“بدو بدنا نعيش”.. احتلال بدرجة 5 نجوم في سيناء

“إن الحصول على ثقة قبائل البدو واحترامهم صعب جدا لا سيما بالنسبة لامرأة”. هذه ملاحظة لم يكن لها من بدّ في بداية الفيلم، فقد تكون تنبيها يجعل المشاهد في حالة ترقب ويوحي له بأن ما سيراه يستحق تقديرا خاصا، لهذا السبب فهي تستبق حكما قد لا يأخذ في حسبانه صعوبة أدّت إلى بعض العثرات في مسيرة الفيلم.

يبين فيلم “بدو بدنا نعيش” للمخرجة الإيطالية “تيكلا تايدلّي” كيف يمكن أن تُنتهك حقوق جماعات سكانية مثل بدو جنوب سيناء الذين يريدون ببساطة حقا أساسيا، ألا وهو حق الحياة. يمكن توقع المضمون من خلال العنوان، وهذا ليس في صالح أي فيلم، لأن عليه حينها أن يخرج عن مسار التوقعات أو أن يقدمها بأسلوب مبتكر لا يجعل من كل مشهد وكل قول تكرارا مملا سبق أن سُمع وشوهد.

فهل أضاف الفيلم على صعيد المضمون شيئا غير متداول، وهل قدّمه على مستوى الشكل بأسلوب ولغة سينمائية تبتعد عن التقرير الإخباري التلفزيوني؟

شعب سيناء المهمش.. جذور ضاربة في الأرض منذ مئات السنين

افتتح الفيلم بلقطات من جنوب سيناء، أذان وشروق شمس وصحراء بديعة، فذلك تعريف بالمكان تلاه تعريف بالسكان، فهؤلاء البدو يعيشون في المنطقة منذ مئات السنين، وتستعيد المخرجة من خلال قصصهم والمقابلات والشهود القصة الكاملة للظلم الذي عانوا منه منذ حرب الأيام الستة إلى داعش اليوم، مرورا بالثورة السياحية والربيع العربي ووصول السيسي للحكم.

رجل من بدو سيناء يتجول في الصحراء مُتخفيا ليحكي عن تمسك البدو بالصحراء

إنهم أناس محرومون من أراضيهم ومياهها التي اختطفتها الفنادق الأوروبية الكبيرة، محرومون من حقوق الإنسان الأساسية، كامتلاك منزل والحصول على الخدمات الصحية والتعليم، كانوا يجدون الماء لأنفسهم والمرعى لحيواناتهم، وكانت حياتهم تسير سيرها بشكل طبيعي، لكنهم اليوم حُصروا في زراعة الأفيون وبيعه وتقديم خدمات سياحية متواضعة.

“يتصرفون كأن سيناء أرض بلا بشر”.. فنادق الغزاة

ينتقل الفيلم من لقطات واسعة سريعة وكلام عام في البداية إلى حالات أكثر خصوصية فيُبرز رجلا متخفيا لا يبدو سوى عينيه اللامعتين وجزء من بشرته الغامقة، ليحكي عن تمسك البدو بالصحراء وهو يتجول فيها، إنهم خلافا لبقية سكان مصر لا تهمهم الهجرة إلى أوروبا ولا يجذبهم العيش في القاهرة.

طيبتهم وحبهم لصحراء سيناء وارتباطهم بالمكان يشبه علاقة الأم بطفلها، فهم يعرفون كل شبر فيها وكل عشبة، ويتوقعون اتجاه الريح وأوقات المطر، يتحدث البدوي بالإنجليزية أو يُدبلج كلامه، لا يسمع صوته بالعربية، وهذا ما ترك أثرا غريبا، فهو المتحدث الرئيسي الذي يعود السرد إليه بعد تنويعات أخرى يتطرق إليها الفيلم.

صورة بانورامية لصحراء سيناء وكيف يعيش البدو فيها في خيم، فالدولة المصرية لم تعطهم حقوقهم منذ تحررهم من إسرائيل

كان من الجيد سماع صوت المتحدث الأساسي بالعربية كما جرى مع بقية المشاركين، لأنه يعطي مصداقية أكبر للشخصية ضمن محيطها الصحراوي، فلا تبدو وكأنها قادمة من الخارج، بالإضافة أيضا إلى أنه ليست له مشاهد تجمعه مع بقية أفراد القبيلة، أو تبينه في حياته الشخصية، فبدا وكأنه خارج الإطار، كما تكررت أقواله عن تغير الحياة من حول البدو منذ ربع قرن، وانعدام السبل أمامهم فحتى الماء أُخذ منهم ليستخدم للمسابح والفنادق الكبرى في شرم الشيخ.

تعد مشكلة الماء مشكلة حقيقية قد تدفع بهؤلاء البدو لترك سيناء، كما يؤكد مسعد أبو فجر الناشط في حقوق الإنسان والبدوي المنفي حاليا خارج مصر قائلا “يتصرفون كأن سيناء أرض بلا بشر”، فهو الوحيد الذي تحدث عن الانتهاكات التي يعانيها شعبه من قبل السلطات في مدونة “ودنا نعيش” الإلكترونية، إنه يقدم البدو كأفراد، وهذ ما أزعج الحكومة، حتى أنه أوقف في 2007 وسجن ثلاث سنوات دون محاكمة بسبب مدونته، ويُلحّ أبو فجر كالآخرين من البدو الشهود على تعلقه كبدوي بسيناء، ويطالب الحكومة بالاهتمام وهيكلة العلاقة معهم.

سلطات تطوير السياحة.. خطة إسرائيل والغرب لسيناء

دعمت المخرجة ما أدلى به الشهود بمشاهد من المحيط، كما لجأت إلى رسومات وخرائط لتعطي لمحة تاريخية عن مصر وحرب الأيام الستة واحتلال سيناء واتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وانسحاب إسرائيل في 1982، وأثرها الباقي حتى اليوم مع الأفيون الذي شجعت زراعته في المنطقة، ثم في عهد حسني مبارك وضعت الدولة خططا لتطوير المنطقة تضع السكان خارجها.

شيخ
شيخ قبيلة في سيناء تعيش قبيلته في المنطقة على الماشية والزراعة حين يتوفر الماء، يقول إن الواحات على وشك الموت بسبب جرّ المياه إلى الفنادق

اشترك الأمريكيون والأوربيون والإسرائيليون برسم الخطط على مدى السنين لأن المنطقة مغرية بأسعارها الرخيصة، وأسسوا ما أطلق عليه “سلطات تطوير السياحة” وأعطوا البدو وعودا لم تُنفذ ببناء مدارس وبيوت ومستشفيات.

هنا اعتمدت المخرجة شهادة هامة لضابط اشتغل عشرين سنة مع الشرطة منها 12 سنة في سيناء، وقد ظهر متخفيا أيضا وقدّم نظرة الدولة إلى البدو، فهم بالنسبة لها “خونة وليسوا مصريين، رعاة غنم بدو غير متحضرين ولا مدارس عندهم”، واصفا الدولة بأنها تصرفت معهم كدولة محتلة أيضا ولم تعطهم حقوقهم، فهم حسب قوله منذ تحررهم من إسرائيل “مهمشون بلا خدمات ولا سجلات مدنية، فقد أخذت الدولة الأراضي وقسمتها ولم تعطِ أي ملكية لأي بدوي”.

احتلال مصر لسيناء.. شيخ القبيلة الذي سرقت الفنادق ماءه

استعانت المخرجة لدعم أقوال محدثيها حول ممارسة السلطات المصرية بتقارير تلفزيونية دعائية من التلفزيون المصري لإبداء نجاح السلطات في ضبط إرهابيين وأسلحة ومخدرات وإ

طفل من بدو سيناء يبتسم للكاميرا بعد ملاحقته إياها لمرات عديدة للمطالبة من حملتها ببعض الأموال

براز تدمير أوكار عناصر تكفيرية وحرق محصول الأفيون بالاتفاق مع البدو أنفسهم حسب شهادة الضابط لعمل محاضر والحصول على مكافآت من الأمم المتحدة، كما أدرج الفيلم تقريرا من قناة العربية عن شكوى البدو من قلة الماء وانعدام الملكية وغياب الرعاية الصحية، وهذا على بعد كيلومترات قليلة فقط من شرم الشيخ.

تجولت كاميرا المخرجة في عدة أماكن من صحراء سيناء الجنوبية وفي سانت كاترين، وتابعت استشهادها بأقوال البدو ومنهم شيخ قبيلة تعيش قبيلته منذ عدة أجيال في المنطقة وتعيش على الماشية والزراعة حين يتوفر الماء، لكن الواحات على وشك أن تموت بسبب جرّ المياه إلى الفنادق، فكل فندق يقيم فيه ما لا يقل عن ألف سائح مع ما يتطلبه هذا من ماء لازم للحمامات وأحواض السباحة، وكل ذلك من آبار سيناء.

“ماني ماني”.. لكم الغلة ولنا العرق والفتات

إن أكثر ما وفق فيه الفيلم هو دفع المشاهد لمزيد من النفور من السياحة الجماعية وما تسببه من تدمير للأمكنة والعادات والحياة، فيبدو التخريب واضحا سواء للمكان أو للنفوس مع مشاهد سريعة ومكررة عما يفعله السائحون وترتكبه المجموعات.

تظهر المخرجة صورا لأطفال يلحقون بالكاميرا ويطلبون “ماني ماني” (فلوس)، وتتابع زيارة السائحين ضمن برنامجهم السياحي لقرية بدوية للتفرج على هذه المخلوقات وكأنهم في سيرك، وتدمج لقطات سريعة لأناس يرقصون ويسبحون ويمارسون الرياضة وكل متع العالم المعاصر.

أحد بدو سيناء يروي زهوره التي زرعها بالماء، فالفيلم نقل صورا فلكلورية عن طريقة عيش البدو

كما استعرض الفيلم صور الفنادق وتاريخ بدء المشاريع السياحية مع رجل أعمال إيطالي كان أول من بدأ وبيّن مدى أهمية موقع المدينة السياحي بسبب عدم بعدها عن الغرب مع سحرها، معتبرا أنها أجمل مكان بالعالم وتستحق الاستثمار.

إنه “مستر شرم” -كما يطلق عليه- الذي يبدو أنه بذل جهودا كبرى للحصول على العقود لشراء المكان وتطويره، لكن هل عاد هذا بالخير على سكانه؟ لا شيء بالنسبة للبدو أصحاب المكان كما يقولون، فلا أوراق ملكية، بل حتى لا أوراق سجل مدني، وليس لهم إلا عمل قليل، إذ يعمل بعضهم كسائقين للسياح أو في جولات على الجمال، هذا كل شيء، فهم على ما يبدو لا يعملون كنادلين في المطاعم لأنه عمل لا يناسب تركيبتهم وطباعهم، إذ أنهم بحسب مسؤول فنادق إيطالي: “لا يريدون ولا يمكنهم”.

إصباغ صفة الضحية المطلقة.. نظرة ساذجة للغز معقد

إن كان الفيلم اختار موضوعا هاما وباعثا على الفضول على صعيد المضمون فإنه على صعيد الشكل والإخراج جاء مخيبا بعض الشيء، فالمخرجة لم تحسن التعامل تماما مع موضوعها فتكررت الشهادات والأقوال وأعيدت مشاهد تؤدي نفس الغرض في محاولة لحشو فراغ الفيلم.

كما لم يبين السرد جيدا حياة البدو ولم يستطع إدخال مشاهده في أجوائهم، وكان يكتفي بصور فلكلورية عن عيشهم كصور صب الشاي والطبخ والاجتماعات والصلاة وجزء من الأعراس وأولاد يلتفون حول الكاميرا، لقد كان من المهم التغلغل بعض الشيء في حياة البدو ورؤية عاداتهم بنظرة تختلف عن تلك التي أبدتها المخرجة نفسها للسائحين حين يأتون لزيارة خيم البدو كجزء من رحلتهم الترفيهية كي تكتمل عناصرها حسب مفهومهم، خاصة أن التحضير للفيلم استمر عدة سنوات.

كما أن الفيلم اتخذ منحى واحدا وهدفا وحيدا وهو الدفاع عن البدو، وهذا ليس جيدا فحسب بل ضروريا ويكمل نقصا في هذا المجال، لكن نظرته كانت مثالية ولم تأخذ هؤلاء كأناس فيهم الصالح والطالح، أي كما هم دون إصباغ صفة الضحية عليهم بالكامل والاكتفاء بأقوالهم حول اضطراراهم لزراعة الأفيون وتهريب السلاح، لم يأخذ الفيلم المسافة الكافية للتطرق لهذه القضايا الحساسة واكتفى بسماع تبريرات، بينما يعلم الكل يعلم أن المشكلة هي أشد تعقيدا من هذا التبسيط.