يوم مع طالبان.. كاميرا على جبهة القتال

“الآن أُطفئ الكاميرا، سأقود دراجتي ببطء أمامكم، اتبعوني ولا تأتوا بأي تصرف يثير الانتباه”.. كان ذلك المسلح من حركة طالبان صارما في توجيه تعليماته إلى فريق التصوير في شبكة الجزيرة الإخبارية.

كان الفريق محظوظا بنيل فرصة التصوير في منطقة تخضع بالكامل لسيطرة حركة طالبان الأفغانية، وذلك في فيلم تم عرضه عام 2015 بعنوان “وجها لوجه مع طالبان” ضمن سلسلة “عالم الجزيرة”.

ولاية لوغر.. بلاد طالبان

يتوجه فريق التصوير إلى منطقة تشارخ من مقاطعة لوغر، الواقعة على مسافة ساعة من الزمن جنوب شرق العاصمة الأفغانية كابُل، حيث كانت قوات الناتو قد أخلت للتو قاعدة عسكرية تطمع حركة طالبان بالاستيلاء عليها، بعد أن تم تسليمها لقوة متواضعة من الجيش الأفغاني النظامي.

“بعد أربعين دقيقة قيادة، نحن الآن في دولة طالبان”.. هكذا يقول “نجيب” المراسل الصحفي وهو يترجل من السيارة التي أقلته إلى حيث سيلتقي اثنين من كبار القادة الميدانيين لطالبان في هذه المنطقة.

سد أفغانستان المنيع.. الجيش المنهار

كان نجيب قد التقى أحد ضباط الجيش في مركز تدريبٍ للقوات الأفغانية، وقد أكد تأهب جنوده وارتفاع الروح المعنوية لديهم واستعدادهم لدحر “المتمردين” عن الأراضي “المحررة”.

وعلى الرغم من أن تعداد الجيش النظامي يفوق 200 ألف مقاتل، فإن مراقبين عسكريين يشككون في معنويات هذه القوات التي يصفونها بالهابطة، ويشيرون إلى أعداد كبيرة من الجنود الذين يتسربون يوميا من الخدمة النظامية.

ويحاول مسؤولون أمريكيون تفنيد هذه المزاعم، والتأكيد على أن الجيش أُنشئ ليكون قادرا على حماية المواطنين، وتأمين الحدود وحراسة عملية التعليم الحديثة.

المراسل الصحفي نجيب
المراسل الصحفي نجيب يبدو متوترا بعد استذكر حادثة اختطافه من قبل مسلحين قبل سنوات

طالبان.. السمعة الطيبة

“أنا متوتر قليلا”.. يقول نجيب وهو يستذكر مهمة شبيهة قبل ست سنوات، حيث تم اختطافه يومها من قبل المسلحين، وطالبوا بفدية قدرها مليونا دولار لإطلاق سراحه.

يتابع نجيب وهو يدعو ألا يتكرر ذلك المشهد: ولكنني كنت محظوظا حين تمكنت من الهرب، حينها كتبت لي حياة جديدة.

تتمتع حركة طالبان بسمعة طيبة فيما يتعلق بتعاملها مع وسائل الإعلام وتكنولوجيات التواصل الاجتماعي، ويشهد لها أعداؤها أنها تحسن استغلال هذه الوسائل في توصيل رسائلها المختلفة للعالم، ومحاولة تغيير الصورة النمطية التي يرسمها الآخرون عنها، ولذلك فهم لم يمانعوا أن يصور فريق البرنامج تلك الأسلحة التي يزمعون استخدامها في عملية الغد.

بوابة كابُل.. حصن في وجه الغزاة

“يبدو أنهم يخططون لعملية هامة، وسيكون التنفيذ غدا في الصباح الباكر”؛ يقول نجيب وهو متلفع بملابس ثقيلة، يبدو أنها ليلة باردة تلك التي سيقضيها في مخبئه السري الذي لا يعرف اسمه.

استمع نجيب إلى أحد القائدَيْن واسمه “لسان”، يشرح له عن أهمية منطقة لوغر؛ بوابة كابُل على حد تعبيره. وكم كان محرِجا للقوات الدولية بأسلحتها المتطورة ألا تستطيع السيطرة على هذه المنطقة الإستراتيجية، وانتزاعها من رجال طالبان الضعفاء، ولكنه في نهاية الأمر ينسب الفضل لله الذي أعانهم على “قهر أعدائهم”.

 طالبان تتمتع بسمعة طيبة فيما يتعلق بتعاملها مع وسائل الإعلام وتكنولوجيات التواصل الاجتماعي
طالبان تتمتع بسمعة طيبة فيما يتعلق بتعاملها مع وسائل الإعلام وتكنولوجيات التواصل الاجتماعي

ساعة الصفر.. الكاميرا في قلب المعركة

يبدو أن ساعة الصفر قد أزفت؛ المقاتلون يضبطون أجهزة الاتصال اللاسلكي، ويحملون أسلحتهم، ويأمروننا بمغادرة المكان واللحاق بهم. الوجهة هي تلك القاعدة العسكرية التي أشرنا إليها سابقا، والهدف هو تحريرها من القوة النظامية الأفغانية التي ترابط فيها، والوعد هو ألا يعودوا إلا بعد الاستيلاء على القاعدة.

مسلحو طالبان يحيطون الآن بالقاعدة العسكرية المستهدفة، يبدو أن الهجوم سيكون عند طلوع الشمس، ولكن الخطة قابلة للتغيير في أية لحظة، أما الأسلحة التي سيستخدمونها فمن الواضح أنها ستضم رشاشات وقذائف آر بي جي ومدافع هاون.

لقد أحاطوا بالقاعدة من جانبين، وبعض المسلحين قد تسلق الجبل المطل على المكان، هؤلاء هم الذين سيحددون لحظة الهجوم حالما ينزلون من الجبل في الجهة الأخرى.

“انظر، لقد هبطوا، سيبدؤون إطلاق النار الآن، اهدأ في مكانك الآن”.. هكذا أمرني أحد الجنود، يقول نجيب، بينما بدأ وابل من الرصاص ينهمر في جميع الاتجاهات.

هذا أحد المدافع الرشاشة الثقيلة لا يعمل، يبدو أنه أصابته رصاصة من الخصم، سيسحبه بعض المقاتلين إلى الخلف لإصلاحه، الواضح أن بعض مسلحي طالبان لم ينالوا قسطا وافرا من التدريب على الأسلحة.

الانتحاريون.. آخر أسلحة المعركة

تسود حالة من التوتر بين الجنود، فيما تنطلق نيران كثيفة من القاعدة، “إنهم يستخدمون مدافع بي كي (PK)”، يقول أحد المسلحين. يبدو أن الأمور لا تسير كما خطط لها.

يقول الصحفي نجيب: لم أكن أعرف أنهم سيرسلون انتحاريين، ولكنني أرى الآن ثلاثة منهم ينطلقون نحو البوابة الرئيسية للقاعدة من أجل تفجيرها، وفتح المجال لبقية المقاتلين للاقتحام.

يتابع نجيب: يا إلهي، النيران كثيفة من الجانب الآخر، وأنا لا أملك إلا الركض خلف المقاتلين، الموقف مخيف للغاية، ولكنه يستحق المجازفة، أنا أقوم بتصوير معركة حقيقية، قد لا تتاح لي فرصة ذهبية أخرى كهذه.

الجنود الأفغان داخل القاعدة ما زالوا يطلقون النار بكثافة، ولكنهم لم يتلقوا دعما من القواعد الأخرى حتى الآن، بيد أن طائرة مروحية تحلق في الأجواء.

“ليست طائرة مقاتلة” كما يقول أحد المقاتلين، الأمر مطمئن قليلا، ولكن هذا يعني استطلاعا لما يحدث الآن، ويعني أن المدد قادم للقوات الأفغانية لا محالة.

تعداد الجيش النظامي الأفغاني يفوق 200 ألف مقاتل
تعداد الجيش النظامي الأفغاني يفوق 200 ألف مقاتل

انتصار بطعم الهزيمة

الأمور لا تسير على ما يرام، رغم أن بعض المقاتلين يطلق صيحات النصر “الله أكبر، الحمد لله، لقد هزمناهم، قتلنا أكثرهم ولم يتبق إلا القليل”. ولكن أحد القادة الميدانيين يقول: لقد فقدنا شهيدين، اُطلبْ من الرجال أن يعودوا، لا فائدة من الاستمرار.

ويرد عليه آخرون “لماذا الانسحاب؟ يجب أن نكمل المهمة”. من الواضح أن هنالك تخبطا في اتخاذ القرار، ويبدو أن المهمة لا تسير حسب ما خُطط لها.

بدأت طائرتان مقاتلتان تحومان في الأجواء، ومروحية قاذفة كذلك، يبدو أن المدد وصل أخيرا.

يقول نجيب: إنني أسمع هدير دبابات كذلك، القائد الميداني ينادي على الانتحاريين الثلاثة ويأمرهم بالانسحاب، ويأمرني كذلك بإيقاف التصوير، الذي يجري الآن هو انسحاب تكتيكي لمقاتلي طالبان، يرافقه مشاغلة بالرشاشات لرتل الدبابات حتى يتم الانسحاب بنجاح.

النصر أو الشهادة.. فلسفة إخوة السلاح

يقول أحد المقاتلين: لقد فقدنا إحسان الله ووحيد الله، فليرحمهما الله ويتقبلهما في الشهداء.

يتابع ذلك المقاتل وهو يسحب الرشاش الثقيل إلى الخلف: ولكننا أوقعنا بالعدو خسائر كبيرة كذلك، لقد قتلنا عددا كبيرا منهم.

يقول نجيب: هنا استغللت الموقف وسألته: هل ستستعيدون جثث القتلى من رجالكم؟

أجاب بلهجة حازمة: نعم، سندخل القاعدة مرة أخرى ونستعيد جثامين أصدقائنا.

قلت له: هل أنتم من هذه المنطقة؟

فأجاب: نعم، نحن مزارعون في هذه المنطقة، إنها موطن آبائنا وأجدادنا، نحن هنا لندافع عنها حتى آخر رجل منا، ماذا تظن أنت، هل تعتقد أنني باكستاني، هل تظن أن باكستان تدعمنا؟

ويتابع: كلا كلا، نحن ندفع ثمن الرصاص الذي نطلقه، بل وبطاقات الشحن التي نستخدمها، نحن نقاتل لوجه الله فقط، إما نصر وإما شهادة.

“لقد صدقك الرجل”.. يعلق “كيرت فولكر” السفير الأمريكي السابق لدى قوات الناتو، والجنرال “جاك كين” من القوات الأمريكية، “نعم إنهم مقاتلون محليون من طالبان، ولكنهم يتلقون معلومات استخبارية من الباكستانيين عن تحركات قوات الناتو، كما أنهم يتلقون تدريبا عسكريا ودعما لوجستيا من القوات الباكستانية”.

مقاتلو طالبان سمحوا لفريق التصوير بمرافقتهم، حتى يرسلوا رسالة مفادها أن هذه المنطقة تحت سيطرتهم
مقاتلو طالبان سمحوا لفريق التصوير بمرافقتهم، حتى يرسلوا رسالة مفادها أن هذه المنطقة تحت سيطرتهم

ليست نهاية المطاف.. الحرب كرٌّ وفرٌّ

يقول نجيب: الطائرات المقاتلة تُحلّق فوقنا على ارتفاعات منخفضة، ولكن مقاتلي طالبان يبدون هادئين مطمئنين، بل إنهم يبحثون الآن عن مكان مريح لتناول الشاي وبعض الفاكهة.

بعيدا عن أرض المعركة التقيت الصحفي “أناند غوبال” فأخبرني أنه في مثل هذه المعارك الصغيرة لا تتدخل الطائرات المقاتلة، بل يكون تدخلها مؤكدا عند وجود مجموعات كبيرة من طالبان تفوق الـ200 أو الـ300 مقاتل.

لقد سمح لنا مقاتلو طالبان بمرافقتهم وتصوير المعركة، حتى يرسلوا رسالة مفادها أن هذه المنطقة تحت سيطرتهم، فيما يقول الجيش الأفغاني إنه يتحكم في لوغر وما حولها، الأمر الذي رأينا عكسه تماما.

انتهت المعركة ولم يستعد المقاتلون جثتي زميليهم، بينما زعمت القوات الأفغانية أنها قتلت سبعة من طالبان وفقدت عنصرا واحدا من جنودها، وهو زعم رأينا بأعيننا غيره تماما.