“الجزائر حبيبتي”.. وثائقي فرنسي يعبث بالثورة الجزائرية

انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بالتنديد والرفض، واعتبروا ما جاء في الفيلم مجانبا للصواب وتدنيسا ممنهجا لروح حراك 22 فبراير، حتى أن وزارة الخارجية الجزائرية احتجت بقوة واستدعت سفيرها من باريس للتشاور، فتلقّفت وسائل الإعلام الداخلية والدولية الحدث، وأصبح موضوعا دسما لنشراتها وبرامجها، خاصة وأن ضيوف الفيلم خرجوا عن صمتهم وانتقدوا المخرج الذي حوّر مقابلاتهم، فما الذي نقله هذا الفيلم حتى أحدث هذه الزوبعة؟ وهل أساء مخرجه لثورة الجزائر التي أزاحت نظام بوتفليقة العتيد؟

كانت بداية هذه الضجة بعد أن عرضت القناة الفرنسية الخامسة الفيلم الوثائقي “الجزائر حبيبتي” للصحفي والمخرج الفرانكو جزائري مصطفى كسّوس، وقد استنكرت شريحة واسعة من الحراكيين معظم ما جاء فيه، على اعتبار أن الفيلم وأبطاله لا يمثلون هذا الحراك، وليس من حقهم الحديث عليه أو باسمه، خاصة أن الشخصيات التي سلطت عليها كاميرا الفيلم واتخذت كعيّنات تمثل جهات جغرافية محددة.

وقد ركز الفيلم على هذه الشخصيات مغيبا باقي جهات الوطن، إضافة إلى أنها تنتمي إلى نفس المرجعية والأيديولوجيا، مما جعل أصواتهم متقاربة إن لم تكن متطابقة في الكثير من الأحيان، وهي المعطيات التي أسست للصوت الواحد، وأبعدت كل اختلاف في وجهات النظر، وبالتالي فهم معظم من شاهد الفيلم ووقف عليه بأنه عمل منحاز ولا يمكن أن يعكس ما خرج من أجله الشباب يوم 22 فبراير 2019، لتكريس حرية التعبير وخلق جزائر الكل التي تحتضن جميع الآراء والتوجهات، وطن يسع الجميع.

فخ التعميم.. التأسيس للصوت الواحد

تتبع الفيلم يوميات وخطوات مجموعة من شباب الحراك، وهم مهدي (28 سنة) وهو مهندس من وهران، وعثمان (29 سنة) وهو محامي من تيزي وزو، وصونيا (26 سنة) وهي طبيبة أعصاب من تيزي وزو أيضا، وأنيس (20 سنة) وهو من الجزائر العاصمة، وهانيا (26 سنة) وهي تقنية سينما من العاصمة أيضا.

هؤلاء الشباب الخمسة لديهم تكوين ثقافي وتعليمي جيد، وقد نقل المخرج من خلالهم حسب خط الفيلم أحلام الشباب الجزائريين الذين ضاقت بهم السبل، وأصبح الواقع والنظام البوتفليقي الذي لم يعرفوا رئيسا سواه أصغر من أن يحتوي طموحاتهم، لهذا كانت ثورة 22 فبراير يوما مناسبا لإحداث قطيعة مع هذا النظام، وتأسيس نظام آخر يضمن لهم مطالبهم الفردية، لهذا خرجوا بقوة في اليوم الموعود، فرفعوا الشعارات ونادوا بإسقاط العصابة التي سلّطت عليهم عشريتين من الزمن.

الشاب الجزائري أنيس (20 سنة)، والذي تعكس سنوات عمره مدة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة

هذا هو المطلب الجماعي لهم، وهو خيار كل من خرج في المظاهرات، لكن المخرج أوحى بأن هؤلاء يعكسون بشكل ما مطالب بقية الشباب الجزائر، وهذا بعد أن ركز بشكل كبير على المطالب الفئوية لكل فرد، وحتى مشاعرهم وعواطفهم النفسية، هذا التداخل جعل المشاهد يعتقد بأنها تذهب في اتجاه تدنيس الحراك، لأن ما يوحي به الفيلم بأن مطلب من خرج يوم 22 هو بالضرورة نفس ما يبحث عنه هؤلاء، وبالتالي فقد سقط في فخ التعميم الذي قتل عمله.

حرية المرأة والجنس.. مطالب الفيلم

كانت مطالب الشباب التي أظهرها الفيلم تتمثل في الحرية الجنسية وحقوق المرأة المغيّبة، خاصة في “مشكلة موافقة الولي على الزواج” حسب بعض المتدخلات التي أرهقتها الصورة النمطية للمرأة التي يقع التعامل معها على أساس أن مهمتها في هذه الحياة هي الزواج وإنجاب الأطفال، كما أن أحدهم نقل مشكلة البحث عن أماكن حرة لشرب الخمر.

كما تحدثوا عن ضغط العائلة والمجتمع والنظام ككل إلى غير ذلك من المطالب التي ركز عليها المخرج بشكل مقصود، من أجل طبع عمله الوثائقي بميزة ما، خاصة أن المقابلات التي أجراها معهم خرجت من قلب المظاهرات إلى فضاءات أخرى، مثل السهرات الليلية وبيت العائلة والغابة ومكان العمل.

وهذه هي الخطوات التي تشعرنا بأن الفيلم مؤسس على عملية التتبع والمعايشة، وبالتالي يخرج من خانة “التقرير أو فكرة الروبرتاج” إلى “وثائقية الفيلم وسينمائيته”، من هناك يكون الحكم أعمق، والفكرة أوضح، وإيصال شعور بأن المطالب تعكس فئة واسعة.

أرشيف الصور التاريخية.. فرحة استقلال الأمس واليوم

ارتكز الفيلم الوثائقي “الجزائر حبيبتي” (72 دقيقة) على ثلاث معطيات أساسية صنعت من خلالها وثائقية العمل، وقد انعكست من خلال تتبع مسار شباب الحراك الخمسة، والمعطى الثاني هو الاعتماد على الأرشيف، والمعطى الأخير وهو البناء السردي للعمل ككل، حيث استعان المخرج مصطفى كسّوس بلقطات أرشيفية تتبع من خلالها بشكل سريع أبرز المحطات التي مرت من خلالها الجزائر، بداية من الاستقلال سنة 1962، إلى غاية قيام ثورة 22 فبراير 2019.

ومن بين تلك المشاهد التي سلّط عليها المخرج الضوء للتأسيس لعمله، خروج الشعب في مظاهرات تعبيرا عن فرحهم بالاستقلال، وربط تلك الصور بحراك 22 فبراير، وكأن فرحة الاستقلال تعيد نفسها، مع المرور بالمآسي الكبرى، ومنها اغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف، وقدوم الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة للحكم سنة 1999.

جاءت كل هذه الصور كتمهيد لفكرة فيلم “الجزائر حبيبتي” التي أسس عليها المخرج بصور بانورامية من الأعلى تظهر حجم أعداد المتظاهرين، ومن هنا تبرز قيمة هذا الحدث وتعظم في عين المتلقي.

خفة أصابع المونتاج.. جماليات المشهد البصرية

شكّل تنوع صور العمل جمالا بصريا، خاصة أن عملية الانتقال من مشهد لمشهد لا تتعدى في متوسطها ست ثوانٍ، وهذا الانتقال وقع بواسطة عملية المونتاج الذكي الذي خلق راحة بصرية وأزاح أي ملل محتمل، كما أسهم في تنوع “الكادرات” وعملية ضبطها، إذ نجد مثلا صورة مقربة تظهر وجهة المتدخلة طبيبة الأعصاب “صونيا”، وبعد دقائق يعود لها بصورة تظهر كل جسمها، وبعدها يعود ويظهر لنا الفضاء الذي هي فيه وهو عبارة عن غابة، وعندما يريد التأسيس للخاتمة يظهرها في صورة كاملة تظهر علو المكان الذي هي فيه، ثم يظهر الغابة وجمال البحر الممتد والغروب وهي تتأمل كل هذا، خاصة أن الكاميرا كانت خلفها.

الشاب الجزائري المحامي “عثمان” الذي خرج للحراك من أجل المطالبة بنظام جديد ينتصر للعدالة

من هنا يظهر اهتمام المخرج في عدم إغفاله لهذه الجزئيات الجمالية التي صنعت جمالية الفيلم الوثائقي، وهذا ما حدث مع الشخصيات الأخرى وفضاءاتها، خاصة من خلال تصوير العاصمة وشوارعها وأحيائها القديمة من الأعلى، وهذا ما فعله مثلا مع المحامي عثمان، حيث صوره والتين الشوكي من خلفه.

وكان المخرج يريد أن يقول إن هذا المتدخل ينتمي إلى الريف وروح القرية، وينتقل أيضا إلى مكتبه ويركز بشكل كبير على عناوين الكتب التي في مكتبه، من أجل إظهار ثقافته وميوله الفكري لدى القارئ، وكل هذا في لقطات سريعة دون أن يتورط في إظهارها في الحوار أو المقابلة، حتى لا يثقل على المتلقي، وفي نفس الوقت لا يبيد الجمالية ويعلي من شأنها.

لا إفراط ولا تفريط.. أخلاقيات العمل الوثائقي

طرح فيلم “الجزائر حبيبتي” العديد من الأسئلة المهمة حول ماهية الفيلم الوثائقي وأخلاقيات مخرجه، وحدود الضيف ومدى استعمال تصريحاته، وهل المخرج محق في انتقاء ما يراه مناسبا لعمله؟ وهل يعتبر اقتطاع جزء من المقابلة عملية تحوير؟ هي أسئلة تناقلها الناس بقوة بعد بث الفيلم المذكور، خاصة أن أغلبية المتدخلين فيه خرجوا عن صمتهم بعد الضغط الكبير، وقالوا إن المخرج قام باقتطاع ما يناسبه من تلك التصريحات، وقام بتغييب أجزاء مهمة من المقابلات، مما أخرجها عن السياق العام للفيلم.

ومن هنا وجب القول بأن المخرج لا يستطيع أن ينقل كل ما جاء على ألسنة المتدخلين، لأن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث من الناحية التقنية، كما أن للمخرج الحق في اختيار ما يراه مناسبا لفيلمه، لأن العمل في الأخير يعكسه، وأي نجاح أو فشل إنما يتحمله هو وحده.

كما أن الفيلم الوثائقي هو قالب جمالي وفني، والمخرج هو من يخلق هذا القالب، لهذا يجب أن يضع فيه تصوراته ورؤاه، لأن الفيلم الوثائقي جنس جمالي، وليس خبرا صحفيا في جريدة أو منشورا على الفيسبوك، وفي حالة أي خلاف بين المخرج والضيوف فإن العقد الذي وقع بينهم هو الفيصل والحد.

وهناك جانب أخلاقي في الفيلم الوثائقي، وهو عدم التأسيس لرأي واحد، وخلق تنوع في الآراء من أجل الموازنة في الموضوع وعدم ترجيح كفة على كفة، وهذا أمر غفل عنه المخرج مصطفى كسوس الذي غلّب جهة على أخرى، من خلال اختيار نماذج لها نفس المرجعية الثقافية والفكرية.