“هويات بَيْنَ بَيْنَ”.. تذبذب الهويات بين فيلسوف فرنسا وكاتب الجزائر

خاص-الوثائقية

لم تشهد علاقة بين أمّتين من التعقيد والتناقض ما شهدته العلاقة بين فرنسا والجزائر، فإن 130 عاما من الاحتلال، وبضعة ملايين من الشهداء والجرحى والمشردين والمعتقلين، وحركات تحرر ما فتئت تشتعل وتنطفئ على مدار السنوات، كانت كفيلة بخلق علاقة من نوع خاص بين الشعبين.

أفرزت هذه العلاقة أزمةَ هوية من نوع خاص لدى بعض المواطنين من البلدين، وقد عرفت بأزمة الهوية المزدوجة، ذلك أن كثيرا من الفرنسيين قد ولدوا ونشأوا وترعرعوا على أرض الجزائر. وقد استعرضت الجزيرة الوثائقية هذه الحالة من خلال شخصيتين عالميتين هما الكاتب الجزائري “كاتب ياسين” والروائي الفرنسي “ألبير كامو”، في فيلم بعنوان: “هويات بَيْنَ بَيْنَ”، عرض ضمن سلسلة وثائقية تحمل عنوان “جسور التواصل”.

 

“ألبير كامو”.. أزمة الهوية بين المنشأ والأصل

بدأ احتلال فرنسا للجزائر عام 1830، وكانت الجزائر حتى ذلك الوقت ولاية عثمانية، وكان ذلك احتلالا استيطانيا بكل معنى الكلمة، ويهدف إلى تحويل البلاد إلى مستعمرة فرنسية وصل عدد المقيمين فيها من الأجانب في نهايات القرن الـ19 إلى مليون مقيم من جنسيات أوروبية مختلفة، أغلبيتهم الساحقة من الفرنسيين، يتمتعون برغد العيش على حساب أهل البلاد الأصليين.

ولد الكاتب الشهير “ألبير كامو” في عنابة سنة 1913، وفقد والده مبكرا قبل أن يعرفه، فقد كان أبوه في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى وقتل فيها، وكانت أمه بكماء صمّاء، فعاش طفولة قاسية، فهو من فضاء البينَ بينَ، هوية موزعة بين أصول فرنسية لم يحظ بعيشها الرغيد، وظروف جزائرية صعبة لم يكن من أهلها الأصليين، ثم اكتشف لاحقا حالة الانفصام بين مستعمر ومحتل.

عاش “كامو” طفولته وجزءا من شبابه كفرنسي يعيش في الجزائر، وجزائري لا تنتفي عنه فرنسيته. تلك الهوية المزدوجة لا يعكر صفوها بعض مظاهر احتجاج السكان الأصليين ضد المحتل الفرنسي، رغم أن سنّه الصغيرة لم تسمح له باستيعابها.

“كاتب ياسين” أديب جزائري من أصول أمازيغية

 

كاتب ياسين.. فرنسي الجنسية أمازيغي الدم عربي اللسان

ليس ببعيد عن “كامو” ولد كاتب ياسين بعد 16 عاما لأسرة جزائرية أمازيغية متعلمة، لا تعاني الفقر المدقع مثل عموم الجزائريين، ولكنها مثلهم تعاني من المحتل الغاشم الجاثم على صدر البلاد، ليحولها قسرا إلى ولاية تابعة لفرنسا عبر المتوسط.

ولد كاتب بمدينة زيغود يوسف بجوار قالمة سنة 1929، لعائلة تشتغل بالقانون، فجده كان “باش عادل” (أي قاضيا)، ووالده كان وكيلا أو محاميا في المحاكم الشرعية، وتتلمذ في البدايات في الكتّاب القرآني لدراسة العربية والقرآن، وهو من الأقلية المحظوظة التي دخلت مدرسة فرنسية بعد ذلك، وبذا تشكلت عنده هويتان؛ الفرنسية الرسمية، والحقيقية الجزائرية.

لم يعش “ألبير كامو” أزمة الهوية المزدوجة تلك وحده، فكاتب ياسين أيضا كان يعيش نفس الأزمة وإنْ بمنظور مختلف. لقد كانت بداياتهما مشتركة في كثير من الخطوط المتوازية، ثم تفرقت هذه الخطوط بعد أن كبرا.

كان كاتب ياسين يكره أن يوصف بأنه من البربر، وإن كانت هذه هي أصوله، وكان يحب أن ينتسب إلى الأمازيغ، فمشكلة الهوية بالنسبة له كانت أعمق، فهو ينتمي إلى عائلة عربية، وينتسب إلى الأمازيغية البربرية.

في الثورة ضد المستعمر الفرنسي، وقف كامو (جزائري المولد) مع بلده فرنسا ضد الجزائر

 

ثورة التحرير.. أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية

مع بداية الحرب العالمية الثانية في 1939، كان الوضع الديموغرافي في الجزائر في غاية التعقيد في ظل الاستيطان الفرنسي والهويات المعقدة لكثير من ساكني الجزائر، وفي نهاية الحرب عام 1945 كان المواطنون الأصليون على وشك الانفجار في وجه فرنسا الخارجة لتوها منهكة من الحرب، وفي أكثر لحظاتها ضعفا.

وفي ظل الاستعمار كان هناك الجزائريون الأصليون، وهم العرب المسلمون، ويدخل تحتهم البربر، وإن كان منهم مسيحيون، وهناك الجزائريون الأوروبيون، وهم مسيحيون كاثوليك أغلبهم من الفرنسيين.

وقد جنّدت فرنسا أثناء الحرب ملايين الجزائريين ليقاتلوا في صفوفها، وعند انتهاء الحرب خرج ملايين الجزائريين إلى الشوارع مطالبين بالحرية والاستقلال، فكان جزاؤهم إطلاق الرصاص عليهم، وظلت البحرية الفرنسية تدك مدن سكيكدا وخراطة وقالمة وسطيف لأيام، وخلف ذلك الملايين من الضحايا بين شهيد وجريح ومعتقل.

رواية “الغريب” البوليسية، كانت سبب شهرة الكاتب ألبير كامو

 

“كامو” وياسين.. لقاء على صفحات الجريدة

في هذه الأثناء كان كاتب ياسين في الإعدادية، واعتقله الجيش الفرنسي أثناء الاحتجاجات، وقد حسبت أمه أنهم قتلوه فجنّ جنونها، ولم يعد إليها رشدها بعد ذلك، وفي تلك الفترة لم يكن قد بلغ رتبة الكاتب بالفعل، ولكن خلال عام واحد أصدر مجموعته الشعرية الأولى “مناجاة” باللغة الفرنسية، وفي هذه الأثناء كان “كامو” -الذي غادر الجزائر منذ سنوات- قد أصدر روايته الأيقونية “الغريب”.

تلك الرواية التي حملت “كامو” إلى مصافّ كبار الروائيين الفرنسيين، بالإضافة لعمله كصحفي في عدة صحف ومجلات فرنسية كبرى، منها “جاليمار” و”المعركة”، وكان يعيش في باريس حياة ملؤها الدعة والاستقرار، لكنه كان يشعر في قرارة نفسه أنه لا ينتمي إلى باريس أو سان جيرمان، بل هو جزائري.

أصبح “كامو” كاتبا مهما على الساحة الأوروبية بفضل كتابه “الغريب” الذي يعد الأشهر بين مؤلفاته، حيث الضحية المقتول في الرواية عربي بلا اسم، ولا يتحدث، وإن كان هو موضوع الحديث، لدرجة أن الكثير من القراءات النقدية لرواية “الغريب” كانت تدين الكاتب “كامو” لتصويره شخصية العربي بهذه الطريقة في الرواية.

لكن ذلك لم يمنع “كامو” من العمل في صحيفة “ألجير ريببليكان”، وهي جريدة محررة بالفرنسية وناطقة باسم ثوار الجزائر والمهتمين بقضيتها، فهناك التقى “كامو” بالشاب الأمازيغي كاتب ياسين الذي انتقل إلى فرنسا، وعمل محررا في نفس الجريدة، لينشأ حوار بين الكاتبين الجزائريين على صفحات الجريدة، ومن خلال المقالات الأدبية والروايات، حول العلاقة المعقدة في ذلك الوقت بين الجزائر وفرنسا.

التقى كاتب الجزائري بـ كامو الفرنسي في روايتيهما المتشابهتين “النجمة” و”الغريب”

 

“الغريب” و”نجمة”.. تشابه الألسنة وتباين المضامين

قبل أن يصل إلى فرنسا عام 1947 كان كاتب ياسين بعمل حمالا في ميناء الجزائر، ولكم أن تتخيلوا هذا الشاب القصير نحيل القامة يحمل كل يوم أطنانا من البضائع على ظهره، وبعد أن عمل في صحيفة “الجمهورية الجزائرية” ترك الصحافة وأقام في باريس في حياة بائسة قاسية، يعمل أي شيء لكسب قوته اليومي فقط.

في عام 1954 صدر بيان جبهة التحرير الجزائرية الذي يعلن بدء الكفاح المسلح ضد المحتل الفرنسي من أجل تحرير الجزائر، واشتعلت الثورة في مختلف ربوع البلاد، وبعد سنتين نشر كاتب ياسين روايته الأولى المكتوبة بالفرنسية التي أخذت اسم بطلة الرواية وشخصيتها الرئيسية “نجمة”.

لم تدشن تلك الرواية كاتب ياسين كأديب جزائري يكتب بالفرنسية فقط، ولكنها دشنت سجالا أدبيا جديدا بين كاتب ياسين و”ألبير كامو”، وقراءات نقدية جديدة عن التقاطعات الأدبية والاجتماعية بين “الغريب” و”نجمة”، خصوصا أن رواية ياسين كانت مشبعة بأسلوب “كامو” في الكتابة إلى حد كبير، وخصوصا في موضوع الهوية.

تتحدث الروايتان عن جريمتيْ قتل، وتدور الأحداث في الروايتين حول تينك الجريمتين، لكن في “نجمة” تجد حضور الشخصيات العربية بأسمائها طاغية، فهناك رشيد ولخضر ونجمة، يتحدثون بألسنتهم عن عنف الاستعمار، ويقاومونه ويقاتلونه، فالعربي عند ياسين يتكلم، ويكون هو موضوع الحوار، ويتحدث بلغة المستعمر أيضا.

وقف كامو إلى جانب المستعمر الفرنسي ضد الجزائر التي احتضنه وسقته من حليبها

 

“لو خيرت بين أمي والعدالة لاخترت أمي”.. قطيعة ما بعد نوبل

هناك جملة تقال عند الفرنسيين عن كاتب ياسين هي: “الفرنسية هي غنيمة الحرب”، وهذا يظهرها كما لو أنها هدية فعلا، وهي جملة أسيء فهمها، لاعتقادهم أنه يفاخر باستخدام الفرنسية في كتاباته، ولكنه كان يكتب بالفرنسية ليقول لهم: “إنني لست فرنسيا”.

بعد عام فقط من ظهور نجمة ياسين التي تندد بالاستعمار، وبينما الجزائريون يخوضون معركة التحرير، والشهداء يسقطون في كل مكان، والانفجارات تدوي في أماكن الاستيطان الفرنسي؛ يُعلَن بشكل مفاجئ عن نيل “كامو” جائزة نوبل للآداب، ليكون أصغر الفائزين بها عبر تاريخ الجائزة، وليتصدر المشهد وتقفز معه الحرب الجزائرية إلى واجهة الأحداث.

هناك في ستوكهولم طرح أحد الطلاب على كامو سؤالا: “ماذا يحدث في الجزائر؟” وقد رد عليه ردا غامضا قائلا: “لو كانت أمي هناك في السوق أو الشارع، وانفجرت قنبلة لفقدْتُ أمي”. ثم قال جملته المشهورة: “لو خيرت بين أمي والعدالة لاخترت أمي”، أي أنه لو خير ما بين فرنسا الأم وبين العدالة للجزائريين، فسيختار فرنسا.

“ألبير كامو” يفوز بجائزة نوبل

 

“أنت لم تكن جزائريا قط”.. رسالة كاتب ياسين الأخيرة

فُتح الباب على مصراعيه لنقد موقف “كامو” الداعم للاستعمار، وأصبح ربيب الجزائر في مرمى نيران المثقفين من أبناء الجزائر، بعد أن كان انتماؤه لها مصدر فخر له ولهم، وانحازوا ساعتها لأمّهم الجزائر مثلما انحاز “كامو” لأمه فرنسا.

ولدى سؤاله: ما هي العوامل التي أثرت على لجنة التحكيم حتى اختاروك لجائزة نوبل عام 1957؟ أجاب كامو: لا أعرف، لست مهتما بأسرار الأكاديمية السويدية، ولكنني أعتقد أن هناك بعض الكتّاب الذين يستحقون الاختيار قبلي، ربما أرادوا أن يُظهِروا بصورة ما وجود جيل أصغر مما نعتقد في فرنسا.

كان اختيار “كامو” لجائزة نوبل مفاجئا بالفعل، نظرا لصغر سنه مقارنة بمن سبقه من الفائزين، لكن المفاجأة الأكبر ارتسمت على وجوه الجزائريين الذين كانوا يعتبرونه واحدا منهم، إثر تصريحاته عن الحرب الجزائرية عقب تسلمه الجائزة. بعدها كتب ياسين رسالة غاضبة وحزينة إلى “كامو”، وخاطبه فيها بداية بـ”المواطن العزيز” ليذكره بجزائريته، ولكنه استطرد بعدها ليقول له: “أنت لم تكن جزائريا قط”.

في حادث غامض، مات الفرنسي كامو في طريقه إلى باريس العاصمة

 

“زمرة الشر الضروري”.. حادث غامض في الطريق إلى باريس

يقول معجب الزهراني، مدير معهد العالم العربي بباريس: وقف “كامو” ضد الممارسات التمييزية للمستعمرين على حساب أهل البلاد الأصليين؛ وكلهم تقريبا مسلمون، ولكنه لم يدرك أو يصل به وعيه إلى أن هذا الآخر سيطالب في يوم من الأيام باستقلاله واستعادة هويته وتاريخه وحضارته.

كان “كامو” ضد الظلم، لكنه في نفس الوقت كان يرى أن تظل الجزائر تابعة لفرنسا، ولكن مع كمية من العدالة أكثر، فهو لم يكن يوما مع استقلال الجزائر، ولذلك كان كاتب ياسين يضع “كامو” في “زمرة الشر الضروري” التي استخدمها كثيرا في روايته الخالدة “نجمة”، ولم يحدث بينهما أي اتصال بعد تلك الرسالة الغاضبة عشية الجائزة.

وبعد ثلاث سنوات -وتحديدا في 4 يناير/ كانون ثاني 1960- لقي “كامو” حتفه في حادث سيارة غامض ومفاجئ وهو في طريق عودته إلى باريس، وذلك قبل سنتين ونصف من توقيع قادة جبهة تحرير الجزائر مرسوم استقلالها عن فرنسا في يوليو/تموز 1962، ولم يرثِه كاتب ياسين ولم ينعَه، لا عند وفاته ولا في السنوات التي عاشها من بعده.

وقد بقيت المقارنات والمقاربات بين عمليهما وحياتيهما مستمرة على مرّ تلك السنوات، كواحدة من بين أكثر جسور التواصل بين الثقافتين الفرنسية والعربية قوة ومتانة، حتى لحق كاتب ياسين بقرنه جراء سرطان الدم في أكتوبر/تشرين أول 1989، تاركا وراءه تراثا فكريا وأدبيا كبيرا، محوره الأساسي فكرة أساسية أرّقت كلا الكاتبين على مدى سنوات تلاقيهما وبعد افتراقهما.. تلك هي جدلية الهوية المزدوجة.