“لحن على أنغام الحصار”.. صخب الموسيقى والدبكة يكسر قيود الاحتلال

خاص-الوثائقية

رغم الحصار وقهر المحتل، واجتماع الضيقين عليهم، ضيق المخيم وضيق ذات اليد، فإن أحلامهم تحلق بأرواحهم إلى مكان آخر، وعلى أنغام موسيقاهم تطير بهم الآمال نحو غد زاهر.

في مخيم دير البلح في قطاع غزة، وعلى شاطئ البحر كان الإلهام، حيث تبدأ الحروف الأولى بالتشكل لتنسج رواية عصية على الحصار وظروف الاحتلال، ههنا رجل يسعى ليقدم ما لديه من موهبة موسيقية لخدمة أطفال المخيم، ولتشكيل نواة فرقة واعدة تحلم بمستقبل أفضل.

يناقش هذا الفيلم -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- واقع الحياة في غزة في ظل الحصار من خلال الموسيقى بالتركيز على أبو أحمد، وهو عازف للموسيقى جعل بيته مدرسة لتعليم الموسيقى للأطفال، فهل سينجح بتكوين فرقة موسيقية تجمع أطفال مدينته؟

 

محمد مسعود.. إرث موسيقي في مخيمات غزة

مدرب الموسيقى محمد مسعود من أبناء مخيمات غزة، وقد بدأ رحلته مع الموسيقى في العام 1979، في ذلك الوقت كان المخيم يفتقد لأي مدرسة أو ناد أو حتى عازف محترف أو مدرس متخصص ليتعلم منه الموسيقى.

أخذ يتعلم من بعض الأصدقاء من حوله ممن كان لديهم بعض المعرفة بالموسيقى، وتعلم الألحان كتابة بالأحرف لا بالنوتات الموسيقية، وكان يطبقها ويتدرب عليها، حتى أتقن العزف.

يشعر محمد اليوم بمسؤولية تجاه الأطفال الذين لديهم مواهب في العزف والغناء، يدرك تماما ظروفهم المعيشية، لذا فهو يعلمهم بالمجان ويستقبلهم في بيته المتواضع في المخيم.

خلف قاسم.. مؤسس فرقة كنعان الفنية بمخيم الشاطئ

 

خلف قاسم.. ألحان تراقص أمواج الشاطئ

أما صديقه خلف قاسم مؤسس فرقة كنعان الفنية، فهو عازف إيقاع كان هاويا منذ صغره، في البداية كان يجمع أواني الطبخ ليدق عليها ثم تطور حتى أصبح مدربا للدبكة.

عند انقطاع التيار الكهربائي في المخيم -وكثيرا ما ينقطع- يذهب الرجلان إلى شاطئ غزة، فيعزفان ألحانهما هناك لينسيا هموم الحياة، فالألحان تفصل المرء عن واقع مرير وقاس في مخيمات التهجير، وهو واقع فرض عليهم ولم يختاروه، يتذكر محمد طفولته وكيف صنع آلة عزف من لوح خشبي وبعض الخيوط والمسامير.

في بيته في مخيم دير البلح بقطاغ غزة، يتطوع محمد مسعود بتدريب الأطفال على الموسيقى

 

“علي العمل لكسب قوت يومي”.. معلم الموسيقى البقال

يعمل محمد مسعود بائعا في بقالة، بينما يعمل خلف قاسم سائق أجرة، ويقول إنه قبل مجيئه إلى غزة كان يعيش في بلدة بورين بقضاء يافا، وهي معروفة بطقوسها الاحتفالية التراثية، حتى أن هناك مثلا معروفا عند أهل يافا يقول إن المرأة كانت تقول لزوجها “يا بتروّبني يا بتطلقني”، أي إما تذهب بي إلى بورين أو أن تطلقني، وهذا يدل على الأجواء الاحتفالية التي كانت تعرف بها بورين قبل الاحتلال الإسرائيلي.

ويضيف خلف أن هدفه إحياء تراث بلدته، وأن يعلم الأطفال الرقص الشعبي (الدبكة)، وأنه كان يود أن يكرس وقته للفرقة، لكنه مضطر للعمل لضيق ذات اليد، إذ يقول: للأسف عليّ العمل لكسب قوت يومي، فالفن في غزة مجاله ضعيف ولا يوجد منه عائد مادي، علينا الكد والتعب لنعيش.

وافق محمد مسعود على طلب الأهالي بأن يقوم بتعليم أبنائهم في بيته دون مقابل، يقول: علمت عددا من الأطفال بعضهم أصبح شابا الآن، ومنهم من سافر خارج القطاع.

الموسيقي محمد مسعود وطلاب فرقته المتدربون

 

ماسة السردي ويمنى البحيصي.. عاشقتا الموسيقى

تقطع الطفلة ماسة السردي عدة كيلومترات حتى تصل إلى منزل أستاذها محمد مسعود، لكن هذا لا يهمها فهي حريصة على تعلم الموسيقى التي تولد حبها في قلبها من جلسات أصدقاء والدها الذين كانوا يجتمعون عنده في البيت ويعزفون.

يقول والدها إن قضايا الموسيقى كباقي قضايا الفن لا تأتي فجاة وبشكل عشوائي بل تحتاج للتمرين والممارسة، وقد “شعرت أن ماسة لديها الموهبة والرغبة، وحاولت أن أساعدها، في البداية عزفت على الكمان ثم وجدت نفسها تتجه للعود”.
وتقول ماسة إن الموسيقى لغة عالمية يستطيع الناس فهمها رغم اختلاف ألسنتهم وجنسياتهم “لذا أتعلم الموسيقى حتى أصل إلى العالم”.

أما الطفلة يمنى البحيصي، فقد أحبت الموسيقى منذ كان صغيرة جدا، تقول والدتها مها: كانت يمنى ذات طبيعة هادئة، تستمع إلى الموسيقى على موقع يوتيوب وأخذت تقلد وتعزف بواسطة التطبيقات الإلكترونية، وتعلمت العزف على آلة القانون واليوم بدأت العزف على الكمان.

في بيته المتواضع يجلس محمد مسعود بين طلابه يعلمهم العزف والغناء، يقول أحد طلابه: رغم الظروف الصعبة، فإن الأستاذ يشعر نفسه وكأنه في مدرسة للموسيقى.

كعمل تطوعي، تقدم فرقة الدبكة وفرقة الموسيقى عرضا فنيا في جمعية دير البلح للمعاقين

 

جمعية تأهيل المعاقين.. عرض غنائي راقص

في بيت خلف قاسم درس فني لكنه من نوع آخر، حيث يعلم الأطفال الدبكة، كجزء من التراث، يفكر خلف بدمج طلابه مع طلاب صديقه محمد، ليقدما معا احتفالية يؤدي فيها الطلاب عرضا فنيا متكاملا.

يقول الطفل وديع موسى: أحلم أن أصبح فنانا مشهورا، وأن أوصل صوتي للعالم، بينما ترى ماسة أن الأمر يستحق منها قطع كل تلك المسافات لأنها أحبت الموسيقى وستعمل أي شيء من أجل ذلك، وبالرغم من البساطة التي يعلمهم بها الأستاذ محمد مسعود والبساطة في البيت الذي يتعلمون داخله فهو ليس أكاديمية ولا حتى مدرسة؛ فإنها استفادت كثيرا ودعمها وطورها.

أما يمنى فحلمها أن تصبح عازفة وتفتح معهد موسيقي لتعلم الأطفال، وتري العالم بأن أطفال غزة لديهم مواهب رغم الحصار والاحتلال.

في جمعية دير البلح لتأهيل المعاقين يقوم الأطفال بعمل عرض فني متكامل، فمنهم من يعزف ومنهم من يغني وآخرون يدبكون، قد يقيّدهم الحصار ويمنع عنهم الغذاء والماء والكهرباء، لكنه لن يستطيع أبدا قتل أحلامهم ومواهبهم وإرادتهم في الحياة.