“7 سجناء”.. أزمة الاختيار بين أن تكون جلادا أو ضحية

قيس قاسم

الصورة المقدمة للبرازيل وأحوال طبقاتها الفقيرة في فيلم “7 سجناء” (7 Prisoners) مفزعة لشدة قتامتها وقوة تماسّها مع واقع تتعمق فيه معاناة الكادحين، وبشكل خاص المزارعين البسطاء الذين يجري استغلالهم من قبل منظومة متكاملة من أصحاب المصالح والسياسيين الفاسدين، ومثلهم رجال شرطة يؤمّنون لهم حماية وسقفا قانونيا يبعد عنهم التهم، حتى لا يبقى أمام الضعفاء من البرازيليين في تلك الحالة إلا القبول بالواقع أو الوقوف ضده، وهو ما يعني مواجهة غير متكافئة مع آلة فساد جهنمية لا تتردد لحظة في طحن كل من يقف في طريقها.

هذا ما واجهه المزارع الشاب الفقير “ماتيوس” الذي وجد نفسه مع بقية زملاء له في مكان بشع، هو كناية عن “سجن” رهيب لا خيار أمامه فيه إلا مجاراة حرّاسه القساة ليصبح واحدا منهم، أو الرفض والمقاومة، وهذا ثمنه كبير يتجاوزه وتمتد تبعاته الموجعة إلى والدته وبقية أفراد عائلته.

رحلة عمل واعد.. فردوس ساو باولو المفقود

لتجسيد حالة “السجناء الـ7” يشرع المخرج “ألكسندر موراتو” بعرض حالة الشاب “ماتيوس” (لعب دوره باقتدار الممثل كريستيان مالهيروس)، وهي بدورها تقارب حالة 3 من زملائه مضوا معه في رحلة عمل إلى مدينة ساو باولو البرازيلية.

 

في كوخ بسيط تظهر والدة ماتيوس وهي ترعى شؤون عائلتها وقد أثقل ظهرها تعب العمل في المزارع، وصعّب مشيتها. أما ابنها فمثله مثل بقية شباب القرية يعمل في مزرعة مقابل أجر بسيط لا يتناسب مع عبء العمل الذي يقوم به، إلى جانب دراسته التي يريد إكمالها ليصبح مهندسا. تصور أن حلمه بالعمل مؤقتا في مدينة كبيرة سيؤمن له مردودا ماليا جيدا يُحسّن به وضع عائلته ويساعده على إكمال دراسته.

رغم فقرها تحرص الأم على ظهوره بمظهر جيد أثناء رحلته، فتشتري له قميصا صيفيا جديدا. الأمل يشعّ في المشهد الافتتاحي، ويزداد مع اقتراب الرجل الوسيط بين العمال الجدد وأصحاب العمل في المدينة، ليقدم لوالدته مبلغا ماليا جيدا كعربون لعمل ولدها الواعد.

أغدق الوسيط المديح على أصحاب الورشة، ووعد الشباب الأربعة بعقد عمل يضمن مصالحهم إلى جانب إقامة جيدة في مكانهم الموعود.

“ماتيوس”.. شخصية قيادية تتميز بالذكاء

لا يطول المشهد المبهج المنقول من القرية، فعند مدخل مدينة ساو باولو العملاقة، سرعان ما يدخل أبطال المشهد في الجو المعتم الذي عليهم العمل فيه. يستقبلهم رجل حاد الملامح صارم يدعى “لوكا” (يلعب دوره الممثل رودريجو سانتورو)، ويقدم نفسه لهم كمشرف على الورشة التي يُعاد فيها تدوير “الخردة” وفضلات المعادن المستخدمة لبيعها ثانية كمواد خام إلى التجار.

شخصية “ماتيوس” القيادية، فهو شاب ذكي يعرف حقوقه ويطالب بها دون توقف

 

يجبرهم لوكا على العمل ساعات طوال دون مقابل مادي، ويفرض عليهم المبيت في مهجع بائس التأثيث داخل الورشة تحيطه القذارة من كل مكان.

منذ البداية تظهر ملامح شخصية “ماتيوس” القيادية المتفردة عن بقية زملائه الميّالين لحسم خلافاتهم بالقوة والعنف، فهو يظهر كشاب ذكي يعرف حقوقه ويطالب بها دون توقف.

وعود كاذبة.. عمل مجاني مقابل إقامة جبرية

في لحظة مواجهة مع السجان المسلح، والذي ولا يتردد في استخدام مسدسه ضد كل من يعانده أو يحاول الهروب من “السجن”. فقد وضع نفسه فيه موضع الأمين على أملاك أسياده الأثرياء المغيّبين عن الصورة في المشاهد الأولى من الفيلم المعروض على منصة “نتفليكس”.

لإسكاته يقدم له المشرف قائمة بالمصروفات التي عليهم تسديد أثمانها مقابل العمل مجانا. يدرك الشباب أن الوعود التي قدمها لهم الوسيط كانت كاذبة، وأن المماطلة بالتوقيع على عقد العمل كان مخططا لها مسبقا، حيث وجد الفلاحون أنفسهم ملزمين بالعمل كعبيد مقابل تكاليف أجور رحلتهم بالباص إلى “السجن”، وثمن إقامتهم ومأكلهم البسيط فيه، والتي اعتبرها السجان ديناً في ذمتهم لا يمكنهم التخلص منه ما داموا سجناء في تلك الورشة اللعينة.

وحين فكروا في الهرب منها اكتشفوا استحالة ذلك لشدة حراستها، ولارتباط أصحابها بالمؤسسات الأمنية في البلد.

محاولات هروب فاشلة.. البحث عن صفقة مع السجّان

محاولات هروبهم من “السجن” تتكرر، لكن دون جدوى، فالحارس الخبيث يعرف ماذا يفعل، ينام بعين نصف مغمضة، يعاونه مساعدون قساة مثله، إضافة إلى رجال شرطة يقفون معه ضد العمال، يوصلون لهم -لضمان بقائهم عبيدا- تهديدات تطال عوائلهم في القرى. يخبرهم قائد مفرزة بعد إعادتها أحد الهاربين من أسوار الورشة بأنه يعرف كل شيء عنهم وعن عوائلهم، وأن أي محاولة ثانية للهرب سيدفع أولئك ثمنا غاليا بسببها.

 

التهديد بقتل أمهاتهم وحرق بيوتهم لا لبس فيه، فمحاولات الهرب الفاشلة تعقبها دوما عقوبات جسدية، ولشدتها تخلق تعارضا واختلافا في مواقف الشباب الأربعة. يدرك “ماتيوس” استحالة الهرب، لكن البقية يصرون على تكرار المحاولة.

لإيجاد مخرج للوضع المغلق الذي هم فيه يقترح ماتيوس عقد صفقة مع لوكا تتضمن إنجازهم أعمالا كثيرة تغطي تدوير كل الشحنات القادمة خلال مدة زمنية قصيرة مقابل إطلاق سراحهم. يوافق الحارس، وبموافقته تتغير الأوضاع وتتهشم روابط الصداقة بين السجناء.

أسئلة ملتبسة.. هل قساوة الماضي تجيز الوقوف مع الأشرار؟

يقترب الشاب الذكي شيئا فشيئا من سجانه، ويجد نفسه في النهاية مأخوذا إلى ذات السبيل السيئة التي يسير فيها لوكا. ومع كل اندفاعه لتطبيق الاتفاق فإن دواخله ظلت متعاطفة مع زملائه رغم بعض القسوة التي يظهرها أحيانا أمامهم، فهم بدورهم اعتبروه خائنا تركهم وذهب في صف مُعذبهم.

يطرح موقفه “الانتهازي” أسئلة ملتبسة عن حدود المجازفة، وكم يمكن للمرء تجنب التورط فيها حتى لا يصبح على غير ما كان عليه؟

 

 

يؤجل الفيلم الإجابة على هذه الأسئلة، ويقترح متابعة مسيرة الشاب وتجربته حتى النهاية. خروجه من السجن دون التحرر الكامل منه وضعه بين موقفين تحمل عبأهما وشعر بسببهما بحيرة ظلت تلازمه وتؤنب ضميره.

يأخذه حارس الورشة الشاب معه في سهراته الماجنة في ليل مدينة ساو باولو الصاخب، يُعرفه على عائلته ويقابل والدته، يفهم الفلاح البسيط من خلال مصاحبته له أنه كان أيضا مثله فقيرا أُجبر على اتخاذ قراره بالوقوف مع الأقوياء بعد أن ذاق مرارة العيش وتحملت والدته أعباء ومشاكل كثيرة. ولكن.. هل قساوة الماضي تجيز الوقوف مع الأشرار؟!

سؤال آخر يسرّبه النص بين المَشاهِد الدراماتيكية المتلاحقة التي تأخذ بالتوسع في فضاءات معتمة خارج “السجن”، وتنقل معها مشهدا مخيفا لاستغلال يطال بشرا من خارج الحدود، دفعتهم الحاجة للمجيء لمدينة غريبة ظنوا أن الأمل في خلاصهم من عذاباتهم موجود فيها.

صناعة الاستبداد.. تحوّل الضحية إلى جلاد

يدخل ماتيوس مع لوكا إلى ورشة خياطة تعمل فيها مهاجرات آسيويات، ويشهد بنفسه صفقة تسليم تجار بشر آسيويين -عدد منهن لـ”لوكا” نفسه- مقابل المال، ولأغراض استغلال أجسادهن فيما بعد في بيوت الدعارة.

رَفضُ النساء الخروج من الورشة عنوة مؤلم، يقابله موقف مشين يتوسط فيه السجين المتخاذل (ماتيوس) لإتمام الصفقة لصالح “سيده” الجديد (لوكا). ومقابل دوره في العملية يحصل على مبلغ جيد، ويعرف أن مثل هذا المبلغ أيضا وصل إلى والدته كعربون على ثقته به.

ماتيوس في ورشة خياطة تعمل فيها مهاجرات آسيويات، حيث يشهد بنفسه صفقة تسليم تجار بشر آسيويين مقابل المال، ولأغراض استغلال أجسادهن

 

يتعزز مشهد التنازل حين يدخل الشاب في صفقة جديدة مع مهربين يختار فيها 3 من المهاجرين اللاتينيين الذين نقلوا سرا إلى مكان مجهول لينضموا لزملائه، وبهذا يبلغ عددهم معه 7 أشخاص، ومن هنا جاء اسم الفيلم الرائع “7 سجناء” المُصور بكاميرا المصور السينمائي البارع “جواو غابريل دي كيروز” الذي يجيد العمل في المناطق الضيقة كما في المساحات المفتوحة (الخارجية)، ويعرف كيف يقترب من الوجوه ليلتقط أدق تعابيرها وأكثرها قوة.

محاولة هروب أحدهم في الطريق وقيام “ماتيوس” بالقبض عليه بمخاطرة حقيقية عززت قناعة سجانه به أكثر، وتأكد له إثرها أنه أضحى واحدا من أفراد مجموعته، ويستحق تقديمه لشخصية مهمة.

سجان أم سجين.. خياران مصيريان يصعب الترجيح بينهما

في السياق التصاعدي للأحداث يصل السرد إلى النقطة الحرجة، حيث تنكشف الشخصية المالكة للورشة.

يمر السجين والسجان (ماتيوس ولوكا) بالشوارع القريبة من بيت السياسي المرشح للانتخابات البرلمانية، ويشاهدان الصور والإعلانات المروجة لحملته، ففي البيت الفخم الذي كان يقيم فيه حفلة باذخة يستقبل خادمه المطيع (لوكا) ويعرض عليه عملا جديدا في مكتبه، ويطلب منه تسليم الورشة لشخص جديد، ويطلب من “ماتيوس” أن يكون عونا له فيها.

الكشف المتأخر يحيل إلى نظام سياسي فاسد هيكليا لا يترك أمام المرء إلا خيارا واحدا؛ فإما أن يكون سجانا أو سجينا!!

الخيارات تبقى شخصية يتحكم بها الموقف الأخلاقي، ويبدو أن الفلاح الطموح قد قرر أن يكون سجانا.

 

في المقابل ثمة رفض يتمثل في محاولة زميل له الهرب وعدم الخنوع، لكن ثمن المحاولة كان غاليا، لقد قتل خُدام السياسي وصاحب الورشة -بمعونة رجال الشرطة- أمه خنقا، وأرسلوا صورة جثتها له عبر الهاتف.

صرخة الابن المدوية تنبئ باحتجاج على نظام لا يرحم؛ المتورط فيه لا يمكن له الفرار منه بسهولة، مثل “ماتيوس” الذي تيقن في النهاية أن التراجع عن قراره بأن يصبح سجانا قد فات أوانه.