“المتلاعبون الجدد”.. حصان طروادة الذي حمل القادة الشعبويين إلى العرش

قيس قاسم

التخويف والتهويل وبثّ سموم الكراهية والعنصرية التي تملأ اليوم الكثير من مواقع التواصل وشبكات الإنترنت، وتحيلها إلى فوضى من المعلومات والأخبار الكاذبة؛ يُراد منها خلق حالة من التشكيك بالمؤسسات الإعلامية التقليدية الرصينة، واستبدالها بأخرى غير خاضعة للمعايير المهنية، وتفتقد إلى الموضوعية.

ظاهرة ملموسة يتحرى الوثائقي الفرنسي “الدعاية، المتلاعبون الجدد” (Les nouveaux manipulateurs Propagande,) عنها، وعن الأيادي الخفية التي تُخطط وتضع إستراتيجيات دعائية للقادة السياسيين الشعبويين على مواقع التواصل الاجتماعي، والهدف النهائي منها كسب مزيد من المؤيدين لهم ولأحزابهم اليمينية.

البحث يأخذ المخرجين “فيليب لاجنير” و”ألكسندرا جوسيت” إلى الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وإيطاليا، وفي كل موقع منها يكتشفون جوانب من الخطط الموضوعة من قبل خبراء ومختصين دعائيين، والقاسم المشترك بينها هو توصيل قادة الأحزاب اليمينية والعنصرية إلى مراكز السلطة والقرار.

اقتحام مبنى الكونغرس.. رسالة نصية من “ترامب”

يعتبر الوثائقي ممارسات الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” مثالا لسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، ودورها المهم في توصيله إلى دفّة الحكم بادئ الأمر، ثم الطريقة التي أشاع بها الفوضى يوم طلب من مؤيديه في تغريدة تويتر اقتحام مبنى الكونغرس “كابيتول” بدعوى سرقة الديمقراطيين الانتخابات منه، ليصنع بها لاحقا مشهدا ختاميا نادرا لمرحلته الرئاسية.

 

قبل الغور عميقا في بحثهم عن الأيادي الخفية المخططة لدعاية الرئيس السابق، يقابل صناع الوثائقي أحد مؤيديه ويدعى “سكوت ماكنزي”، وهو المؤمن كليا بأفكار التيار المتشدد داخل الحزب الجمهوري، ويكشف الاستماع إلى آرائه عن مدى تأثره بما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي ذات التوجه اليميني، وبما كان يوصله الرئيس إليه وإلى أمثاله من رسائل تحريض ضد الخصوم.

يعترف بأنه ذهب إلى مبنى “كابيتول” يوم السادس من يناير/كانون الثاني 2021، بعد استلامه رسالة نصية أرسلها “ترامب” عبر تويتر يطلب منهم النزول إلى الشارع في ذلك التاريخ بالتحديد.

خبراء خلف الرئيس.. دعاية تقسم المجتمع الأمريكي

بالرغم من اعترافه بالتوجيهات التي وصلته عبر تغريدة الرئيس، فإن “سكوت ماكنزي” يكرر كلاما نشرته وسائل الدعاية اليمينية بعد الصدمة العنيفة التي أحدثها الهجوم على “كابيتول” في أوساط المجتمع الأمريكي، وأحدث انقساما حادا فيه، يحيل التخطيط للهجوم إلى جماعات يسارية، وبالتحديد منظمة “أنتيفا”.

“سكوت ماكنزي” يكرر الكلام الذي نشرته وسائل الدعاية اليمينية بعد الصدمة العنيفة التي أحدثها الهجوم على “كابيتول” في أوساط المجتمع الأمريكي

 

كلام يؤشر إلى مدى تأثر اليمين الأمريكي بالدعاية المُنظمة التي يخطط لها خبراء يقفون خلف ظهر الرئيس “ترامب” وتياره المتطرف، ومقدار تصديقهم لما تنشره من أكاذيب، ودائما تخلق لنفسها عدوا تخيف به الناس.

يقابل الوثائقي الباحث في علوم التواصل الأمريكي “بريان أوت”، ويسأله عن الآلية الدعائية التي تؤثر بذلك القدر على عقول الناس، وخاصة المتحمسين للشعبوية الجديدة.

وسائل الإعلام التقليدية.. صداقة الانتخابات وعداوة الرئاسة

يشير الباحث “بريان أوت” أولا إلى مبدأ دعائي يعتمده قادة الدعاية، ويتمثل بخلق أعداء لهم، وقد اتخذ “ترامب” ومخططو دعايته وسائل الإعلام التقليدية الرصينة عدوا لهم، فشنوا على صحفييها حربا شنيعة بعد توليه الرئاسة مباشرة، مُتهما إياهم بنشر “الأخبار الكاذبة”، وأنهم يقفون ضده على طول الخط.

ثمة مفارقة يشير إليها الخبير تتعلق بعلاقته بتلك المؤسسات الإعلامية، وتفيد بأنه لم يهاجمها على الإطلاق قبل توليه السلطة، بل إنه انقلب عليها حال ترؤسه، فقد انقلب على المؤسسات الإعلامية نفسها التي ساعدت في توصيله للبيت الأبيض، وبعد ذلك أراد استبدالها بوسائل سريعة لا تنتقد أخطاءه، ولا تراقب سلوكه السياسي، وبسهولة يمكنه عبرها تأجيج مشاعر مؤيديه وفق هواه.

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي حارب وسائل الإعلام الرصينة بأخرى لا مصداقية لها

 

التأثير على المشاعر وإثارة الفوضى عبر نشر المعلومات الخاطئة والإشاعات ضد خصومه تُدار من قبل فريق مختص، وهذا ما كشفته فضيحة بيانات “كامبريدج أناليتيكا”.

“كريستوفر وايلي”.. فضيحة من داخل فريق الرئيس

يقابل صُنّاع الوثائقي “كريستوفر وايلي” الذي كان يعمل موظفا ومستشارا في المؤسسة التي خرج عنها، وفضح ما كانت تقوم به من ممارسات تتعارض مع مبدأ حماية المعلومات الشخصية، وتعمل لخدمة سياسيين يستغلون الناس دون علمهم لأغراضهم الخاصة، ويجد صناع الوثائقي في شخصيته عونا للتعرف على بعض “المتلاعبين الجدد” في العالم.

أثيرت الفضيحة بعد نشر “وايلي” معلومات تؤكد قيام المؤسسة بجمع واستنساخ البيانات الشخصية المتوفرة على فيسبوك إلى جهات سياسية، من بينهم “ترامب” الذي استعان بها خلال حملته الانتخابية عام 2016، واستخدمها لاحقا للترويج والدعاية لأفكاره اليمينية.

مجموعات فيسبوك.. فخ الإعلانات وبناء القاعدة الشعبية

يشرح “كريستوفر وايلي” المهام والكيفية التي كانت تستغل بها البيانات الشخصية، ودوره في العثور على الأشخاص المنفتحين على قبول “نظرية المؤامرة”، ثم دعوتهم للانضمام إلى مجموعات فيسبوك، ومن خلال قبولهم الدعوة يمكن نقل الكثير من المعلومات والبيانات الخاصة بهم إلى مؤسسة “كامبريدج أناليتيكا”.

“كريستوفر وايلي”هو مستشار بيانات كندي عمل سابقا في “كامبريدج أناليتيكا”

 

يأتي “وايلي” بأمثلة على أساليب نقل البيانات عبر الانضمام إلى مجموعات لها ذات توجه “ترامب”، من بينها أن يقوم هو وفريقه بنشر إعلانات ترويجية على فيسبوك يحرصون على ذكر اسم مدينة أمريكية بعينها فيها. الاسم قد يدفع بعضا من سكانها للضغط على زر الرابط بالإعلان المرتبط بالمؤسسة بشكل سري.

هكذا يجلب الأشخاص بسهولة إلى مجموعات متقاربة التفكير ولها نفس الميول، من أجل كسبها لاحقا في صفوف المؤيدين للسياسي المستفيد من الخدمة وحزبه. يعترف بأن نشاطه عبر المؤسسة ساعد على كسب أوساط شعبية أمريكية كثيرة شكلت بدورها جزءا من حركة سياسية يمينية أعانت “ترامب” على الفوز في الانتخابات الرئاسية.

“لوكا موريسي”.. غموض صانع دعاية الزعيم اليميني

لتوسيع دائرة البحث يتوجه صُنّاع الوثائقي إلى إيطاليا لمعرفة كيف يعمل “المتلاعبون الجدد” هناك، وما هي أساليبهم الدعائية لدعم الأحزاب العنصرية والشعبوية.

الزعيم الشعبوي “ماتيو سلافيني” هو نموذج صارخ للنجاح الممكن للسياسي تحقيقه عبر الاستغلال البشع لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. إذ بفضلها استطاع أن يصبح رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية، واكتسب حزبه “ليغا” شعبية كبيرة خلال السنوات العشرة الأخيرة. عُرف عنه حبه للخطابات والتجمعات الجماهيرية، لكنها لم تكن تحقق له مراده في كسب أعداد كبيرة من الجمهور الإيطالي.

خبير وسائل التواصل الاجتماعي “لوكا موريسي” في خدمة سيده الزعيم الشعبوي “ماتيو سلافيني”

 

يتعرف “سلافيني” على واضع الإستراتيجيات الدعائية وخبير وسائل التواصل الاجتماعي “لوكا موريسي” الذي يعترف الزعيم اليميني بفضله الكبير عليه وعلى ما حققه سياسيا، فقد نصحه بالاعتماد على فيسبوك، فهو -حسب الخبير- الوسيلة الأكثر فعالية لكسب المؤيدين، والمجال الحيوي لإثارة الأحقاد والكراهية ونشر الأخبار الكاذبة.

قبل تعرفه واعتماده على “موريسي” لم يزد عدد متابعيه على فيسبوك على أكثر من 18 ألف شخص، وبعد تنفيذه الخطط الموضوعة ارتفع العدد خلال فترة وجيزة ووصل إلى ملايين المؤيدين. لا يميل الخبير “الغامض” للظهور العلني إلا نادرا، لكن الزعيم السياسي كان يشيد بدوره باستمرار، ويصفه بالعبقري.

انفصال الشمال وطرد المهاجرين.. مطية رئيس الوزراء إلى المنصب

تتيح الإستراتيجية التي اعتمدها الخبير للسياسي نشر أفكاره بسهولة، وأيضا معرفة مزاج الشارع ومدى استجابته لها. هذا لا يتوفر في مؤسسات سبر غور الرأي العام المختصة، لأنها تحتاج إلى وقت أطول والكثير من التحليل.

مؤشرات الشعبية على وسائل التواصل سريعة، ويمكن الاشتغال عليها دون انتظار، هذا ما قام به “سالفيني” عندما نجح أولا في الترويج لفكرة انفصال الشمال الإيطالي عن جنوبه، فقد روّج لفكرة تفوق الشمال وتخلف الجنوب، ليحدث حالة استقطاب يراد بها كسب قلوب قطاعات كبيرة من سكان الشمال، وفي مرحلة لاحقة أراد الجميع الوقوف إلى جانبه في حملته الدعائية ضد الهجرة والمهاجرين.

توضيح لمدى فاعلية فيسبوك بالنسبة للسياسي الإيطالي “ماتيو سلافيني”

 

عمل الخبير على تقديمهم كعالة على المجتمع وعلى الزعيم الوطني طردهم خارج الحدود. ردد “سالفيني” ذلك مرارا، وكانت شعبيته معها تزداد أكثر فأكثر، حتى وصل بفضلها إلى منصب رئيس الوزراء عام 2018.

الواتساب.. ترويج للأفكار اليمينية في البرازيل

في البرازيل يعمل الخبراء و”المتلاعبون الجدد” في الظل لخدمة الرئيس الشعبوي “جايير بولسونارا”، ويطلق عليهم اسم “القبيلة”، وهم يقومون باستغلال وسائل التواصل الاجتماعي خدمة لأغراضه السياسية، ولتشويه سمعة خصومه.

خبير المعلومات الكاذبة المنشورة على الإنترنت “ديفيد نيمر” يدرس التجربة البرازيلية، ويشير إلى اعتماد المروجين لها على واتساب وسيلة رئيسية لنشر ما يريدون نشره وتوصيله للناس، فقد بلغ عدد مستخدميه حوالي 130 مليون شخص تقريبا، وفي التطبيق الخاص به ينشط المخططون السريون في مجموعات يثق أعضاؤها ببعضهم.

اعتمد التخطيط لنجاح العسكري السابق “بولسونارا” في الانتخابات على خطة إستراتيجية توصي بربط ملايين من الناس بتلك المجموعات، والتأثير عليهم لاحقا عبر شحن أدمغتهم بالأخبار الكاذبة والأخرى المروجة لمزايا الزعيم المشرف عليها.

تطبيق “واتساب” بلغ عدد مستخدميه حوالي 130 مليون شخص تقريبا، وهو الوسيلة الأكثر انتشارا في البرازيل

 

ذلك الأسلوب الملتوي هو ما أوصله إلى الرئاسة عام 2018، وكان قبلها شخصا غير معروف تقريبا. الدعاية المنظمة له وتهديد الخصوم وبث الخوف من اليسار؛ كلها أسباب ساعدت على كسب أعداد كبيرة إلى جانبه، وبالمقابل كانت تلك المجموعات تعمل على تدمير كل صوت معارض له.

أبناء الزعيم.. فن إدارة القبيلة الإلكترونية

يمضي الخبير في البحث عن العقول والأشخاص الذين يديرونها، ويكتشف أن أولاد الرئيس الثلاثة هم من يديرها ويقف وراء التهديدات التي تصل للمعارضين أو الكارهين لأسلوبه غير الديمقراطي في الحكم.

يتوصل إلى الحيلة التي اعتمدها أولاده لربط أكبر عدد من الناس بمجموعاتهم الإلكترونية، وذلك من خلال نشرهم أرقام هواتفهم الشخصية على صفحاتها، مع إشارة إلى توقفها عن الخدمة.

أحد أبناء الرئيس الشعبوي “جايير بولسونارا” لا يتورع عن استخدم أقذر الوسائل ضد خصوم والده

 

يتضح للباحث أنها تعمل بشكل عادي، وما إن يضغط الإنسان عليها حتى يجد نفسه مربوطا بهم، ومن خلالها يمكنهم بسهولة استنساخ بياناتهم الشخصية والاستفادة منها لاحقا لغرض معرفة المزاج العام، وسُبل التأثير على الناخبين البرازيليين.

تهديد الصحفيين.. تاريخ ألاعيب العائلة الحاكمة

يمر الوثائقي على التاريخ الشخصي لأبناء الرئيس البرازيلي، ويكتشف شدة ارتباطهم باليمين الشعبوي العالمي، واستخدامهم نفس أساليبهم الشنيعة ضد خصومهم، وكراهيتهم الشديدة للصحفيين النزيهين والشجعان.

يُقابل صُنّاع الوثائقي مجموعة إعلاميات تلقين تهديدات وتعرضن للتشويه من قبل أبناء الرئيس بسبب كشفهن فسادا كبيرا في الحكومة، وانتهاكات لحقوق الإنسان من طرف المقربين من والدهم، وحصول الحلقة القريبة منه على امتيازات اقتصادية هائلة على حساب قطاعات كبيرة من فقراء المجتمع البرازيلي.

بيع البيانات الشخصية.. أخطر الأسلحة ضد الديمقراطية

أثناء البحث يتوصل الوثائقي إلى جانب آخر لا يقل خطورة عن بقية الأساليب غير المشروعة للتأثير على عقول الناس، ويتمثل في وجود شركات ربحية مختصة تقوم بسرقة البيانات الشخصية دون علم أصحابها، وتعرضها على سياسيين في أنحاء مختلفة من العالم مقابل المال. وهي وسيلة اعتبرها الخبير الإعلامي “بروتو مايا” أشد خطورة على الأنظمة الديمقراطية من بين بقية وسائل “المتلاعبون الجدد”.

 

للتحقق من وجودها يطلب الخبير البرازيلي من شركة مختصة الحصول على معلومات وبيانات تخص سكان منطقة سكنية حددها لهم، والحصول بشكل خاص على بيانات شخصية عن الأفراد البالغة أعمارهم الأربعين عاما. بعد دقائق يتصل به شخص ويعرض عليه خدماته، المعلومات المتوفرة تقدم للزبون صورة واضحة عن طبيعة سكان المنطقة وميول أفرادها سياسيا وفكريا، مما يسهل على السياسي استغلالها كما هو يريد.

منصات التواصل.. ملاك الإمبراطوريات في زاوية المُساءلة الأخلاقية

رغم عدم شرعية عمل الشركات، فإن تقديمها للعدالة ضعيف جدا، لأنها تستخدم عادة وسائل تتجاوز حدود جغرافيتها وتمتد لمناطق بعيدة من العالم.

يقدم الوثائقي نموذجا لها يعمل في فرنسا، ويحصل على معلومات كافية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عن مجموعات من الفرنسيين لها موقف معين من قضية الإجهاض.

المثال المقدم يفضح توسعا كبيرا في حقل استغلال وسائل التواصل لأغراض سياسية، كما يظهر في الوثائقي إخضاع أصحاب ومُلاك كبريات منصات التواصل الاجتماعي في العالم للمسائلة أمام لجنة حقوقية تابعة للكونغرس الأمريكي.

يتوصل الوثائقي إلى أن المشكلة تحتاج مكاشفة ومصارحة حقيقيتين، ووضع تلك الوسائل أمام مسؤوليتها الأخلاقية، وحماية البيانات الشخصية لزبائنها من استغلال السياسيين لها.