“الرقابة العربية” على السينما.. “وصاية” على جمهور لم يبلغ سن النضج

محمد علال

فيلم "معركة الجزائر" أزعج دولة شعارها الأساسي "الحرية والمساواة والأخوة"، وذلك بعد منعه من العرض مدة أربعين عاما

في المشهد يقف طفل أوروبي الملامح في مقهى “ميلك بار” وسط الجزائر العاصمة، تقترب منه عدسة الكاميرا لنكتشف أنه لوحة هادئة ترمز للبراءة بين عشرات الأشخاص الذين يرتدون ملابس رسمية، ويتبادلون أطراف الحديث وهم يرتشفون القهوة ويحتسون النبيذ وسط الضوضاء.

تلك واحدة من اللحظات الحاسمة في فيلم “معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو (صدر عام 1966، إنتاج جزائري) لحركة عيون طفل لا نعرف اسمه ولا هويته، وكان يراقب بحِيرة شديدة عشرات الزبائن، بينما رسم الموسيقار الإيطالي إنيو موريكوني (مؤلف الموسيقى التصورية لفيلم “معركة الجزائر”) لحناً مثيرا يُشير إلى أن هناك أمرا ما يُدبر في هذا المقهى، وذلك قبل أن تهتز الكاميرا على وقع دويّ انفجار قنبلة. فالمشهد كان جزءا من توثيق لعمليات التفجير التي قامت بها المجاهدة جميلة بوحيرد وزهرة ظريف ورفيقاتهما من المجاهدات الجزائريات عام 1956، وذلك في إطار كفاح الشعب الجزائري ضد المستعمر.

حكاية الطفل تلك هي جزء من صراع طويل لفيلم “معركة الجزائر” مع الرقابة في فرنسا، فقد أزعج هذا الفيلم دولة شعارها الأساسي “الحرية والمساواة والأخوة”، وذلك بعد منعه من العرض مدة أربعين عاما، وعندما قررت إحدى قاعات السينما الفرنسية عرضه عام 2005 تم رفع دعوى قضائية ضدها، ولم تتصالح الرقابة الفرنسية مع هذا العمل التاريخي الذي سافر عبر العالم إلا مؤخرا لتقرر عاصمة “الجن والملائكة” فتح أبواب قاعتها السينمائية له.. هكذا يكتب التاريخ كيف أن فرنسا مارست الرقابة على الأفلام التي تعرّي تاريخها الاستعماري الأسود.

حكاية كهذه تفتح دون شك شهية أجهزة الرقابة في العالم العربي لممارسة الأبوية على الجمهور، أو رفع البطاقة الحمراء في وجه هذا المخرج أو ذاك، وأحيانا كثيرة يخرجون من “الملعب السينمائي” وسط صفارات الاستهجان من طرف الجمهور الذي لا يقبل بالأعمال التي تحاول تجاوز الخطوط الحمراء من “الدين والجنس والسياسة”. كأنه بذاك يرسم ملامح مباراة ينهزم فيها الفريق الخصم مرتين؛ الأولى بألوان بطاقات الحكم، والهزيمة الثانية بألوان جمهور يشاهد مباراة على أرضية ملعبه.

فيلم "العربي بن المهيدي" للمخرج بشير درايس أثار جدلا كبيرا في الجزائر، وإلى اليوم يتم منع عرضه هناك

“العربي بن مهيدي” ليس للبيع

هكذا تنعكس الصورة على السينما العربية ونحن نشاهد عددا من الأفلام التي تُضرب بختم “مرفوض” أو “ممنوع من العرض”، وتتعامل في كثير من الأحيان بمنطق “من النقيض إلى النقيض”، إما السماح للفيلم بالمرور أو المنع لأسباب مختلفة عادة ما تكون غير مباشرة. وكنتيجة لذلك يفرّ عدد كبير من المخرجين باتجاهات غربية بحثا عن أكسجين جديد.

تُعتبر الجزائر من بين الدول العربية التي شهدت مواجهة حادة بين الرقابة والسينمائيين عام 2018، لقد تحولت قرارات لجنة المشاهدة التابعة لوزارة المجاهدين ضد فيلم “العربي بن مهيدي” للمخرج بشير درايس إلى جدل كبير، فقد تجاوزت حدود النقاش السينمائي إلى التشكيك في مساحة حرية التعبير في الجزائر، وإن لم ينتصر “بن مهيدي” حتى اللحظة في معارك “دون كيشوتية” انطلقت من بين ثنايا اتهام الدولة للمخرج بعدم احترامه للسيناريو الأصلي.

وحسب آراء المختصين فإن قرار اللجنة دقّ ناقوس الخطر إزاء واقع حرية التعبير والإبداع. ووسط أكوام التُهم المتبادلة فقد رفع المخرج التحدي، وقال إنه على استعداد لكي يدفع للدولة وأجهزة الإنتاج السينمائي الجزائري المبلغ المالي الذي ساهمت فيه، لكن مقابل تحرير العمل والتنازل عنه بشكل كامل، وهو ما دفع وزير الثقافة عز الدين ميهوبي للرد قائلا “فيلم بن مهيدي ليس للبيع”، ويستمر قرار منع عرض الفيلم.

المخرجة يمينة شويخ تعود إلى حكاية فيلم "رشيدة" الذي أخرجته عام 2000، بعد أن انطلقت في كتابة الفيلم عام 1996، حينها كانت الجزائر في وضع أمني صعب جدا

السينما الجزائرية.. رقابة لم تتوقف منذ الاستقلال

هكذا تخنق الرقابة بكل الأساليب عالم السينما في الجزائر، حيث تضع الحدود لهذا الفيلم أو ذاك، ثم تصل إلى حدّ الحكم بالإعدام على الأعمال السينمائية قبل لقائها بالجمهور، فتقف الأفلام الجزائرية أمام لجنتين؛ واحدة تابعة لوزارة المجاهدين وهي المتخصصة في الأفلام الثورية، والثانية تابعة لوزارة الثقافة وتقدم نوعين من التراخيص؛ تأشيرة تجارية وأخرى ثقافية، وتتحكم فيها قافلة من الممنوعات التي تخص أساسا الحفاظ على الثوابت والمبادئ الأساسية للدولة، واحترام الديانات والرموز التاريخية والآداب العامة، وتمنع تمجيد الاستعمار والمساس بالنظام العام، أو تحرض على العنف والكراهية والعنصرية.

بالنسبة للمخرجة الجزائرية المخضرمة يمينة شويخ فإن الرقابة على الإنتاج السينمائي في الجزائر لم تتوقف منذ الاستقلال عام 1962، فكما قالت لـ”الجزيرة الوثائقية” إن “الرقابة تأخذ أشكالا مختلفة ليس بالضرورة من خلال ملاحظات لجنة القراءة، وإنما من خلال الضغط الاقتصادي، كأن يتعرض المخرج إلى تضييق مالي يُصعب عليه إخراج الفيلم”.

وحسب شويخ أيضا فإن النظام يعتمد على نصوص غير واضحة ومواد قانونية فضفاضة هدفها الدفع بالمخرجين نحو “الرقابة الذاتية”، كما قالت “لقد فهم عدد كبير من المخرجين اللعبة، وهو ما ينعكس على مستوى الرقابة الذاتية التي يمارسونها على أنفسهم أثناء التصوير”.

وتؤكد مخرجة الفيلم الوثائقي “أمس، اليوم، وغدا” الذي واجه عدة صعوبات وعراقيل أثناء التصوير وبعده، بأن أجهزة الرقابة مهما فعلت فهي “لن تستطيع منع حرية التعبير، أو اغتيال الإبداع والفنان”.

وتعود المخرجة إلى حكاية فيلم “رشيدة” الذي أخرجته عام 2000، بعد أن انطلقت في كتابة الفيلم عام 1996، حينها كانت الجزائر في وضع أمني صعب جدا، وقالت “في ذلك الوقت لم أفكر في الرقابة ولا في لجنة القراءة، لأنها كانت تشكل أمرا بسيطا جدا مقارنة بالأوضاع الأمنية التي تتطلب الحذر قبل معالجة القضية الحساسة، أو تصوير فيلم عن مجزرة بن طلحة”.

هكذا يتغير مفهوم الرقابة ويأخذ أشكالا مختلفة بين “الذاتية” و”التعسفية” و”الاقتصادية”، والتي تصب جميعا في خانة الوصاية على الجمهور، كما تشير المخرجة يمينة شويخ (64 عاما) أنها لا تزال تحلم بالحرية، وقالت “أريد أن أعيش في بلدي، أريد أن أقول ما أفكر فيه بحريّة، أريد حرية التفكير في بلدي، ولا تهمني المقارنة بالدول الأخرى”، كما أنها استغربت كيف أن الدول العربية تشكل لجانا لمراقبة الأفلام التي تُعرض في المهرجانات، وقالت “فكرة المهرجان هو الحرية، وأمر غير منطقي أن تكون هناك لجان مخصصة لمراقبة الأفلام التي ستُعرض في المهرجانات”، مشيرة إلى أن مصطلح “التأشيرة الثقافية” الذي يطلق على التراخيص المخصصة لأفلام المهرجانات هي فكرة “عقيمة”، ولا تخدم الثقافة بشيء بقدر ما تفرض الوصاية على الجمهور، وتعكس تراجعا كبيرا في مساحة حرية التعبير.

مشهد من فيلم "الزين اللي فيك" للمخرج المغربي نبيل عيوش، والممنوع من العرض في المغرب

ضد “الرقابة”.. لكن مع المشاهدة والتصنيف

بالنسبة للباحث مراد وزناجي، وهو عضو لجنة المشاهدة في وزارة المجاهدين الجزائرية، فإن مسألة الرقابة على السينما أمر غير مستحبّ من جهته، مشيرا إلى أن الأمر يخضع فقط إلى القوانين الجديدة “قانون السينما الجزائرية 03/2011″، والذي يضع ضوابط وشروطا للعرض السينمائي في الجزائر، كما قال لـ”الجزيرة الوثائقية” “أنا ضد مصطلح الرقابة، ومع فكرة المشاهدة والتصنيف”، فالمهمة حسبه يجب أن لا تخرج عن نطاق تطبيق القانون دون تصفية الحسابات مع المخرجين والسينمائيين، كما أوضح أن “الدور الذي تلعبه لجان المشاهدة يجب أن لا يتجاوز المراجعة من طرف متخصصين بما يتماشى مع الضوابط المنصوص عليها، والتي تضبط سياسة الحكومة ولجنة المشاهدة والمهرجانات، وتضع الجميع في سلة واحدة، وأضاف “القوانين يمكننا مراجعتها، ففي النهاية ما يصلح في الجزائر ليس بالضرورة هو ما يجب التعامل به في الهند أو فرنسا أو غير ذلك”.

وعن مسألة التابوهات خاصة الاجتماعية، فالأمر حسبه يمكن التعامل معه سينمائيا في الجزائر بطريقة أو بأخرى، فهناك مساحة لحرية التعبير والفن يمكن التعامل معها لتمرير الرسائل بين الخطوط الحمراء، خاصة مع الانفتاح في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي كسرت الحواجز وفتحت الأبواب لحرية بلا قيود.

وتقول كاتبة السيناريو الجزائرية فاطمة وزان، وهي عضوة سابقة في لجنة القراءة التابعة لوزارة الثقافة الجزائرية  لـ”الجزيرة الوثائقية “إن الرقابة هي كبت لحرية الرأي والتفكير وحرية الإبداع”، فمن الجانب السياسي تعكس عقلية القمع، وتدخل في إطار الأنظمة القمعية التي لا تعترف بالحرية الفكرية.

وأشارت إلى أن المبدع السينمائي يعيش تحت رحمة لجان القراءة أولا، وإذا كان العمل يتناول خطوطا حمراء سيتم رفضه ومنعه منذ البداية، وقالت إنها عندما كانت عضوة في لجنة القراءة عام 2015 اتفقت مع رئيس اللجنة السابق الطاهر بوكلة على عدم وضع الكثير من الخطوط الحمراء، غير أنها لاحظت أن معظم كُتّاب السيناريو يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم لأنهم يشعرون بالكبت، وهذا ما تجسّد في حوالي 120 سيناريو تقدموا للجنة وأغلبيتها كانت عن الثورة.

 

الأفلام العربية.. مقصلة الرقابة

وبشكل عام لا تخلو أي دولة عربية اليوم من هيئة رقابية تقول كلمتها في هذا الفيلم أو ذاك، ففي مصر مثلا هناك “جهاز الرقابة على المصنفات الفنية” التابع لوزارة الثقافة، والذي يرأسه المستشار دكتور خالد عبد الجليل، وقد صنع هذا الجهاز السينمائي الجدل هذا العام، وذلك عندما قرر سحب ترخيص عرض فيلم “كارما” (إنتاج 2018) للمخرج خالد يوسف، قبل أن يتقرر تحرير الفيلم تحت ضغط بركان الغضب الذي انفجر حينها على صفحات الصحف تضامنا مع خالد يوسف.

فاليوم لا يمكن لأيّ فيلم أن يمر إلى قاعة العرض دون الوقوف في محكمة الرقابة، وقد أصبحت الرقابة في العالم العربي لها علاقة مباشرة بالأنظمة السياسية، وتستمد قوتها من ضبابية مساحة الديمقراطية وعدم انسجام أحلام الشعوب مع طموحات الحكام.

بالنظر إلى المشهد السينمائي العربي خلال عام 2018 والذي أنجب أكثر من خمسين فيلما روائيا طويلا (إحصائيات تقريبية)، منها 35 فيلماً عُرضت في مهرجانات عربية كبيرة ودولية، فإننا نلحظ كيف تخاف المهرجانات العربية من عرض الأفلام التي تُصنف في خانة المثيرة للجدل، ويتم التعامل معها بحذر شديد، ولا تقدم كطبق سينمائي للجمهور العريض، فطبيعة بعض الأفلام وطريقة طرحها للمواضيع تشكل حرجا للقائمين على المهرجانات.

ومؤخرا مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأربعين (20-29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) وجد نفسه بين المطرقة والسندان، ولتجاوز تلك العقدة تقرر عرض مجموعة من الأفلام في القاعات بعيدا عن الجمهور، منها أفلام عرضها مهرجان القاهرة في برنامج “آفاق السينما العربية” تحت شعار “عروض خاصة للصحافة والنقاد فقط”، على غرار فيلم “الجاهلية” 2018 للمخرج المغربي هشام العسري المعروف بأسلوبه السينمائي الجريء النقدي اللاذع للأنظمة العربية كفيلمه “جوّع كلبك” 2015 ، و”البحر من ورائكم” 2014.

 

“ممارسات” باسم حماية الأعراف والتقاليد

يقول المخرج والناقد السينمائي المغربي عبد الإله الجوهري “وجدت شرائح واسعة من أبناء المجتمعات العربية تنتصر لمواقف الأنظمة، وذلك في ضرورة الحدّ من حرية الإبداع بدعوى الحفاظ على القيم والعادات والتقاليد”، وقال لــ”الجزيرة الوثائقية” “يجد المبدع السينمائي العربي نفسه أمام رقابة رسمية سياسية قاسية تعمل بكل الوسائل على قمع تطلعاته وأحلامه المستقبلية في صنع أفلام وتعبر عن طموحاته وهواجسه الحياتية والفكرية”، في مقابل ذلك “رقابة مجتمعية هلامية لا تحدد للمبدع مجالات تحركه بوضوح، بل تمنعه من التعبير عن آرائه في الدين والجنس، أو اتخاذ مواقف من الممارسات القبيحة السائدة باسم الأعراف والتقاليد”.

وأكد مخرج فيلم “ولولة الروح” 2018 أن العديد من المبدعين يتعرضون للاضطهاد والمنع من الممارسة الفنية، وفي أحسن الأحوال منع أعمالهم من الخروج للوجود، مشيرا إلى واقعة منع المغرب عرض فيلم “الزين اللي فيك” للمخرج المغربي نبيل عيوش، وقال “هي واقعة تؤكد أن الرقابة يمكن أن تتخذ أشكالا أكثر قبحا يختلط فيه الديني بالاجتماعي والسياسي، خاصة عندما تتقاطع المصالح بين الأنظمة العربية وتتعاون من أجل الحدّ من انتشار فيلم ما”.

فقد رفضت الرقابة بالمغرب منح الفيلم ترخيص العرض، وذلك بسبب موضوعه الشائك المتعلق بالسياحة الجنسية بمدينة مراكش، وتصويره مشاهد جنسية مباشرة، لكن أيضا لأنه قدّم صورة تضجّ بالمعاني والدلالات عن شريحة من السياح السعوديين الذين يقصدون مدنا عالمية مختلفة للاستمتاع وهدر الأموال على الملذات.

ويخلص الناقد المغربي إلى أن الرقابة “رديف للتخلف الفكري، وبعد ذلك للتخلف السياسي والاجتماعي، ودليل على أن بلداننا لم تتجاوز عتبة القرون الخوالي التي لا يزال فيها الفكر الظلامي مهيمنا على كل المجالات”، كما قال “إن الفكر متمدد في كل مناحي الحياة، ومتحكم في التطلعات المستقبلية لأمة عربية تريد أن تكون فاعلة في زمن التكنولوجيات الحديثة والتطورات العلمية الباهرة، رغم أنها ترفض منح الإبداع والمبدعين كل الصلاحيات في التعبير عن مكنونات النفس، ونقل آلام وآمال وأحلام الشعوب العربية من خلال الصورة السينمائية ومعها كل أشكال التعبير الفنية”.