“كما أريد”.. مخرجة تقاتل أيادي التحرش في شوارع مصر

أسماء الغول

لم يكن من الممكن أن تصنع سماهر القاضي فيلما عن مصر دون أن تحكي حكايتها الشخصية معها، فسماهر عاشت لسنوات في عصب القاهرة وسط البلد، تُطل على مقهى البورصة، تكبر ويكبر أبناؤها وهي تراقب التاريخ يمر من تحت “بلكونتها” الجميلة، عهد مبارك ثم الثورة وحكم العسكر ومرسي وما بعد الثورة، وقد اختارت من بين هذا كله أن تتكلم عن قضية التحرش بالنساء، ليس من منطلق كونها نسويّة بمقدار ما هي قضية أثّرت بها كل يوم، وأفقدتها صبرها وهدوءها، كذلك النساء من صديقاتها الفنانات اللواتي اعتادت استقبالهن بعفوية وطيبة في منزلها الذي كان أشبه بأستوديو مفتوح على الحكايات والإبداع بصحبة زوجها الفنان المصور كريم الحكيم، وقد صنعا الفيلم معا خلال سنواتهما في مصر.

لقطات شخصية من المنزل لابنهما البكر وحملها الثاني، وتكسير المقهى تحت ضرب النار، وبكاء ابنها الذي قال “لن يُصلحوا القهوة مرة أخرى”، وهي عبارة بسيطة تجعلك تفكر كثيرا، فهو لم يخف على نفسه، بل على الأشياء التي لن ترجع من حوله، وقد وقع ذلك، فأنا لا أذكر أن قهوة البورصة عادت مرة أخرى بعد ذلك.

 

إنه فيلم يحكي لحظاتنا جميعا، تاريخنا، أيامنا التي قضيناها في وسط البلد، حكايتنا مع ذاكرة المكان في وسط البلد، فمن مر على القاهرة في ذلك الزمن ولم يقابل سماهر وكريم؟

يأتي فيلمهما بذات الحميمية والانفتاح وحُب مصر، فانتقاد أسلوب العيش في مصر، والصعوبات التي تواجه المقيمين هناك؛ لم يكن لأن هذه العائلة النصف مصرية كرهت المكان، بل لأنها أحبته.

“أنا ألبس زي ما أنا عايزة”.. بقايا حرية تناساها المجتمع

لم يكن أبدا الحديث عن التحرش من منطلق الحديث عن استحالة الحياة، بل أرادت البحث عن الأسباب وسط الحدائق العامة وفي الشارع، ومقابلة فتيات صغيرات محجبات وأخريات منقبات، ناقلة رسالتهن البسيطة “الناس بيقولوا حتروحي جهنم، بس أنا رأيي إنت حرة”.

هذه مصر الجديدة التي يغلب عليها الدين الشعبوي، لكن بداخل الناس إيمان عميق بحرية الجسد والسلوك الحر، وهذا ما أرادت سماهر أن تواجه به الناس أنفسهم من الداخل، فخرجت بلباس قصير لترى ردود الأفعال، وحملت سكينا مرة، وفي مرة تشاجرت مع الجميع قائلة “أنا ألبس زي ما أنا عايزة”، وكان اسم الفيلم بالفصحى “كما أريد”، وهو ما يذكر بعبارة إحسان عبد القدوس الشهيرة في روايته “أنا حُرّة”، وربما ذلك زمن مختلف برزت فيه الحاجة لأن تقول المرأة أنا حُرّة، إلا أن سماهر أرادت اليوم التذكير بالحُرية التي نسيها المجتمع، وتخلّت عنها المرأة بالتدريج بعد مراحل من الإرهاق السياسي والنفاق الديني الجمعي.

المخرجة الفلسطينية سماهر القاضي التي تعرض في فيلمها “كما أريد” رحلتها الشخصية ضد التحرش في شوارع مصر

 

هذا لا يعني أن الفيلم خلا من الخطاب النسوي الكلاسيكي عن زي المرأة والاسم وحرية الاختيار، ومقاطع فيديو قديمة للتحرش الجماعي في ميدان التحرير، وأفكار مواجهة هذا التحرش من الممكن القول عنها ابنة وقتها، فالحملات النسوية والحقوقية تطورت الآن في مواجهة هذه المعضلة، خاصة بعد تيار “أنا أيضا” (Me Too)، ومدونات فضح التحرش، والسعي لتغيير القوانين لعقاب المتحرش، وأصبحت الإشكالية الحقيقة تدور حول إمكانية القبض على هؤلاء المتحرشين، خاصة أصحاب المناصب والسلطة، وقد أصبح هناك وعي عند الطبقة الشعبية بأهمية فضح المتحرش وعدم التآمر معه.

جسد المرأة في الميدان.. تساؤلات بين ثورتين

يطرح الفيلم كثيرا من الأسئلة حول ما حدث لدور المرأة المصرية عقب ثورة 25 يناير 2011، وعن ما إذا كان ما حدث هو فعل مُنظّم لترهيب المرأة من المشاركة في المظاهرات التي تخرج ضد حكم الإخوان المسلمين بعد أن كان لها دور كبير خلال الثورة، وهل التحرشات الجماعية لردها عن أي مشاركة شعبية وتشويه لاسم ميدان التحرير؟

أراد الفيلم القول إنه على الرغم من أن الثورات العربية والأفكار الكبيرة وأحلام الخلاص تجاوزت فكرة العيب والجسد، وتجاوز المحرم الاجتماعي والديني؛ فإن معركة الأجساد والأفكار والقيم هذه لم تتغير عند جسد المرأة، وبقيت في التابوهات، بل هناك استعداد جماعي للانتقام من المرأة بعد انتهاء أيّ ثورة، وذهاب القيمة المعنوية لمشاركتها إما بالتحرش أو الشتم أو النصيحة.

مظاهرة للنساء المصريات احتجاجا على التحرشات الجماعية التي حصلت في ميدان التحرير بعد ثورة 25 يناير

 

كل هذا اصطادته كاميرا سماهر القاضي التي كانت لا تتحرك إلا بها كنوع من السلاح الفاضح والموثق معا.

“بنتغطى واحنا مش حاسين”.. صراع الحرية بين وطنين

ما ينفك الفيلم يتنقل بين مصر وفلسطين خلال مدته البالغة ساعة ونصفا، ففي الضفة الغربية سماهر بين والديها وعائلتها، حيث المشاكل تختلف عما تواجهه في مصر، وتتعلق بالزواج والإنجاب وتوفير لقمة العيش، ونظرة العائلة لها أنها لا تشبههم، ولم تقف في طابور النساء اللواتي يتزوجن ثم ينجبن مبكرا، وتبقى الأزمة ذاتها، ماذا ترتدي النساء، وكيف ترتديه؟

وكأنه في مصر وفلسطين هناك على الدوام خوف من النساء واختيارهن، والعار الذي قد يمثلنه لو أنهن خرجن عن تقاليد العائلة كما فعلت سماهر نفسها، فهي تبدو اليوم مختلفة عن والدتها التي ترفض في أحد المقاطع تصويرها بدون حجاب.

المخرجة سماهر القاضي في طفولتها في فلسطين، حيث تختلف المشاكل هنا عمّا عايشته في كبرها في مصر

 

هذا التنقل بين بيتها الحالي في القاهرة، وبيتها الأول في فلسطين يجعلك تفهم سماهر أكثر، ففي مصر تبدو المرأة التي تريد الحفاظ على حُريتها بعد أن شعرت أنها تفقدها رويدا رويدا، حتى أصبح الخروج من دون رداء على الأكتاف أمرا معيبا، كما توصف صديقتها الرسامة “بنتغطى واحنا مش حاسين”، أما في فلسطين فيعيدك إلى الفتاة التي أرادت النجاة بنفسها كي لا تكون نسخة عن نساء العائلة، وفي الحالتين تشعر بأنها غريبة، غريبة على الأسلوب المحافظ التقليدي، وغريبة على الحُرية المؤقتة الشكلية التي وجدتها في مصر.

سحب الكاميرا.. قتال عنيف مع شرطي متحرش

خلال تعمقك في قراءة الصراع الفيلمي، قد تتساءل حرفيا ماذا أرادت سماهر أن تقول في الفيلم؟

ربما هي لا تقول، بل تبحث، ولا تزال تحاول إيجاد هويتها بين كل هذه الطبقات والصراعات والكينونات حولها، لكن بقوة المخرجة والمرأة الفلسطينية التي نجت ولا تزال تحاول النجاة، لذلك نجدها تقاتل بقوة شرطيا مصريا أراد سحب كاميرتها، وهو في الأساس متحرش، كما تُصوّر رجلا يمسك عضوه تحت جلابيته لمجرد أنها تعبر بالليل من أمامه مع صديقاتها مرتديات الجينز.

 

فجأة انفتحت القاهرة على احتمال أن النساء عاهرات ويستحققن التحرش بهن، هذا ما لقطته ببراعة سماهر، دون أن تشعر أنك تهت بالفيلم، بل كل ما يحدث يصب في حكايتها، لذلك فهي تغامر وتذهب إلى منطقة أخرى.

حكم مرسي.. غضب أعمى ينسي تحرش عساكر الجيش

تتبع سماهر النساء في المظاهرات ضد حكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي وحكم الإخوان عام 2013، وتشارك في الخروج معهن بلقطات كثيرة، إلى درجة أن إحدى صديقاتها التي كانت تتكلم عن سبل مكافحة التحرش في وقت سابق بالفيلم؛ تريد من الجيش أن يُسيطر على الحُكم ليعتقل مؤيدي مرسي.

وقد نسيت هذه النسوية كشوف العذرية التي فرضها الجيش بعد ثورة يناير، والصورة الأيقونة في ديسمبر/كانون الأول من عام 2011 التي يسحل فيها عساكر من الجيش المصري فتاة انكشف نصفها العلوي إلا من صدرية زرقاء، إلا أن الغضب من الإخوان في ذلك الوقت، واغتصاب النساء في ميدان التحرير الذي كان رمزا لثورة 25 يناير؛ يجعل المتفرج يفهم لماذا أراد كثيرون وقتها من العسكر أن يحسموا الأمر، فهؤلاء لم يعرفوا حينها ماذا سيحدث الآن بمصر؟

مخرجة الفيلم تتعرض لواحدة من محاولات التحرش خلال تواجدها في السيارة

 

إن الخروج بموقف سياسي حول ما حدث في مصر وقتها لم يكن مهما في الفيلم، ومع ذلك فإن كون الفيلم شخصيا وأِشبه بخلاصة حياة المخرجة، ليس مطلوبا منه أن يكون حياديا بل صادقا، لذلك ربما يبدو الفيلم مؤيدا لحكم نظام السيسي الذي لن يسمح الآن بعرض فيلم يشبه فيلم سماهر، لكن ذكاء السرد في الفيلم لا يترك الأمور عند هذا الحد، بل نرى لقطة لسماهر وزوجها في الشرفة تنتقد فيها مؤيدي السيسي، واعتبار أن كل من يهتف ضده هو مع حكم الإخوان.

“ثورة 30 يونيو”.. صرخة حرية في عالم مليء بالصراع

لا يمكن كتمان الغصة حين تشاهد شوارع مصر عام 2013 وما يظهر من أشباه وأشباح ثورة 25 يناير، كأن تصور مكانا بعد انتهاء احتفال ما، الأصوات باهتة، الشوارع مظلمة، الناس لا تنتظر الكثير، حلم ينتهي، وثورة مضادة. حتى أنك تتساءل لماذا لا توجد مشاهد من المخرجة نفسها في ثورة 25 يناير؟ هل كانت خارج مصر؟ ولماذا كان على الفيلم أن يصور “ثورة 30 يونيو” كأنها البديل وصرخة الحرية؟

هذه الأسئلة لم تعد مهمة، بل إجرائية حين تعود سماهر إلى تفاصيل حياتها وحملها، والمنزل الذي يطل على الشرفة، وصراعها اليومي مع المتحرشين تحت منزلها، لمجرد أنها تبدو مختلفة في الشارع، وتعود إلى الصراع الأكبر للمرأة، وهو صراع البنت مع أمها، والحديث الذي لا يزال مُعلقا في السماء -بعد موت والدتها- عن الحقوق والأرض والحرية وألم الفقد والشوق.

ومن الجدير ذكره أن فيلم “كما أريد” قد عُرض في مهرجان أيام فلسطين السينمائية بدورته الثامنة (3 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى الثامن من الشهر الجاري)، والذي تنظمه مؤسسة “فيلم لاب فلسطين”، إلى جانب عشرات الأفلام المحلية والعربية والعالمية التي تعرض في القدس ورام الله وبيت لحم وغزة وحيفا.