“فرنسا والجزائر.. شأن عائلي”

ندى الأزهري

 

لماذا لا يتمكن الزمن من شفاء الأحقاد؟ فأكثر من نصف قرن مضى على الاستقلال، ورغم ذلك لا تزال القضية الجزائرية في فرنسا من المحرمات، وتسبب إثارتها الكثير من الشجون. إنها قضية عائلية، وشؤون العائلة هي الأصعب للحل دوما. فمهما كانت الكلمات ومهما كانت القرارات والمواقف، فثمة فريق أو جهة تعتبر نفسها مهملة باستمرار. هذا من اتفاقية إيفيان عام 1962، حتى تصريح المرشح الرئاسي الفرنسي إيمانويل ماكرون في فبراير/ شباط 2017 والذي أثار جماعة الأقدام السوداء ضده لأنه قارن استعمار الجزائر بجريمة ضد الإنسانية.

عودة إلى فسيفساء معقدة بمناسبة أمسية خاصة كرستها المحطة التلفزيونية الفرنسية الثانية للعلاقات بين الجزائر وفرنسا، والتي عرضت فيها الفيلم الوثائقي “فرنسا الجزائر.. شأن عائلي” لدومينيك فارغس وفريدريك مارتان، حيث يقدم استعراضا شاملا ومكثّفا لكل مراحل حرب الجزائر، رواية التاريخ بكل تعقيداته خطوة خطوة من خلال عملية مزج للأرشيف مع تحليلات لشخصيات انغمست مباشرة في الأحداث من مؤرخين ومحاربين ومنفيين وسياسيين، منهم جان ماري لوبن الرئيس السابق لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، إضافة إلى وزراء سابقين مثل هوبير فيدرن وزير الخارجية الفرنسية السابق وجان بيار شوفنمان.

يمزج الفيلم بإتقان بين الخاص والعام، وبين تاريخ شخصي وأحداث كبرى، ويقدم على نحو متوازن وغني وجهات نظر كل الجهات، معتمدا تقسيم السرد إلى عشرة أقسام امتدت لساعة ونصف، يمثّل كل منها مرحلة مصيرية في حرب الجزائر.

 

العلم الجزائري.. أشعل شرارة الحرب

“الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، إنه جريمة ضد الإنسانية وبربرية حقا، وجزء من الماضي علينا مواجهته”.

هذا التصريح الذي أدلى به المرشح الرئاسي الفرنسي إيمانويل ماكرون في فبراير/شباط 2017 بعد عودته من زيارة للجزائر جاء استهلالا مناسبا للفيلم لما أثاره من ردود فعل في فرنسا، إذ لم يصف أحد من قبل الاستعمار على هذا النحو. زوبعة من الغضب اجتاحت فرنسيي الجزائر الذين تركوا هناك “حياتهم وذكرياتهم وموتاهم” كما تعبر واحدة منهم في الفيلم. من هنا يبدأ الفيلم باسترجاع التاريخ متوقفا عند أهم الأحداث.

يتوقف الفيلم في قسمه الأول بعد عرض سريع للاحتفال بمئوية الاستعمار عام 1930 عند حدث كان الشرارة الأولى لحرب الجزائر، وهو الذي جعل آلاف الجزائريين ينضمون لها. ففي 8 مايو/أيار 1945 رُفع للمرة الأولى العلم الجزائري الممنوع في مظاهرة لوطنيين جزائريين ضد الوجود الفرنسي، كانوا يطالبون برد الجميل لهم بعد الانتصار الفرنسي في الحرب العالمية الثانية. قُتل حامل العلم وقُمعت المظاهرة بعنف، وجاء الانتقام الجزائري بقتل رجل دين فرنسي وأدت حركة التمرد التي استمرت شهرين إلى مقتل 130 أوروبيا ومن 10 إلى 45 ألف جزائري. كان ذلك حافزا لتحول الحركة إلى العمل السري وتأسيس جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي أعلنت الحرب الشاملة على فرنسا تحت شعار “الاستعمار دخل بالسلاح ولا يخرج إلا به”.

يروي شهود عيان وآخرون عن أجدادهم في الفيلم أن اعتداءات متزامنة انتشرت حينها ضد البنى التحتية، ويصف القسم الثاني من الوثائقي الحرب القائمة، مُركّزا على سياسة “الصدم” التي انتهجتها جبهة التحرير بارتكاب اعتداء في مقهى قامت به عام 1956 “امرأة من البرجوازية الجزائرية كي لا تلفت إليها الأنظار”. كانت الاعتداءات دافعا لتدخل جنود من فرنسا وإيطاليا وإسبانبا وألمانيا ونشر مظليين (منهم لوبن)، واعتماد هؤلاء التعذيب الذي بات “تطبيقا خاصا بالحرب وسلاحا فيها”، وهي سياسة لطخت سمعة فرنسا، لكنها قادتها إلى ربح المعركة العسكرية.

الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي نظر إليه شعبه على أنه “المنقذ”

 

ديغول.. “المنقذ” في نظر الفرنسيين

كانت نهاية الخمسينيات فترة مصيرية كما يعرض الفيلم في القسم الثالث، مقدما شرحا وافيا وجديدا مرفقا بصور من الأرشيف للجوء فرنسا في هذه المرحلة إلى تجنيد أهل الريف الجزائري. أدلى بعضهم بشهادات حية برروا فيها انخراطهم أو انخراط أهلهم في الجيش الفرنسي: “لم يكن لدينا الانطباع بأننا محتلون من فرنسا”، و”دخل أهلنا الجيش للعمل كما لو كانوا يدخلون شركة رينو للسيارات”. إضافة للأسباب الاقتصادية والإيمان بفرنسا كان هناك خوف أيضا من جبهة التحرير كدافع لانضمام هؤلاء الذين أطلق عليهم لقب “الحركيون” إلى الجيش الفرنسي.

في تلك المرحلة نظر الجميع إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول على أنه “المنقذ”، لا سيما حين زار الجزائر في منتصف 1958 لإيجاد حلّ للحرب. هنا ألقت مداخلة شوفنمان في الفيلم الضوء على دور ديغول الشديد الصعوبة في تلك المرحلة، ديغول كان واقعيا جدا ويدرك أنه يجب الانتهاء من حرب الجزائر، لكنه لم يكن يستطع قول الحقيقة لفرنسيي الجزائر، فالعسكريون هم من أحضروه للسلطة. لكن في سبتمبر/أيلول 1959 كان كل شيء قد تقرر، واعترف ديغول بحق تقرير المصير للجزائر، وشهدت تلك الفترة أول مظاهرة ضد الاستعمار في باريس. فماذا عن جزائريي فرنسا؟

في 1961 نزل 22 ألف جزائري إلى الشوارع الفرنسية بدعوة من جبهة التحرير احتجاجا على منع التجول

 

مجزرة أكتوبر.. تُنهي 130 عاما من الاستعمار

في تطور جديد، يثير الفيلم مجزرة أكتوبر/تشرين الأول التي بقي مُعتما عليها حتى وقت قريب في فرنسا، والتي أدت إلى مقتل واعتقال وطرد آلاف الجزائريين من فرنسا.

ففي 1961 نزل 22 ألف جزائري إلى الشوارع الفرنسية بدعوة من جبهة التحرير احتجاجا على منع التجول، وقد تظاهروا سلميا لكن الشرطة كانت بانتظارهم. ضربٌ ورصاص وتجميع في ملعب فانسين ثم رمي في نهر السين.

قادت كل هذه الأحداث العنيفة في الجهتين إلى توقيع اتفاقيات إيفيان في مارس/آذار 1962، والتي وضعت نهاية لـ130 عاما من الاستعمار. يشير الفيلم إلى أن فرنسا نجحت حينها بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الصحراء والتجارب النووية مقابل أن يأتي الجزائريون للعمل فيها بحرية.

جثث مجزرة أكتوبر التي ارتكبتها فرنسا بحق الشعب الجزائري

 

انتقام انتقام.. سياسات ما بعد الاستقلال

ثم يكرس الفيلم عدة أقسام للحديث عن توابع الاستقلال والعمليات الانتقامية العنيفة التي قام بها الطرفان الفرنسي والجزائري، فمن جهة تشكلت منظمة الجيش السري (OAS) من الفرنسيين والأوروبيين القاطنين في الجزائر، وبدأت تنفيذ سياسة الأرض المحروقة بحرقها المنشآت الرسمية في الجزائر.

ومرة أخرى قامت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالانتقام من “الحركيين” الذين تركتهم الاتفاقية لمصيرهم. وقد قدّم الفيلم شهادات قيّمة عن شعور هؤلاء، فقد “ظنوا أنهم سيعودون لقراهم وكأن شيئا لم يكن” كما قال مؤرخ، لكن عشرات الآلاف منهم قتلوا أو اختفوا، فقد كان “الحركي” بالنسبة للجزائريين “خائنا وقاتلا لشعبه”. اضطر من تبقى منهم إلى اللجوء لمعسكرات الجيش الفرنسي. أما الفرنسيون والأوروبيون الذين لم يعرفوا لهم بلدا غير الجزائر واختاروا البقاء فيه فقد طالهم كذلك انتقام جبهة التحرير، وكانت الحادثة الأكثر بروزا ما حدث في مظاهرة وهران حين أُخذ الأوروبيون من فرنسيين وغيرهم في شاحنة ووضعوا في حفر ودفنوا.

نتيجة ذلك قرر هؤلاء الذين أطلق عليهم تعبير “الأقدام السوداء” الرحيل، وعرض الفيلم شهادات مؤلمة لبعضهم أو لأهاليهم وقسوة ما جابهوه في الجزائر وفي فرنسا. لقد كانوا 650 ألفا وصلوا بلدا “لا يعرفونه جيدا”، ففرنسا لم تكن لهم سوى “جواز سفر ومنهاج مدرسة ولم يزوروها من قبل” كما تقول سيدة. ويسرد الفيلم الاستقبال السيئ الذي تعرض له هؤلاء في الصحافة وفي الحياة اليومية؛ كانوا يهانون ويوصمون بأنهم “عرب أتوا لأخذ خبز الفرنسيين”.

أما الحركيون الذين انتهى بهم مصيرهم إلى الذهاب لفرنسا فقد جُمعوا في ظروف لا تطاق وغير إنسانية، ووضعوا في مخيم لم يكن لهم الحق بمغادرته لمدة 14 سنة. واستعاد الفيلم ثورة أبنائهم على هذا “الظلم”؛ فما ذنبهم هم؟ لكنه لم يشر إلى الأسباب التي دعت فرنسا لحجزهم هكذا.

كان الفيلم أشار إلى السياسة الفرنسية في الجزائر ومعاملة الجزائريين كمواطنين من الدرجة الثانية، وإلى عدم تمتعهم بالتعليم وإلى التعذيب الذي نالوه عندما انتفضوا، لكن القسم الأكثر إثارة كان في التطرق إلى فرنسيي الجزائر وإلى الحركيين بشكل واضح وإلى معاناتهم معتمدا على شهادات حية، وهذا رغم أنه لم يكن جديدا تماما فإن جَمْعه مع كل ما سبق شكّل كلا متناسقا عن حرب الجزائر وتأثيرها على جميع الأطراف.

 

الاعتذار.. كل ما تطلبه الجزائر من فرنسا

ثم تطرق الفيلم في أقسامه الأخيرة للعلاقات الفرنسية الجزائرية، حيث لم تحترم فرنسا اتفاقية إيفيان وخاصة حين بدت الهجرة مشكلة فيها. ففي الستينيات كان العامل الجزائري مطلوبا، لكنه بات مرفوضا في السبعينيات. بدأت حينها ردود فعل عنصرية وسادت أجواء شجعت على ظهور حزب اليمين المتطرف، وقررت الحكومة الفرنسية آنذاك منح المهاجرين إعانات للعودة إلى بلادهم، لكن كيف سيعود من قد ولد “هنا” في فرنسا؟

بدأت عمليات إرهابية في فرنسا التي اكتشفت حينها أن “أعداءها كانوا في الداخل” وأن سياسة الاندماج لم تنجح. ومع قيام الحرب الأهلية في الجزائر يثير الفيلم كيف كانت هذه الحرب سببا إضافيا لمزيد من التعقيد في علاقة فرنسا مع الجزائر، فهل تدعم السلطة العسكرية أم تترك الإسلاميين يستلمون الحكم؟

الجزائر طالبت فرنسا بالاعتذار في 2005، وكانت مواقف الرؤساء الفرنسيين متفاوتة إزاء هذه القضية الشائكة، فأحيانا كان الاستعمار يوصف بأنه “قاس وغير عادل”، وأخرى يتم تذكر هؤلاء “الذين أحبوا الجزائر جدا قبل تركها” كما فعل ساركوزي، أو يتم الاعتراف “بالمعاناة التي سببها الاستعمار” كما فعل هولاند، أو ينصح الشباب بعدم “النظر دائما نحو الماضي بل النظر إلى لمستقبل” كما قال ماكرون.

وهكذا تبقى جروح التاريخ التي لا تُمحى، وتظل العلاقة بين فرنسا والجزائر صداقة مجروحة، لكنها “ليست جروحا من تلك التي يسببها الأعداء إنما تلك التي يجيد صنعها الأصدقاء” على حدّ تعبير الوزير السابق جان بيار شوفنمان في الفيلم.