“أسرار مقبرة سقارة”.. ألغاز كاهن فرعوني يخدع قضاة اليوم الآخر

د. أحمد القاسمي

يكاد المتفرج وهو يشاهد الوثائقي “أسرار مقبرة سقارة” (2020) عبر كاميرا المخرج الإنجليزي “جيمس توفيل” وما تكشف من كنوز؛ أن ينادي “افتح يا وحْتِي”، إذ تضم المقبرة أكثر من ثلاثة آلاف قطعة أثرية، منها التماثيل والجداريات الفاتنة التي تسجّل مشاهد من الحياة المصرية القديمة.

وبالفعل يفتح “وحْتي” أبواب مغارته بعد نحو 4500 سنة من السباحة في العتمة تحت الرمال في عالمها السفلي، فلا يُغني التراث المصري بأهم اكتشاف أثري منذ أكثر من خمسين سنة فحسب، وإنما يمنح السينما حكاية عجيبة مؤثرة، تجعل الإنسان يحفر في الماضي فيقع على صورة من حاضره.

ما فتأت السينما تنظر بعين الافتتان إلى كل ما يجاورها من الآداب والفنون والعلوم مدفوعة بغريزتها التوسعية، وتتحيّن الفرص الملائمة للسطو على مقدراتها، لتحوّلها إلى مادة فيلمية قادرة على اجتذاب الجمهور الباحث عن المثير والفاتن إلى قاعات العرض، وعلى إخراجه من رتابة معيشه.

لم تكن السينما وحدها ضحية افتتانها بالآخر، فـ”وحْتي” قد نام 4500 سنة في عالمه السفلي، وآن له أن يثب من نومته. ولعله وجد في السينما بساطا للريح يجوب به الآفاق، ليعوّض له عن سنوات سجنه في مقبرته.

على هذا الأساس نشأت شراكة واعدة تأخذ المتفرّج إلى عوالم التاريخ المصري القديم الساحرة، وإلى عوالم الفن السابع الفاتنة، فكان فيلم “أسرار مقبرة سقارة”.

 

مقبرة سقارة.. تعطش السينما لعوالم ما تحت الأرض

إن مقبرة سقارة لها من الموارد ما رغّب السينما فيها، فهي تمثّل كنزا حقيقيّا غمرته التراب فجعلته بعيدا عن الأيادي العابثة التي سطت على ثُلث الآثار المصرية وفق بعض التقديرات، ففي فرنسا وحدها تنتصب أربعة مسلات مصرية ، ثلاثة منها سرقت أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، أما الرابعة التي تنتصب شامخة في ساحة الكونكورد، فقد أهداها محمد على باشا إلى ملك فرنسا “لويس فيليب” بعد انبهاره الشديد بها، وذلك خلال زيارته لمعبد الأقصر عام 1828، بتحريض من العالم الفرنسي “شامبليون” صاحب الفضل في فك رموز حجر رشيد.

كما يضم متحف اللوفر في باريس ما يزيد عن 50 ألف قطعة مصرية، من بينها قناع نفرتيتي، وتمثال الكاتب المتربع الذي يثبت أنّ المصري أول من استعمل القلم، وتمثال للملك رمسيس الثاني، وتمثال للملك أخناتون.

مما يُغري السينمائي بهذه الشراكة المثمرة مع مقبرة سقارة عرض يوميات الحفر بداية من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018، فيعايش فريق أعمال فريق التنقيب، ويشارك خبراء النقوش الهيروغليفية للتعرف على سيرة “الكاهن وحْتي”، ويعرض قصة عائلته المؤثرة، وينتهي إلى عرض سيرته المغيبة. وفي الآن ذاته يأخذنا إلى ذلك الديكور الفاتن من جداريات ضخمة ورسوم بديعة ولغة هيروغليفية وتماثيل وموميواات. فتتماهى إثارة التاريخ بإيهام القص.

يبدأ الفيلم بإدراج صورة المعاول وهي تضرب في الأنفاق، فيتصاعد الغبار ويحجب الرؤية، ثم تتضح الصورة شيئا فشيئا، وتدعونا إلى اقتحام المقبرة واكتشاف عوالمها، وينتهي بلقطات عامة تُجسّد احتفال الأهالي بالكشف العظيم لصفحات من تاريخ طالما مثّلت مصدر فخر للمصريين، فهي تُذكرهم بهويتهم، وبماض كانوا فيه فاعلين.

يصنع الفيلم تفاصيل مغامرتين تتطوران بالتوازي، الأولى هي مغامرة تحت الأرض، تحاول أن تتمسّك بالماضي وتعيد تشكيله مع كل اكتشاف، فتأخذ المتفرّج إلى ما يشبه لعبة المربكة، وليست قِطعُها غير التماثيل والجداريات وبقايا هياكل عائلة وحْتي، وليس اللاعبون المهرة الذين يشكلون المشهد الكليّ غير علماء للتاريخ وأطباء للعظام ومختصين في التراث المصري القديم. والأخرى هي مغامرة فوق الأرض، ومدارها على الزمن الحاضر، وتعرض قصة الشغف الذي يرافق فريق التنقيب. وبين المغامرتين يمد الفيلم جسورا وروابط، فيتمطط الزمن، ويضحي الراهن امتدادا للماضي مبعث فخر الأهالي.

اللوحة الجنائزية التي تُعرّف بصاحب المقبرة “وحْتي”، إذ يجد المؤرخون هذه الشخصية مجهولة في التاريخ المصري

 

رحلة الكاميرا في العالم السُفلي لسقارة.. المغامرة الأولى

ينتمي الفيلم إلى النمط الوثائقي، ويعرض اكتشافا أثريا مهمّا، لكن اشتماله على مغامرتين تتطوران بالتوازي سرّب القصّ في أعطافه، وحبك أحداثه ومنحه هوية سردية حرّرته من صرامة الدراسة العلمية، دون أن تحرمه من جدواها. لذلك كان يذلل الفكرة المجردة المتعالية، ويمنحها هيئات وأشكالا، فتسري فيها روح الإيهام والتخييل، ذلك الطعم الذي يشد المتفرّج إلى متعة السرد، ثم يرتقي به يسيرا يسيرا إلى التجريد والتأمل، ويجعل لكل مغامرة حبكتها الخاصة بين بداية ووسط ونهاية، ليؤجج التشويق ويدفع به إلى أقصاه.

تأخذنا المغامرة الأولى إلى عالم المقبرة تحت الأرض، وتبدأ مع رحلة العلماء المصريين في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 للحفر في صحراء الجيزة غرب القاهرة، واكتشافهم المذهل المتمثل في وجود عالم بأكمله كان التراب قد غمره لقرون طويلة، وشكّل حماية له من اللصوص، ويمثل سر بهائه وما فيه من المهابة والرفاهة رهانا يعهد للقسم الثاني بحلّه.

ثم يفتح باب المقبرة إيذانا بتصاعد الأحداث داخلها، ويظهر دكتور علم المصريات والمشرف على عمليات الحفر محمد محمد يوسف، ومعه تبدأ الرحلة في العالم السفلي، فللمقبرة في التاريخ المصري القديم مكانة محورية في حياة المرء، أهميتها تنحدر من العقيدة المصرية التي تؤمن بالبعث بعد الموت ليعيش المرء الحياة الأبدية، وتوجب حفظ الجسد سليما، لتعود إليه الروح بعد انفصالها عنه فتسكنه من جديد، ويستدعي ذلك تحنيطه وترك علامات تقود الروح إليه.

انطلاقا من هذا المعتقد تُشكل عمارة “مقبرة سقارة” على نحو نموذجي، فتتكون من جزء علوي، حيث المدخل الذي تزينه الجداريات على شكل أناشيد للشمس، ثم تُعلّق اللوحة الجنائزية التي تُعرّف بصاحب المقبرة “وحْتي”. إذ يجد المؤرخون هذه الشخصية مجهولة في التاريخ المصري، لكنهم يُقدّرون أنه كاهن. لكن لا بدّ من رحلة بحث تكشف عن هذه الصفحة المجهولة.

يطرح الفيلم السؤال المثير: من يكون “وحتي” ليحظى بمقبرة عظيمة كمقبرة سقارة؟ ثم يعمل على التصرف في عرض المعلومات التاريخية بطريقة إبداعية تؤجج رغبتنا في متابعة أحداثه حتى النهاية، فيمتد حبل القصّ طويلا طويلا.

مقبرة سقارة التي تُعتبر من أهم الآثار التاريخية في مصر، والتي يعود تاريخها إلى الآف السنين

 

لغز الآبار الأربعة.. ملاعبة الكاميرا للمتفرج

نقول في أمثلتنا الشعبية “سرّك في بئر”، أما سر “وحتي” فتفرع إلى أربعة آبار ضمت رفات أفراد أسرته، وقد كان البئر عنصرا مركزيا في معمار المقبرة المصرية القديمة، ينتهي عند حجرة الدفن التي يحفظ فيها جسد الميّت، ويؤمّن من السرقة بسدادات رملية ثم يغلق بإحكام.

هل هي الصدفة التي جعلت فريق البحث يعثر تباعا على حجرة النساء ثم الأبناء، ويجعل طبيبة الروماتيزم أميرة شاهين تتعرفّ إلى أسباب موت أفراد العائلة، وتطرح فرضيات تدفع التشويق إلى ذروته، أم هو مقصّ المونتير الذي ساهم في حبك القصّة، فيعيد ترتيب الاكتشافات؟ أم هي الكاميرا التي تعرض مظاهر البهاء والثراء في المدخل، ثم تعرض علامات على زهد غير مبرر عند الدفن الذي يقتضي عادة أكبر مظاهر الترف، فذلك ما سيبقى في النهاية حينما تعيد الروح الالتئام بالجسد، لتبدأ رحلة السفر الأبدي؟

يدعم أسلوب التأطير فكرة ملاعبة الكاميرا للمتفرّج، فقد كانت تُركّز على وجه مُنقّب الآثار، فترصد علامات الذهول وهي ترتسم عليه وصيحات الإعجاب والافتتان بما يجد، ثم تدرج المادة الأثرية لاحقا، فتجعل الانفعال بإمساك الزمن المنفلت منذ أربعة آلاف سنة، والوقوع على صور من الحياة المصرية القديمة لا يقل قيمة عن الاكتشاف الأثري ذاته. ولا تفتح البئر الرابعة إلا في نهاية الفيلم، فإذا بها تؤدي إلى حجرة “وحْتي”، وبفتحها تنكشف الأسرار دفعة واحدة، فترغمنا على أن نتدبر الحياة الإنسانية بأسرها وأن وراء سر وحْتي الكثير من الدروس والعبر.

مُنقبّو الآثار في العالم السفلي من مقبرة “وحتي”، وهم من قرية سقارة، وقد مثّل الحفر بالنسبة لهم مصدرا للرزق

 

مُنقّبو الآثار.. أبطال المغامرة الثانية

أما المغامرة الثانية فتجري فوق الأرض، وأغلب أبطالها هم من مُنقّبي الآثار، ومن قرية سقارة نفسها. ولئن مثّل عملهم بالحفر مصدرا للرزق، فإنهم يجدون فيه فعلا عاطفيا يصهر كيانهم الراهن بكيان أسلافهم في الماضي البعيد.

يؤكد ذلك رئيس العمال وهو يتجول في مزرعته، فيجد صورا منها على جداريات “وحْتي”، ويكتشف أنّ شيئا منه لا يزال قائما الآن فيمتلئ فخرا وعزّة، لكن يحدث ما يُعكّر صفو هذا الاطمئنان، فالبعثة الأثرية استنفذت ميزانيتها، والدولة تقنع بهذا القدر من الحفريات، وتقرر إيقاف العمل بالمقبرة مع بداية شهر رمضان، ولا تخطط لضخ المزيد من الأموال.

ها هي الأسابيع تنقضي وتشد برقاب بعضها، وها هو المدير يأتي معلنا عن وقف العمل بعد يومين يخصصان لتنظيف الفضاء وجمع الآلات، لكن للعالم السفلي رحمته بالعباد أيضا، فها هو المعول الذي يسوى التراب يكشف صدفة عن بناية أخرى تبدو أكثر إدهاشا من مقبرة “وحْتي”، إذ يقرأ خبير اللغة الهيروغليفية على المدخل “القاضي الكبير”.

فتلك إذن شخصية أخرى تظهر على السطح، وأسرار أخرى تلاحق على أنغام أهازيج الأهالي الذين سيحظون بفرصة جديدة للعمل ولاكتشاف سير الجدود الأولين. على هذا النحو كانت قصة الفيلم تتطور على مسارين، وتستقي قدرتها على التشويق وإذهال المتفرّج وإدهاشه، وتنسج من الحاضر والماضي البعيد ضفيرة واحدة، وتجعل من نبش الرّمال نبشا في الزمن بحثا عن الحكم المدفونة في التراث.

تماثيل “وحتي” التي توحي بحياة الرفاهية والثراء اللذين كان ينعم بهما

 

“وحْتي”.. لُغز شخصية الكاهن الوسيط بين الإله والملك

يمثل “وحْتي” بؤرة الفيلم ومركز الجذب فيه، فالوصول إلى فك أسرار شخصيته الملغزة يكشف بكل تأكيد النقاب عن مرحلة من تاريخ المجتمع المصري القديم، وعن طبيعة العلاقات بين أفراده، وعن تصوراته للوجود.

فيتحول الأثر إلى بحث دؤوب لفك الألغاز، وتبدأ أول مراتب الإجابة من سر موت الأطفال المتقارب زمنيا، ومن حجرات الدفن البسيطة التي لا تُناسب المقبرة المبهرة، ومن غياب الترف في عملية الدفن، فتابوت “وحتي” جُهّز بشكل عادي، وتحنيط المومياء افتقد إلى العناية والحرص. فهل لموت أبنائه وحالة الحداد دور في ذلك؟

ثم يكشف تشخيص العظام أن “وحْتي” كان أعرج ضعيفا، ويبرز التورم أنّ جسده كان في حاجة شديدة للدم، وأعراض فقر الدم والتورم نفسيهما ظهرا على أمه، فلا شك أن الكاهن مات تعِسا، فقد عانى من مرض وراثي بقدر ما عانى من ألم الفقد بعد أخذ الوباء أبناءه معا.

لقد جعلت البيانات الأولى الخبراء يقدرون أنه كاهن من كبار رجال الدولة، وهذا يعني أنه عالم يتولى الوساطة بين الملك والإله أولا، والملك والشعب ثانيا.

وكشفت التماثيل التي توضع في المدخل عن حياة الرفاهية والثراء اللذين كان ينعم بهما، وتعرض الرسوم مشاهد من الحياة الصاخبة التي يعيشها حينئذ، ليستعيدها في الحياة الأبدية، فالمقبرة المهمة سبيل إلى ضمان الحياة اللائقة وفق الاعتقاد المصري القديم.

تمثايل لـ”وحتي” وزوجته “ميريت مين” وأبنائه الأربعة، والتي وُجدت في مقبرة سقارة

 

“ميريت مين”.. صاحبة المقبرة التي سرقها شقيقها النرجسي

لئن كان من الطبيعي أن يمجّد الكاهن “وحتي” نفسه لينقل مظاهر قوته للعالم الآخر، فإن جشعه ونرجسيته تثيران الأسئلة حقا، فقد ذُكر اسمه مرارا في المقبرة، وبلغ عدد التماثيل المُجسّدة لشخصه 55 تمثالا بحالها، وكأنّ في إمعان الرجل في تأكيد حضوره في الفضاء كشفا لغيابه عنه، أو بحثا عن اعتراف مفقود بحيازته له، وانتزاعا لشرعية امتلاكه الغائبة.

هنا تصبح اللوحة الجنائزية التي يُراد لها عادة أن تكون بطاقة هوية بشكل ما وجهة خبيري الآثار نرمين مؤمن محمد ونبيل الدلال، فعلى وجهها يُنقش اسم المتوفى وتذكر ألقابه مصحوبة برسم له يعرض شكله، ويؤكد نسبة المقبرة إليه. فيتساءلان حول هوية مرافقة “وحْتي” في هذه اللوحة، فالعُرف يقتضي أن يظهر الرجل مع زوجته، والكتابات هنا وهناك تشير إلى أنّ زوجة “وحتي” تدعى “بتاح ريت”.

أما النص الهيروغليفي فيشير إليها باسم “ميريت مين”، والتمعن في خطوط اللوحة يكشف ضربا من التطريس، فتعلو كتابةٌ كتابةً أخرى لتعدلها أو تمحوها وتحلّ محلها، وتمثال “وحتي” في المدخل يختلف بدوره عن بقية التماثيل من جهة أسلوب النحت والتشكيل، كأنه دخيل على الفضاء أنشئ في مرحلة لاحقة.

 

“أنا من بين القضاة”.. سرقات الدنيا وخداع العالم الآخر

يخلص الباحثان إلى أنّ تزويرا ما طرأ على اللوحة، ويقدران أنّ المقبرة لم تكن مخصصة له في البداية، وأنه استولى عليها، فهل هي لشقيقة المذكور على أحد الجدران؟ وهل أهدى النشيد المُدّون على الجدار لروحه في لحظة صحوة الضمير؟

وبناء على ذلك يطرحان سؤالا آخر أكثر تعقيدا، ففي الاعتقاد المصري القديم أنّ الوصول إلى الجنة يستوجب المرور أمام 42 قاضيا، ليقسم أمامهم بأنه لم يرتكب خطايا معينة كالكذب أو السرقة أو القتل، ثم يوزن القالب بعدئذ بواسطة ريشة الحقيقة والعدالة.

فعندما يرجح القلب تكون الأمارة على أنّ صاحبه كان كاذبا فيلتهمه شيطان برأس تمساح ويفنى إلى الأبد، أما إن كان القلب خفيفا يماثل ريشة الحقيقة في وزنه، فيكون دليلا على صدق صاحبه ويُفتح له باب الخلود. فكيف سيتعامل “وحتي” مع القضاة في اليوم الآخر وهو السارق؟

تتمثل العقدة هنا في كيفية مغالطة القضاة، أما حلّها فيتمثل في ذلك النصّ البارز من المدخل الذي يقول “أنا من بين القضاة”. فـ”وحْتي” حسب خبيري التراث يعمل على تضليل الروح حتى إذا ما عادت واستوطنت الجسد؛ اندست بين القضاة ليسهل على نفسه عبور اختبار الريشة، فيستفيد من مركزه، ويحقق مصلحة شخصية، وينال مباركة لا يستحقها، وينجو من عذاب الآخرة.

هكذا يعصف الفيلم بانتظاراتنا، فلطالما مثّل التراث المصري عرضا لسير أشخاص عظماء يتداخل في صورهم الحقيقي بالأسطوري الذي يُحاك حولهم، فنقف أمام عظمة الماضي بحثا عن حلول في حاضرنا كان أسلافنا قد دفنوها في تراثهم. لكن “سِرّ مقبرة سقارة” يُسقط الأقنعة عن الراهب العظيم، لنكتشف تحتها رجلا شقيا يعيش حياته وهو يقاتل طواحين الريح، لئيما تُزيّن له النفس الأمارة بالسوء السطو على أحلام الآخرين ومنجزاتهم للفائدة الشخصية، ثم لا يسعفه الوباء فيفتك بأسرته، ثم يفتك به بعد معاناة، ليسقط في الهُوّة العميقة، وتتحطّم أحلامه في قاع في البئر.

طبيبة الروماتيزم أميرة شاهين تقوم بدور المحقق الذي يحدّد الجاني والضحية، وتكشف آخر أسرار الكاهن “وحتي”

 

صرامة التأريخ وجنوح التخييل.. شراكة غير عادلة الربح

لقد كانت روح المخرج تسري على الفيلم، فتدبر مجرياته أحسن التدبير وفق حبكة تصاعدية فاتنة، فيها يتقمص خبراء الآثار وطبيبة الروماتيزم دور المحقق الذي يحدّد الجاني والضحية، وعبر هذه البنية البوليسية نكتشف البُعد التراجيدي في شخصية “وحتي”، فليس ذلك الكاهن الذي يتولى الوساطة بين الرب والبشر -كما اعتقدنا في البداية- إلا رجلا آثما تدعونا سيرته سواء تعاطفنا معه فأشفقنا عليه،  أو نفرنا منه فأدنّاه؛ إلى استحضار سلّم القيم الأخلاقية، وإلى أن نراجع سلوكنا ليتطابق مع المثالية.

لكن أين نحن من المنهج التاريخي الصارم، ومن البحث العلمي الرصين الذي لا يسلك مسلك السهولة ولا يبحث عن الإثارة، ولا يطمئنّ إلى النتائج إلا بعد فحص أكثر من مصدر ومادة، وذلك اختبارا ومقارنة واستدلالا؟

يبدو أنّ الشراكة بين العلم والفنّ لم تخدم الطرفين بالقدر نفسه، وأنّ التأريخ قد أخلى السبيل إلى التخييل المُجنح، ليصنع حكاية مؤثرة بدل أن يساعده على الإخبار عن الحقيقة، وعلى النظر فيها ودراسة أبعادها.