما يشير لذكر أي دراسة بيئية عن المصهر، ولا يوجد ذكر للمساهمين ولا للديون أو الأرباح.

لكن إنكارهم لحقيقة إدارتهم للمصهر يتعارض مع صورهم في افتتاحه عام 2010، وها هو المدير التنفيذي “يزبان أوزفنوف” يقول في الافتتاحية إن الشركة بنفسها ستقوم بإدارة الشؤون المالية والآلية لضمان أعلى مستوى للأرباح وتجنب الخسائر.

اتصل روبين بشركة “كزاخميس” وسألهم عن هذا التناقض، وقد استلم رسالة بالبريد الإلكتروني من رئيس الاتصالات بالشركة جون سميلت يقول فيها “مصهر الرصاص بدأ العمل 1934 والشركة لم تشغل المصهر يوما، لكننا قمنا بتوريد بعض المواد لفترات قصيرة نسبيا، وكان التوريد يتم كطلب حكومي لدعم التوظيف ونحن لم نرسل مواد منذ مدة، وأعتقد أن المصهر مغلق الآن”.

وجهان لعملة واحدة

عكس ما تقوله شركة “كزاخميس” من أنها لم تدر المصهر وأن الشركة المسؤولة كان اسمها “أي ميغا تريدنغ”؛ في عاصمة كازاخستان التجارية “آلماتي”؛ وجد الفيلم علاقة غريبة بين شركة أي ميغا تريدنغ وكزاخميس.

بعد البحث وجد فريق الفيلم عنوان شركة “أي ميغا تريدنغ” وأن لها موقعا بالفعل ومديرة الشركة هي “نتالي إيفاشينا”، وأن مالك المبنى هو مسؤول كبير في كزاخميس.

حاول روبين لقاء نتالي، وسُمح له بالدخول، لكن لم يسمح له بالتصوير.

ودار هذا الحديث بينهما:

سألها روبين عن علاقة شركتهم بكزاخميس، وهل كزاخميس في هذا المبنى.

نتالي: نعم موجودة، ولكن لاصلة لنا بها، وكل ما بيننا عقد ونحن استأجرنا هنا بشكل مؤقت، لأن مكتبنا كبير وتحت الصيانة.

روبين: ماذا كان عملك؟
ردت نتالي بغضب شديد: لماذا تريدني أن أجيب عن السؤال؟

كنت أعمل بشركة “إنفو سبورت” التي تبيع ملاعب رياضية ولا علاقة لها بكزاخميس، كنت أعمل مع “فيرتكس”.

روبين: هل كنت تعملين مع جومان بيف؟

نتالي: أجل كنت أعمل معه.

روبين: هل أستطيع إجراء مقابلة معك أمام الكاميرا؟

نتالي: كلا لا أريد.

روبين: هناك مخالفات بيئية؟

نتالي: لا يمكن ذلك، اسمعني لم يكن المصنع لنا، كنا نديره فقط، لسنا من يدمر البيئة، لكنها المعدات المركبة منذ زمن من قبل المُلاك، هم من كان عليهم تغييرها. هذا كل مافي الأمر، نحن فقط استأجرناه، نحن شركة “أي ميغا تريدنغ”.

المصهر القديم عمل طوال الحقبة السوفياتية وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي

 

الإضرار بالبيئة.. خرق قوانين البرلمان البريطاني

ينقل روبين حديثا لوزير البيئة الكزخي يقول فيه: إن شركة “أي ميغا تريدنغ” كانت تابعة لكزاخميس، وتسيطر عليها سيطرة كاملة في الإنتاج والتمويل وكل شيء.

ولمتابعة التحقيق الصحفي، يتصل روبين مرة أخرى برئيس الاتصالات بالشركة “جون سميلت”، الذي كان يقترح حديثا خاصا بينما يريد روبين مقابلة صحفية.

يعود ويسأله عن علاقة الشركتين ببعضهما، يتهرب جون من الإجابة، فيعود ليسأله عن الأضرار بالبيئة؛ فيرفض الإجابة.

تجدر الإشارة هنا، إلى أنه حتى عهد قريب كانت كزاخميس من ضمن 100 شركة حسب مؤشر الفاينناشل تايمز، لكنها اليوم من ضمن ٢٥٠ شركة، ولا تزال لاعبا مهما في الأسواق اللندنية، كما أن صناديق الضمان اللندنية استثمرت أموالا طائلة فيها. وكما هو معلوم فقد صادق البرلمان البريطاني على قانون الشركات البريطانية، وأن على كل الشركات الالتزام بالقوانين بغض النظر عن مكان إقامتها، ومن ضمن تلك القوانين عدم الإضرار بالبيئة والمجتمعات المحلية.

لذلك فأي شركة بريطانية لها علاقة بمصهر شيمكنت يجب عليها عمل دراسة، وأن تبلغ المساهمين بأي نتائج مثلما تخبرهم بالأرباح، ومن لا يلتزم يُغرم أو يُسجن.

من يعيد للأطفال حياتهم؟

يقول “توم مايين” من شركة “غلوبل ويتنس”: كثير من المستثمرين يشعرون بالقلق من ناحية الثقة بتلك الشركات، ويتسائلون إن كانت لديهم المعلومات الكافية المتعلقة بكزاخميس، وهذا السؤال يبقى مفتوحا.

كان تورط كزاخميس بالمصهر محدودا في السنوات الأخيرة، ويبدو أن علاقتهم بالمصهر قد انتهى عهده، وأي تلوث حصل في زمنهم يضاف لتلوث بيئي كان موجودا أصلا، لكن ذلك لا يبرئ ساحتهم.

تقول “كارولين تايلور” من جامعة بريستول: أعتقد أنه حتى لو لم يكن هناك عقوبات قانونية، فإنه يتوجب عليهم تحمل مسؤولية أخلاقية؛ لأنه من الصعب تحديد الآثار مهما كانت علاقتهم بالمصهر، فيتوجب عليهم تحمل بعض المسؤوليات لما حدث.

استغرق الأمر عقودا خلال الحقبة السوفياتية لكي يتراكم هذا الجبل من النفايات السامة، لكن مهما نتج من شركتي “أي ميغا تريدنغ” و”كزاخميس” فإنه يظل مخيفا، لذا من الصعب تحديد مدى الضرر الذي أحدثتاه على أهالي شيمكنت وعلى البيئة، وهو تحدٍّ يواجه أي إجراء في المستقبل.

وفي جميع الأحوال فأطفال شيمكنت لهم حقوق بكل تأكيد، ففي حالات كهذه يحق للسكان الحصول على تعويضات من الشركات العالمية التي أساءت استخدام البيئة واعتدت على الطفولة هناك وحولت المكان إلى مكب نفايات. لكن في النهاية، رفضت شركة كزاخميس توضيح علاقتها بأي ميغا تريندنغ كما أكدت عدم مسؤوليتها عن تشغيل المصهر.