“الغابة الأخيرة”.. الذهب يفتك بحياة الشعوب الأصلية

ندى الأزهري

سعادتهم في الصيد وسبر أسرار الغابات، وعدم العمل تحت إمرة آخرين، والاستراحة والتمتع بالطبيعة والنوم بسلام، أو -بكل بساطة- فعل ما يشاء كل منهم في الوقت الذي يشاء. هذا التوازن الاستثنائي لأجسادهم ومشاعرهم المرتبط ارتباطا وثيقا بالطبيعة، مهدد الآن منذ اكتشاف الذهب في مناطقهم.

إنهم شعب يانومامي الذي سكن شمال البرازيل وجنوب فنزويلا لأكثر من ألف عام، وكانوا هناك منذ خمسمائة سنة قبل وصول السكان الحاليين، إنهم السكان الأصليون، وبسبب الرجل الأبيض الذي لا يترك أحدا بحاله، فإن تراثهم معرض للفناء.

عرض فيلم “الغابة الأخيرة” للمخرج البرازيلي “لويس بولونيزي” في مهرجان “رؤى الواقع” السويسري للفيلم الوثائقي (15-25 نيسان/أبريل)، ويدين الإهمال تجاه السكان الأصليين على مرّ القرون، وهو إهمال قد تفاقم خلال فترة الإدارة الحالية في البرازيل.

“جاير بولسونارو”.. سياسي أصاب شعوب الغابة في مقتل

منذ أن تولى “جاير بولسونارو” منصبه في عام 2019، تغلغل المنقبون عن الذهب مرة أخرى على نطاق واسع في البيئة المعيشية لنهر اليانومامي في المنطقة الحدودية البرازيلية الفنزويلية، وهم لا يُسمّمون الماء بالزئبق فحسب، بل يجلبون أيضا أمراضا مميتة أحدثها كوفيد-19، إلى هذه المجتمعات الأصلية المعزولة إلى حد كبير، ومن خلال وعودهم بعالم حديث براق يغرون شباب المنطقة بشكل متزايد للتخلي عن حياتهم التقليدية في الغابات.

قد يرى البعض في التخلي عن حياة برية بدائية نعمة للسكان الأصليين. لكن هل يعرف هذا البعض كيف يفكر هؤلاء السكان وما هي مصادر سعادتهم الحقيقية؟ وهل في المدنية سعادة مؤكدة؟

في الغابة المعزولة ترصد الكاميرا حياة القبيلة

“شعبي لن يسمح لكم”.. طقوس طرد الرجل الأبيض

“الغابة الأخيرة” فيلم شديد الأثر بقوة صوره ولغته السينمائية وأسلوبه في تقديم نظرة أخرى للتعريف بثقافة مغايرة، وقد اتخذ أسلوبا سينمائيا يكاد يكون روائيا، فينغمس في يوميات شعب اليانومامي ونمط حياتهم وتفكيرهم، إذ يدعهم يعبّرون تلقائيا تارة، ثم يتّبع السيناريو المدروس تارة أخرى، ليكشف بهذا كثير عن شعوب لا يُعرف عنها إلا القليل.

ترصد الكاميرا في الأراضي الواقعة في الغابة المعزولة حياة القبيلة، وتختار الاقتراب من بعض الأفراد، وعلى الأخص “دافي كوبيناوا” (الشامان)، وهو الزعيم الروحي وحكيم المجموعة، وقد شارك في تأليف الفيلم.

يناضل “دافي” بالوسائل المتاحة للحفاظ على هذه الأراضي للأجيال القادمة، وأبسطها تحضيرات لطرد الرجل الأبيض الباحث عن الذهب في نهرهم. يتابع الفيلم تحضيراتهم المذهلة التي تشمل دهن الجسد بالسواد، ورسم رموز وإشارات على الوجه والجسد، ثم إطلاق الأسهم بعيدا مع صيحات مُعلنة للهجوم، هذا كاف لإخافة ثلاثة منقّبين أو لصوص. يصيحون بهم “اذهبوا”. بينما يعلن “الشامان” قائلا: “شعبي لن يسمح لكم”.

إن سمح السكان لهؤلاء المعدودين، فإنهم سيأتون بالآلاف فيما بعد، وستتغير الطبيعة من حولهم بلا شك، وستجف أنهارهم وتنقلب حياتهم. هم سعداء هكذا، يرقدون باكرا ويغطّون في النوم بسرعة فلا أضواء ولا سيارات، وهم يحلمون، والحلم ضروري بعرفهم لتنظيم الأفكار، وفي الأحلام تختبئ مفاتيح الألغاز.

“الغابة الأخيرة” فيلم شديد الأثر بقوة صوره ولغته السينمائية

أساطير شعب يانومامي.. معتقدات ثقافة الأجداد

ينغمس الفيلم في أساطير شعب يانومامي ومعتقدات ثقافة الأجداد، وفي أوقاتهم السعيدة حين يغطسون مثلا في مياه النهر الباردة، ويرقبون تماسيح تمضغ أحجارا، يعرفون ما في بواطن الحيوانات، يقولون “في بطونها دائما أحجار كهذه”.

هم يعرفون الكثير، لكن “الرجل الأبيض” لا يعرفهم، فعيونه لا تراهم وآذانه لا تدرك كلماتهم، إنه لا يعرف أولاد أوماما، لا يعرف اليانومامي عن قرب، ولهذا يقول “الشامان”: سأذهب إلى أراضيهم، لن أخاف منهم.

هو لن يذهب للهو أو ليحضر طعاما فاخرا، بل لأنهم أولاد الغابة، آخر أولاد الغابة، لذا فإن عليهم الكفاح، و”الشامان” يريد أن يعلّم هؤلاء الذين هم في الطرف الآخر لنهر يانومامي، طريقة تفكير شعبه، ويريد لأولاده حياة صحية ولبناته أن يصبحن نساء على أرضهم.

حورية الماء والأخوان.. أسطورة الخلق

صوّر فيلم “الغابة الأخيرة” في غابة كثيفة، حيث تندمج الأسطورة باليوميات لدى القوم، ففي السرد كذلك يختلط الواقع مع الخيال، وثمة سعي لتجسيد بصري لمعتقدات ولأحلام هي تعبير عن قادم أو حاضر مخفي لا تراه عين.

وبدلا من رواية أسطورة أو حلم كدرس يُلقى، فإن السينما تفعل فعلها بتصويره حيا كما تتصوره الأذهان، من خلال مسرحة المشهد، وبخلق هذا الفضاء السحري يتخلص الفيلم من كتابة تقليدية، ومن سرد خطابي، ليغرق في سحر الصورة وغواية التخيل المجسد.

كان مهما للسرد رواية الأسطورة، فكل حدث في حياة هذا الشعب مرتبط بها، وهنا تأتي أسطورة الخلق ضمن أجواء مفعمة بالخيال والسحر، ويجسدها الفيلم بشخصياتها في طبيعة ساحرة.

يستعيد “الشامان” أسطورة البدء، حيث يعتقد شعب يانومامي أنه جاء من رحم زوجة أوماما، في أراض لم يكن أحد يعيش عليها سوى مخلوقات خارقة، ثم هبط الأَخَوان أوماما ويواسي، ولم تكن هناك أنهار، بل كانت المياه تجري في الأسفل وصوتها يصلهما.

يحفر أوماما فتتدفق المياه في كل الاتجاهات، وتتكون الأنهار والبحيرات والثمار والروائح في الغابة فيزرعان الأشجار، لكنهما يفتقدان المرأة ويشعران بالوحدة فيتساءلان كيف لرجلين خلق امرأة؟

ها هي في أعماق الماء، حورية سمحت لنفسها أن تُلتقط على شكل امرأة، سحبها أوماما مرة، ثم ذهب الأخ أيضا ليسحبها، ولكنه لم يكن رقيقا معها، وأعطى ابنه منها لروح الشيطان لأنه كان يزعجه، ثم تقاتل الأخوان وافترقا، وعاشت الحورية مع أوماما، وتزوجته وجاء الأبناء، شعب يانومامي.

المدينة بإغراءتها هي غاية لدى البعض يستغلها البيض

يوميات القبيلة.. ثقافة شعبية تهددها إغراءات المدينة

يأتي الواقع مع تصوير حياة أفراد القبيلة في يومياتهم، فما بين الضحك والبهجة والعمل والاستراحة طقوس واجتماعات ونزهات، وتعمل النساء بصنع السلال لمبادلتها مع البيض، بينما يشتغل الرجال بالصيد.

يشرب شعب اليانومامي من مياه النهر النظيفة، وفي غابتهم هذه فقط يستطيعون النوم بسلام، وهم لا يعملون لآخرين، بل يفعلون ما يشاءون متى شاءوا، فالوقت هو ما يعيشونه الآن، وهم لا يحاولون التحكم بالمستقبل كما يفعل الرجل الأبيض طوال الوقت.

يراقبون العصفور الذي يعبر والنمل الذي يجرجر مؤونته، وقد ينتظرون ساعات قدوم حيوان، ولهم تفسيراتهم الخاصة لظواهر وحالات، وقد ينهض أحدهم منهكا في الصباح، لأنه كان يصارع فهدا طوال الليل في حلمه، وحين يتأخر الزوج في الصيد فهذا لأن أرواح الغابة أطلقت تعويذة عليه، أو أخذه قطيع بقري أو أكله فهد، أو ربما تكون قد جذبته حورية النهر أو أغراه أحد بالذهاب للمدينة.

المدينة بإغراءتها هي غاية لدى البعض يستغلها البيض، فيلجؤون لأساليب مدروسة لإقناع أصحاب الأرض بقبول وجودهم والتعاون معهم ومساعدتهم في البحث عن الذهب، يغرقونهم بالهدايا وبطعامهم الجيد.

لكن “الشامان” ينبههم دائما، فهو الذي جرب كل هذا وعاش هناك معهم، ويصف تلك الحياة قائلا: حين تشعر بالوحدة لا أحد يهتم بك، لا أحد يعطيك مكانا للنوم، وحتى لو تعلمت لغتهم فلن تصبح أبدا واحدا منهم، وستظل تطرح على نفسك السؤال: من هذا الذي أكون؟ فارجع من حيث أتيت.

الملصق الدعائي للغابة الأخيرة للمخرج البرازيلي “لويس بولونيزي”

دروس القيم بين ضفتي النهر.. رحلة إلى هارفارد

يذهب “الشامان” إلى جامعة هارفارد ليشرح قضيتهم للرجل الأبيض، لهؤلاء الذين يعيشون في الطرف الآخر من النهر، لهؤلاء الذين يقبعون في أروقة السلطة ويسمحون للباحثين عن الذهب بالقدوم لمنطقتهم.

كلهم يرددون كلمة واحدة، كلمة وحيدة تملأ أفواههم: “مهم”، “المنتج مهم” (في إشارة إلى الذهب)، مع أن هناك كثيرا من المنتجات لا يتشاركونها مع غيرهم، إنهم جشعون. يقول في كلمته حول ما هو “مهم” لشعب يانومامي: مشاركة طعامنا في بيتنا، وبقاؤنا ونمونا، وطريقتنا في العيش، ووجودنا كشعب.

إنه عمل ملهم مليء بالحب، ودرس في المشاركة والتعاطف، ونظرة مفصلة على سكان المنطقة تكشف قوة هذا الشعب الذي يكافح من أجل بقائه في مقاومة سلطة المال، وفي الحفاظ على الغابات، وفي حماية تراث شعب مهدد بالفناء.