العاشر من رمضان.. قصة انتصار عربي تُحاصره الهزائم والتطبيع

في مثل هذا اليوم قبل أكثر من 45 سنة، دوى صوت الإباء وزغاريد النصر في كل العواصم العربية احتفالا بالانتصار العربي الأول بعد سلسلة من الهزائم الكبيرة التي لم تُضيّع فلسطين فقط بقدر ما أضاعت أجزاء أخرى واسعة من الأرض العربية التي أُجبرت على أن تكون محتلة أو في أحسن الأحوال حدودا مع الاحتلال الغاصب.

دوى التكبير عندما تمكن أبطال الجيش المصري يومها وفي العاشر من شهر رمضان عام 1393هـ (السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973م) اجتياز خط بارليف والانتقال إلى مواجهة دامية في واحد من أشرس المواقع العسكرية التي أقامها المحتل في منطقة ميناء سيناء.

كان بارليف بالنسبة للكيان يومها جدارا عازلا لا يمكن التفكير في اختراقه، وكانت إسرائيل أيضا قد ضربت على الأفئدة العربية بأسوار كثيرة من الهزيمة والدونية، وذلك بعد أن تمكنت من تسديد ضربات مؤلمة متتالية منذ هزيمة 1948، إلى العدوان الثلاثي في 1956، ثم الهزيمة المدوية في 1967 التي حملت أكثر من اسم وصدمت جدار الصمت العربي ليخلع عليها سلسلة من الألقاب أشهرها اسم النكسة.

كانت النكسة بالفعل صوتا مدويا أحدث مراجعات واسعة لدى النخبة العربية من المحيط إلى الخليج، حيث وضعت إشارة استفهام مغروسة في وحل الهزيمة أمام الخيار القومي العربي والمقولات العربية الوحدوية.

طفقت النخب العربية تبحث يمينا وشمالا عن خيارات جديدة لاحتضان الأمل التائه، انتعشت يومها الشيوعية بشكل قوي كبديل أممي عن قومية محلية لم تنتج غير هزائم متلاحقة، وفي مقابل ذلك انتعش خطاب إسلامي أممي آخر يقذف بحمم من الغضب تجاه القومية والشيوعية على حد سواء.

العاشر من رمضان.. يوم من التاريخ

وحدها سيناء كانت تعزف لحنا آخر، وتنتظر خطابا آخر بأي لغة كان أو واجهة، المهم أن يكون صوت الإنقاذ من براثن احتلال يوغل في غرس جذوره المنبتة عن الأرض في كل بقاع ووهاد سيناء.

في العاشر من رمضان تمكن المصريون من دك التحصينات الإسرائيلية في بارليف بشكل مفاجئ، وكان الجيش المصري قد تمكن يومها من الإمساك بالخطوط الأساسية للمعركة سواء تعلق الأمر بالمفاجأة أو حسن التخطيط وضبط توقيت المباغتة، أو التصميم الباهر على تحقيق نصر كان يشتد بعدا كلما تقدم زمن الاحتلال.

لم يكن الجيش المصري لوحده في هذه المعركة، فقد كان مسندا بالجيش السوري، وقد خاض الطرفان المعركة بالتزامن وفي دائرتين مختلفتين.

وكان النصيب السوري من المعركة داميا جدا حيث تلقى الانتقام الإسرائيلي مضاعفا، خصوصا بعد تدخل الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ ما بقي من كبرياء إسرائيل المنهار تحت وحل بارليف الغارق في الماء والهزيمة النكراء.

لم يكن الجيش المصري لوحده في هذه المعركة، فقد كان مسندا بالجيش السوري

نصر في بحر الهزائم

خلال استلامه الحكم خلفا لجمال عبد الناصر الذي أغرق مصر في شعارات القومية والانتصار والمجد العربي قبل أن يودع الدنيا بعد ثلاث سنوات من النكسة النكراء، أعلن الرئيس المصري محمد أنور السادات أن عام 1971 سيكون عام الحسم ضد الكيان الغاضب.

وبغليونه الملتهب، وسحنته القمحية، وصوته الجهوري الذي يقف على نهاية كل حرف؛ ترك السادات وعدا لاهبا دون أن يقوم بأي شيء علني يؤكد أنه سيقوم بتنفيذه.

اشتغلت مصر بأوجاع الانتقال من الناصرية إلى الحقبة الساداتية الجديدة، ومثل كل المنعطفات السياسية في تاريخ الشعوب كانت مصر تغرق في أسئلتها الوطنية والمحلية، حيث يلح سؤال “العِيش والملح” على الشعب المصري الممزق أحزابا وشيعا وجماعات.

غير أن التخطيط العسكري والسعي إلى الانتقام من الهزائم التاريخية كان يجري تحت جدار سميك من السرية والتعاون بين مصر وسوريا العربيتين.

على القمم السورية كان الجنود الإسرائيليون يريقون أحقادهم كل صباح لتنساب مع سفوح الجولان وتتسرب إلى كل الأرض السورية تحديا للجيش العربي الذي لا يقهر، وسخريةً من نظام حافظ الأسد والبعث المجيد.

ولم يكن الجولان مجرد مرتفعات جبلية بقدر ما تمثل عنفوانا سوريا جريحا وتاريخا عربيا منهوبا، ومنطقة إستراتيجية لا تريد إسرائيل التخلي عنها بأي ثمن بعد أن سقطت في يدها بقليل من الحرب وكثير من السياسة والتآمر كما يقول خصوم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.

يقول هؤلاء ساخرين إن حافظا سلّم الجولان مفروشاً إلى الكيان الصهيوني، وأذاع سقوطه قبل أن يحدث الأمر بعدة ساعات.

هزائم عربية متتالية

قبل النصر المصري في سيناء وتدمير خط بارليف، كان العرب قد ذاقوا مرارة هزائم متلاحقة كانت بدايتها مع:

هزيمة 1948: في تلك الحرب التي استمرت فترة طويلة واجهت الجيوش العربية المتحالفة والتي تقودها جبهة عربية مشتركة بتمثيل من أغلب الزعامات العربية المشتهرة يومها، من ملوك وقادة ورؤساء ومقاومين فلسطينيين، هزائم متلاحقة، تخللتها انتصارات متعددة، وخيانات مروعة أدمت جبين التاريخ العربي وخلدها القادة الميدانيون الذين كتبوا مذكراتهم على رنين المأساة، كما هو الحال بالنسبة للكاتب الأردني العقيد عبد الله التل.

لم تكن حرب 1948 مجرد حرب بقدر ما كانت صدمة للشعوب والجيوش العربية الناشئة في ظلال دول بدأت تخلع ربقة الاستعمار البريطاني والفرنسي بصعوبة، كانت الخيانة والأحقاد الشخصية وضعف التنسيق والتضارب بين القادة السياسيين والميدانيين دافعا أساسيا للهزيمة الساحقة التي كسرت شوكة الثورة الفلسطينية التي انطلقت سنة 1936 وقادها زعماء عظام مثل الشيخ عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني والمفتي أمين الحسيني.

العدوان الثلاثي (1956): كان هو الآخر ضربة مؤلمة لمصر الناصرية التي بدأت في تشييد السد العالي الذي مثّل شريانا أساسيا من شرايين مصر الحديثة، وعندما ارتفعت العزيمة المصرية إلى تأميم قناة السويس كان الغضب الإسرائيلي قد بلغ أقصى المدى.

وانطلقت الحرب بقيام كل من فرنسا وإنجلترا بالتنسيق مع إسرائيل، بشن هجوم شامل على مصر بدأ يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956 بدخول القوات الإسرائيلية إلى سيناء، وتدخلت فرنسا وإنجلترا بذريعة التدخل لحماية الملاحة في منطقة القناة واحتلت بورسعيد.

جاء الإنقاذ هذه المرة من بلاد الثلج؛ فعلى الرغم من أن الضغط الدولي كان حاضرا، فإن السوفيات هددوا حينها باستعمال القوة لرد الغزاة إذا لم يتوقف العدوان، هذا فضلا عن المقاومة المصرية التي توحدت لصد العدوان الثلاثي.

وأدى كل ذلك إلى إنهاء العمليات يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني، ثم انسحاب بريطانيا وفرنسا من بورسعيد يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 1956، ثم انسحاب إسرائيل يوم 6 مارس/آذار 1957 من سيناء إلى ما وراء خط هدنة 1949.

وصف البعض ما تحقق بالانتصار السياسي لمصر بفشل العدوان في تحقيق أهدافه رغم الخسارة العسكرية.

نكسة حزيران (1967): ظللت النكسة السماء العربية من خليجها المتدفق نفطا إلى محيطها الغارق بين أمواج البحر والرمال، فقد دمرت إسرائيل القوة الجوية المصرية ومرغت بالمباغتة المؤلمة القوة العسكرية المصرية.

وفي مقابل ذلك ملأت الهزيمة العربية الساحقة الكيان الإسرائيلي الناشئ لتوه عنفوانا وكبرياء، فقد تم احتلال سيناء كلها، وأقامت إسرائيل بعد ذلك خط بارليف المحصن الذي اعتبر يومها من أقوى الخطوط الدفاعية العالمية.

شعر الإسرائليون أن قوتهم بلغت أقصى مداها، وأظهروا مزيدا من العتو والطغيان بل أكثر من ذلك كانوا على يقين بأن قواتهم يمكن أن تستمر في التوغل حتى تحتل أجزاء من ليبيا وفق ما أظهرت استطلاعات للرأي أجرتها صحف إسرائيلية يومها.

قبل النصر المصري في سيناء وتدمير خط بارليف، كان العرب قد ذاقوا مرارة هزائم متلاحقة

العبور إلى الكرامة

فشلت عروض كثيرة قدمها الرئيس المصري أنور السادات من أجل السلام مع إسرائيل، وأصبح وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في ورطة من عروض السادات المتوالية وحرصه على السلام والتعنت الإسرائيلي تجاه هذه العروض ورفضها التام لأي حل أو حوار.

بل أكثر من ذلك قامت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير بإخفاء العروض المصرية عن قادتها العسكريين وقطاعها الاستخباراتي.

وزيادة على  ذلك لم تزد القرارات الأممية إسرائيل إلا استكبارا وبغيا وبعدا عن تنفيذ ما ألزمها به المنتظم الدولي من انسحاب من الأراضي العربية.

في مصر، بدأت مرحلة أخرى من الاستعداد بتنسيق مع سوريا، ووضعت الخطة وصممت الطريق نحو العبور وتدمير خط بارليف الذي كان كوكبا من اللهب والنار يقف خلفه عتاة الجيش الإسرائيلي وهم يرقبون سيناء الممتدة على كل طرف ويحسبون أنهم قد أحاطوا بها ملكا واحتلالا.

فكرت غولدا مائير في الانتحار بعد أن سقطت هيبة جيشها في الحضيض

جنود الماء

في العاشر من رمضان انطلقت شعلة الحرب بعد أن تم استكمال الترتيبات، كان هنالك حصن ضخم يسمى خط بارليف، كان بحرا من النار والخرسانة، وكانت إسرائيل تُشِيع أنه لا يمكن تدميره إلا بقنبلة نووية.

وجاءت الخطة المصرية بسيطة، وهي إغراق أرضية الخط بالمياه من أجل دفعه إلى الانهيار. وفيما كانت المياه تُسقط أسطورة خط بارليف، كانت الطائرات المصرية تقصف بقوة ودقة النقاط الإسرائيلية المحددة داخل الأراضي المصرية.

وعندما التقى الماء والنار على مغاوير الجيش الإسرائيلي لم يجدوا ملاذا غير الرصاص الهادر من ألفي مدفعية سددت ضربات الموت إلى الإسرائيليين.

تدفق الجنود المصريون إلى بارليف، وفقدوا عدة آلاف من خيرة المغاوير المصريين شهداء في رمضان، رفعوا شعار “الله أكبر” وتوالي الزحف الذي زلزل إسرائيل أمنيا وسياسيا.

لقد جاء “الانهيار العظيم” الذي منيت به إسرائيل في مناسبة دينية، “يوم كيبور” أو “عيد الغفران” حيث كان آلاف الإسرائيليين يغرقون في طقوس الصيام والعبادة.

إيهود باراك عن حرب أكتوبر: لقد كانت الوجوه شاحبة كأنما يعلوها التراب، فقد كانت هذه اللحظة هي الأشد قسوة خلال الحرب

أخيرا.. جاء نصر

كتب بعدها الصحفي الإسرائيلي كيفين كونلي مراسل بي بي سي في شؤون الشرق الأوسط قبل عدة سنوات يقول إنه أكثر الأيام قداسة عند اليهود وأكثر الأيام التي تصبح فيها إسرائيل في أشد حالات الضعف.

أما إيهود باراك الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء فكتب وفق ما نقلت عنه بي بي سي “لقد كانت الوجوه شاحبة كأنما يعلوها التراب، فقد كانت هذه اللحظة هي الأشد قسوة خلال الحرب، وبعد ذلك بدأت القوات الإسرائيلية في دخول المعارك وكسب السيطرة على مساحات من الأراضي، لكن في ذلك اليوم ضاع أثر نصر 67 النفسي وضاع شعور أن الجيش الإسرائيلي لا يهزم”.

فكرت غولدا مائير في الانتحار بعد أن سقطت هيبة جيشها في الحضيض، وارتفع مؤشر العزة العربي في أصقاع عديدة، عادت الابتسامة إلى الوجوه الشاحبة، ورفع الجيش المصري اللواء عاليا في قلوب وشرايين بلاد العرب.

على الجبهة السورية ركز الإسرائيليون الضربات المؤلمة، وكبدوا الجيش السوري خسائر كثيرة، وذلك للأهمية الإستراتيجية للجبهة السورية ولضعف دفاعاتها.

كان يوما من رمضان.. أعاد للعرب حالة عظيمة من الشرف، كان الهدف محددا والعزيمة ماضية، والتخطيط دقيقا، وكان الشعار محفزا فجاء النصر بمقداره.

لم تحتفل مصر بالنصر كثيرا، فسرعان ما أبرمت اتفاقية “كامب ديفد” مع إسرائيل وظهر أن خيار السلام مع إسرائيل كان إستراتيجية بالنسبة للسادات. وانتهى الأمر بنصر عظيم ختامه تطبيع لا يزال يؤذي الكنانة ويؤرق شهداء حرب رمضان.