العصر الذهبي للعلوم.. بذرة جابر بن حيان التي أنبتت الكيمياء

شهدت الإمبراطورية الإسلامية في أوج عظمتها في الفترة الممتدة بين القرنين التاسع والرابع عشر؛ عصرا ذهبيا في تطور العلوم وازدهارها.

وقد قدم مجموعة من العلماء مدخلا تجريبيا رصينا للعلوم أرسى قواعد المنهج العلمي الحديث، وحولوا خرافة الخيمياء إلى الكيمياء، وهو علم مستقل قامت عليه الصناعات الكيميائية التي أعادت صياغة العالم الحديث ووفرت للبشرية أنواع الوقود المختلفة بالإضافة للأدوية والعقاقير الطبية ومستلزماتنا اليومية.

يرافقنا بروفيسور جمال خليلي ليوضح لنا جذور هذا العلم من بداياته وما أضفاه على عالمنا، وأثر العلماء المسلمين فيه.

عالم الصناعات الكيميائية الحديث.. هدية الأجداد إلى الأحفاد

في العاصمة القطرية الدوحة يوجد عدد من ناطحات السحاب التي لم تكن موجودة قبل عشرين عاما، وهذا التطور العمراني المتسارع كان سببه الاستثمارات الضخمة في الصناعات الكيميائية، فكثير مما نراه في عالمنا الحالي مصدره النفط، بدءا من الوقود وصولا إلى البلاستيك وانتهاء بالأدوية.

هنا يقوم مصنع الصناعات الكيميائية بمعالجة الغاز والنفط الخام -الذي تحظى منطقة الشرق الأوسط بوفرته فيها-، فالنفط بحالته الخام يشكل مزيجا من مواد كيميائية مختلفة، ويجري فصلها بعملية تسمى (التقطير الجزئي) حيث يعرض لحرارة مرتفعة فيتبخر ويتصاعد ليصل إلى برج التقطير، وهناك يفصل إلى مكونات مختلفة أثناء تبريده في البرج.

إن مصافي النفط ما هي إلا نسخة متطورة من جهاز ابتكره علماء المسلمين، ويدعى “الإنبيق” وكان الرازي عالم الفيزياء والكيمياء أحد رواد التقطير، وفي مؤلفاته العديدة وصف طريقة استخدام التقطير بغية إنتاج مواد مثل الكورسين وحمض الكبريتيك والكحول النقية المستخدمة لأغراض طبية.

اختراع الإنبيق.. ثمرات نظرية التجريب في الخيمياء

في مدينة إسطنبول التركية يعكف الدكتور “بيتر ستار” على دراسة أعمال علماء المسلمين، ويخبرنا أن الإنبيق يصنع من النحاس أو الزجاج، ولديه طرف بارد وآخر ساخن، ففي الجهة الساخنة يولد البخار، ثم يتكثف ويجمع في وعاء الاستقبال، ويستخدم في هذه العملية الماء المقطر وكلما نريد تقطيره، فإذا أردنا صنع عطر فإننا نضيف للماء أوراق الورد مثلا.

الإنبيق.. جهاز التقطير العربي العجيب

يعتبر العالم المسلم جابر بن حيان أول من قام بعملية التقطير، وقد أجرى الكثير من التجارب والعمليات الكيميائية التي ما تزال مستخدمة حتى يومنا هذا كالتكليس أو الترسيب أو التقطير.

لقد كان ابن حيان متعدد المواهب العلمية، وقد نشأ في بغداد وكانت اهتماماته تنصب في مجالات عدة كالموسيقى والكيمياء والخيمياء والطب وغير ذلك، وثمة مئات المخطوطات التي نسبت إليه، ويعتقد أن العلماء المتأخرين نحلوا مخطوطاتهم العلمية باسمه حبا له وتقديرا.

ويعزى لابن حيان الفضل في تطبيق نظرية التجريب في الخيمياء، وقد حذا العلماء حذوه واتبعوا التجريب في الكيمياء، وهذا ما شكل قفزة من منهجية التفكير الفلسفي المجرد عند الإغريق إلى إجراء تجارب عملية دقيقة، لذلك احتاج العلماء إلى أدوات تمكنهم من تلك العلوم فابتكروا واخترعوا ما احتاجوه.

فن الخيمياء.. عالم التصوف والسحر والعلوم الباطنية

في صناعة الزجاج كان على الحرفيين وضع الرمل والرصاص ومواد أخرى وصهرها في أفران، ورغم أنهم استخدموا النفخ لتشكيل الزجاج المنصهر فإنهم لم يكن لديهم ما يولد درجات حرارة عالية كالموقد النفاث الموجود لدينا الآن.

هل استطاع العرب تحويل الخيمياء إلى كيمياء حقيقية أم أنها بقيت شعوذة وسحرا؟

إن كل ما توصل إليه ابن حيان وعلماء آخرون إنما هو مزيج بين الخيمياء والكيمياء معا، وكلمة كيمياء بالإنجليزية هي “كمستري” (Chemistry)، وهي مشتقة من الخيمياء إلا أن الكيمياء علم مستقل اليوم، بينما ارتبطت الخيمياء بالخرافة والسحر والعلوم الباطنية، وكان هدفها الأساسي تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، وقد لقب ابن حيان بالمتصوف لأنهم اعتقدوا أن أعماله لم تكن بعيدة عن السحر.

لكن إلى أي مدى كان هناك علم فعلي بقواعد ومبادئ معروفة بين الخيميائيين والصوفيين؟ يقول الدكتور “بيتر ستار”: ليس هناك تناقض بين العلم والخيميائيين، ولكن هناك نوع من التكامل والتفاعل المتبادل، فكلاهما يغذي الآخر.

ويمكن القول إنها كانت موجودة في أي حقبة زمنية شهدت ثورات وطفرات علمية، مثل حقبة الإغريق التي شهدت ذروة العصور الوسطى اللاتينية، وكذاك عصر النهضة الإسلامي، حتى أن “نيوتن” انخرط في الخيمياء.

“الماء الملكي”.. حمض ابن حيان الذي يذيب الذهب

كان ابن حيان مهوسا بإجراء تجارب على جميع الأحماض، وهنا لا بد من التدليل على ذلك بمثال الذهب الذي يعرف بصعوبة إذابته، ففي جامعة برايتون يقوم البروفيسور جمال خليلي بالاستعانة بالبروفيسور “هال سوسابوسكي” لتذويب الذهب في المختبر.

الماء الملكي، محلول آكل للفلزات، أول من قام بتقطيره هو جابر ابن حيان من حمضي النتريك والهيدروكلوريك

يخبرنا البروفيسور أن إذابة الذهب داخل حمض هي عملية صعبة للغاية، مثله مثل جميع الفلزات النبيلة الأخرى، لكن هناك حمض يمكن إذابته فيه، وهو حمض “أكوارجيا” (Aqua Regia) ويعني اسمه الماء الملكي، وأول من قام بتقطيره هو جابر ابن حيان من حمضي النتريك والهيدروكلوريك، وهما حمضان آكلان بشكل مخيف وخطر.

يقوم البروفيسور بإذابة الزنك أولا، إذ يذوب بسرعة هائلة ويتبخر، أما الذهب فيستغرف ما يزيد عن ساعة داخل الحمض، لذا يلجأ لهذا الحمض لصهر المعادن لتنقيتها وإزالة الشوائب وإعادة صياغتها.

أول صابونة جافة في التاريخ.. مبادئ النظافة في الإسلام

لم تتوقف الكيمياء في العصر الذهبي عند حدود الخيمياء فقد شهدت تطورا واضحا، وكان الإسلام الدافع الحقيقي وراءها، فالنظافة شرط من شروط الإيمان، وهذا الشرط بحد ذاته أدى لتطور صناعات بأكملها مثل صناعة الصابون، حيث يرجع تاريخ أول قطعة صابون جافة إلى ذلك العصر.

كتب ابن حيان عن الفرق بين الأحماض والقلويات، والقلويات كلمة مشتقة من القالي بالعربية وتعني رماد العشب الملحي، وتشير للمصدر الأساسي للمواد القلوية التي تستخدم في صناعة الصابون.

مصنع الصابون اليدوي في الأردن مزيج من زيت الزيتون والروائح الطبيعية الزكية

نتعرف بهذا الصدد على ريم حمزات التي تدير مصنعا صغيرا للصابون في الأردن، وتتبع نفس العمليات القديمة. تقول ريم: نبدأ بوضع زيت الزيتون الصافي ونمزجه بمادة قلوية، وبعد ذلك نضيف الأعشاب والتوابل الخاصة بها مثل ورق الغار، وتسمى هذه العملية بالتصبن، ثم يترك لأسبوعين كي يجف.

ازدهرت صناعة الصابون وأصبحت رائجة، وما تنتجه ريم في أسبوعين ينتج في المصانع في غضون ساعات، ففي الولايات المتحدة يقول “جيمي بينتلي” وهو مدير تنفيذي لشركة صابون إنهم ينتجون 30 طنا يوميا، ولذا فإن إنتاجا على هذه الشاكلة يحتاج لدراية كاملة بعلم الكيمياء، والعامل الحاسم هنا هو التحكم بالعمليات الكيميائية ومزج المقادير المحددة بعناية.

ففي داخل بوتقة مضبوطة الحرارة يوضع زيت بذور النخيل وزيت جوز الهند الذي يعطي الرغوة للصابون، وبعدها تضاف الصودا الكاوية، وتستمر عملية التفاعل الكيميائي لمدة ساعة، وبعدها يجفف بواسطة آلة، ثم يلف ويصبح جاهزا للتوزيع حول العالم، وبالرغم من أن التكنولوجيا ساهمت في تسريع الصناعة فإن مبدأ عمل الصابون لم يتغير.

إن أحد أسباب اعتبار علماء العصر الذهبي علماء حقيقيين دقتهم المتناهية، لذلك فإن ابن حيان والرازي هما عالما الكيمياء الأولان بلا منازع.

“ميزان الحكمة”.. تصنيف المواد الكيميائية حسب استجابتها للتجارب

هناك مجموعة من الموازين التي شيدها الخازني في القرن الثاني عشر وسميت “ميزان الحكمة”بدقة تعادل الملليغرامات، وعلى ذراع الميزان وضعت قياسات دقيقة تعطي المسافة من المركز وتعلق كؤوس الميزان على أطوال مختلفة تستند على مبدأ العزوم، وكلما ابتعدت عن المركز زاد ثقلها لتسحب الميزان للأسفل ويتحقق الاتزان، ويوضع الشكل الماسي في وسط الميزان.

صنع ابن حيان “ميزان الحكمة” بدقة تعادل الملليغرامات

وضع جابر ابن حيان ورفاقه منهجا علميا تجريبيا أكثر دقة وصرامة في جميع مناحي الكيمياء وقاموا بدراسة المواد ومنهجيتها وتجميعها وتصنيفها، والمبهر أن ابن حيان صنف المواد وفق طرق استجابتها للتجارب العلمية، مما كان له أثر كبير في تغير النظريات القديمة.

تنص مخطوطة ابن حيان على “أننا من بين جميع كتل المواد باختلاف أنواعها نجد أن للشمس الملقبة بالذهب لهبا لا يمكن حرقه بواسطة الكبريت، والمعدن الأقل احتراقا هو المشتري المعروف بالقصدير، ثم يليه القمر ويسمى الفضة”، وتنتهي القائمة بالمريخ، أي الحديد الغني بالكبريت الأسهل احتراقا.

جدول العناصر الكيميائية.. عبقرية ابن حيان الغامضة

تعد مخطوطة ابن حيان غامضة لأنه كان يدون نظرياته بشكل غامض. يقول الدكتور “هال سوسابوسكي”: هناك بعض الأخطاء البسيطة، لكن بكل تأكيد فإن ابن حيان كان نابغة وسابقا لعصره، لأنه أثبت أن النشاط التفاعلي مع الكبريت صعب نوعا ما.

يقوم البروفيسور بعمل بعض التجارب على ثلاث فلزات بعينها للتعرف على النشاط التفاعلي لها مع الماء ومقارنتها ببعضها، وقد أظهرت التجربة أنه عند وضع البوتاسيوم مع الماء فإنه الأكثر نشاطا تفاعليا، وهو فلز ناعم قابل للطرق وله لهب أرجواني بديع يتشكل ويقفز لأنه يحرر الهيدروجين.

شبه ابن حيان الذهب بالشمس والقصدير بالمشتري والفضة بالقمر والكبريت بالمريخ

أما الصوديوم في “كلوريد الصوديوم” (ملح الطعام) فله ميزات مختلفة، وهو معدن لين سهل القطع يقفز داخل الإناء ويذوب تماما بفعل حرارة التفاعل محدثا أزيزا كالدبور، لقد دام أكثر من البوتاسيوم.
وأخيرا النحاس وهو الأقل تفاعلا مع الماء، ولهذا فإن قطع النقود في جيوبنا لا تذوب إذا وضعناها في الغسالة.

لم تكن نتائج ابن حيان صائبة بنسبة 100%، إلا أنها كانت إنجازا عظيما في عصره، فقد كانت أعماله مذهلة، خاصة أنه لم يكن يعلم تحديدا ما يبحث عنه وما يتوقعه، فهو إذا ليس خرافات أو خيمياء، وإنما هو علم كيمياء بكل تأكيد.

وبعد ابن حيان جاء الكندي والرازي ليكملا مسيرة علم الكيمياء التي نقف عليها اليوم، وتقوم دراسة الكيمياء اليوم على نفس النهج، وتستند لترتيب العناصر الكيميائية وتنظيمها ودراسة خواصها تماما مثل سلسلة التفاعل.