“بيغ فارما”.. أسرار المافيا الجشعة التي تصنع الدواء

يَدخل الوثائقي الفرنسي “بيغ فارما” (Big Pharma) إلى عالم صناعة الأدوية عبر السؤال المُقلق الذي يشغل بال البشرية الآن: متى سيتوصل العلماء إلى لقاح جديد لمرض كورونا (كوفيد 19)؟ ثم يعقبه بأسئلة أخرى: حتى لو توفر قريبا مثل هذا اللقاح، فهل سيكون بمتناول الجميع، وهل ستحدد ثمنه الدول أم الشركات نفسها؟

للإجابة على تلك الأسئلة يقترح صانعاه “لوك هيرمان” و”كلاري لاسكو” الخوض في جوانب كثيرة لا تخلو من تعقيدات تتعلق بواقع صناعة الأدوية في العالم، والذي تسيطر عليه شركات قليلة العدد لها سلطة على تحديد أسواقه وأسعاره تفوق سلطة الدول، لدرجة أنها بقوة نفوذها المالي والعلمي قادرة حتى على إخفاء التأثيرات السلبية الجانبية لأدويتها على صحة مُتناوليها، وتحديد أثمانها من دون مراعاة لحاجة الناس المرضى أو فقر الدول، فما يهم أصحابها في النهاية هو الربح فقط.

لتأكيد ذلك يقدم الوثائقي كمدخل لمتنه العميق تجربة رجل الأعمال الأمريكي الشاب “مارتين شكيرلي”، بوصفها عينة واقعية مصغرة تصلح لدعم محاولته عرض المشهد العالمي لصناعة الأدوية وشركاتها في اللحظة الآنية التي تنظر إليها البشرية كمخلّص من شرور الجائحة التي تُهددها.

“مارتين شكيرلي”.. استغلال القانون في سحق الضعفاء

استغل الشاب “مارتين شكيرلي” القانون الأمريكي الذي يُعطي لشركات الأدوية الأمريكية وأصحاب امتيازات حقوق إنتاجها؛ الحق المطلق في تحديد أثمانها، وقام بعد حصوله على حقوق حصر بيع دواء “درابريم” بشركته الخاصة والمستخدم لعلاج مرض الملاريا والالتهابات الناتجة عن الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)؛ برفع سعره خلال فترة وجيزة من 13 دولارا ونصفا للعلبة الواحدة إلى 750 دولارا.

لم يأبه صاحب الشركة إلى نداءات المرضى العاجزين عن دفع ثمن الدواء الغالي، ورغم خروجهم في مظاهرات احتجاجية فإنه أصرّ على موقفه. ففي مقابلة تلفزيونية معه قال بوضوح إنه لا يخرق النظام الرأسمالي، وإن سلوكه يتماشى مع قانون السوق، كما اعترف أن رفع الأسعار غير أخلاقي لكنه قانوني. ووضح أيضا أنه يريد الحصول على أقصى درجة من الربح، ولا يهمه شأن المرضى غير القادرين على دفع ثمنه الجديد.

أعاد بابتسامة لئيمة ترتسم على وجهه ذلك الموقف خلال استجوابه في الكونغرس، لكنه وقع في يد القضاء لجرائم اقتصادية ارتكبها، وحُكم عليه بعد إدانته بها بالسجن لعدة سنوات.

“بيغ فارما”.. ابتلاع قروش الدواء للأسماك الصغيرة

من حسنات صراحة الشاب “مارتين شكيرلي” الجارحة رغم بشاعة سلوكه وأفكاره أنه نبّه إلى ما كانت شركات الأدوية تُخفيه عن الناس طيلة الوقت، وأنها بطرق ملتوية وسرية تقوم بنفس ما يقوم هو به، وتؤمن بنفس القيم الربحية التي يُجاهر بها، لكن بهدوء من دون ضجة، وهذا ما يحاول الوثائقي كشفه.

واحدة من الحقائق التي توصل إليها صانعا الفيلم أن شركات الأدوية خلال السنوات العشر الأخيرة نجحت في مركزة عملها، إذ أضحت بعد دمج الكثير منها محصورة بعدد قليل من الشركات العملاقة التي تقدر ميزانياتها بالمليارات.

رجل الأعمال الأمريكي الشاب “مارتين شكيرلي” الذي استغل القانون الأمريكي لرفع أسعار الأدوية الخاصة بالملاريا والإيدز

فقد اشترت شركة “روتش” الأمريكية أكثر من 20 شركة إنتاج أدوية صغيرة، ومثلها فعلت شركات عملاقة أوروبية، مثل السويسرية “نوفارتيس” والفرنسية “سانوفي”، وأصبحت هذه الشركات القليلة ذات الميزانيات الضخمة كونية الطابع يُطلق عليها تسمية “بيغ فارما”.

رضيع فرنسي مشوه.. فضيحة تُلاحق شركات الأدوية

مراجعة تاريخ شركات الأدوية العملاقة يفضح سلوكيات خطيرة تتعلق بإخفائها معلومات تتعلق بالآثار السلبية الجانبية لأدويتها عن المستهلك.

يأخذ الوثائقي تجرية أم فرنسية تدعى “مارتين” كانت مصابة بالصرع، وتتناول لتخفيف نوباته دواء “ديباكين”، وأثناء حملها ظلت تتناوله بعدما أكد لها الأطباء عدم وجود آثار جانبية سلبية على الجنين، لكن بعد الولادة لاحظت على مولودها أعراض تأخر عقلي وضعف في الحركة، إذ اتضح فيما بعد أن تشويها قد أصاب دماغه نتيجة الدواء الذي كانت تتناوله.

أحد ضحايا شركات الأدوية العملاقة التي تسببت بحدوث تشوّه لهذا الطفل بعد تناول والدته دواء له آثار جانبية

لم تتوقف الأم عن فضح الشركة التي أخفت المعلومات عن الحوامل رغم علم أصحابها المسبق بالآثار السلبية الجانبية على الأجنّة، فهذا الاستنتاج أجبر الشركة الفرنسية على تأكيده بعد خمسة عقود، وأرغمها على وضع تحذيرات واضحة بالكلمات والصورة لتجنب الحوامل أخذه.

ورغم الأعداد الكثيرة للأطفال الذين أصيبوا بتشوهات خلقية بسبب جشع أصحاب الشركات وتسترهم على مخاطر أدويتهم؛ اعتبرت الأم الشجاعة أن مثابراتها قد أثمرت، وأن الملايين من النساء في العالم سوف يتجنبن المرور بنفس تجربتها المؤلمة.

تداخل المصالح.. تساهل الدول في ترخيص الأدوية

تجربة الأم الفرنسية أحالت الوثائقي لبحث آليات الدول في التعامل مع المنتجات الطبية وكيف تتساهل معها، فأغلبية الدول -وبشكل خاص الأوروبية والأمريكية- تُلزم الشركات بتقديم تقييم واضح لأدويتها المنتجة.

الأم الفرنسية التي فضحت شركات الأدوية العملاقة التي أخفت معلومات عن إحداث دواء “ديباكين” لآثار سلبية على الحوامل

عمليا ووفق ما يتوصل إليه الوثائقي عبر مقابلته لأعداد من الأطباء والباحثين، فإن مختبرات الدول ومؤسساتها الصحية غالبا ما تمرر تقييمات الشركات وتعتبرها صحيحة، ومن أسباب ذلك التساهل أن الكثير من المؤسسات الصحية ومراكز البحوث تُموِل جزءا من ميزانيتها شركات أدوية، وبالتالي يؤدي تداخل المصالح إلى حجب المكاشفة الصحيحة.

من جهة الشركات فإنها تتعكز دوما على تراخيص الدول، وعند لحظة كشف مخاطر منتجاتها على صحة الناس تقول “هذا ليس ذنبنا، لقد صرحت المؤسسات الصحية بسلامة استخدامه”. الحقيقة الأخرى تتعلق بقوة نفوذ الشركات وقدرتها على كسب القضايا المرفوعة ضدها في المحاكم. لقد رسخت خلال عقود أوهاما مفادها أن “المشتكي ضدهم سوف يخسر، وسيخسر في كل الأوقات”.

أدوية ذات علاج مزدوج.. رب ضارة مربحة

في حقل اكتشاف الأدوية والعقاقير الطبية كثيرا ما تلعب الصدفة في التوصل إلى علاج أمراض أخرى غير تلك التي خصص له الدواء المعين، لكن المفارقة لا تكمن في المصادفة العلمية، بل في استغلال شركات الأدوية لها ومحاولة منعها بكل الطرق.

يأتي الوثائقي بمثال دواء “أفاستين” المستخدم لعلاج مرض خطير يصيب العيون، وبشكل خاص بعد التقدم بالعمر، ففي البداية اعتُبر الدواء كشفا في حقل معالجة سرطان الأمعاء الغليظة، لكن الأطباء وبالصدفة وجدوا أنه يشفي أمراض العيون الخطيرة المهددة بالعمى.

دواء “أفاستين” الذي استُخدم في البداية لعلاج سرطان الأمعاء الغليظة، ثم وجد أنه يشفي أمراض العيون المهددة بالعمى

ورغم نجاح الدواء واستخدامه على نطاق واسع وتوفره بسعر زهيد، عملت شركة أمريكية عملاقة على استبداله بعقار جديد اسمه “لوسانتيس”، مكوناته الكيميائية هي نفس مكونات الدواء الرخيص تقريبا (50 دولار)، لكن الفارق بينهما أن سعر الدواء الجديد حوالي 2000 دولار، أي أكثر 40 مرة من السعر القديم.

فرنسا.. ضغط على الأطباء لوصف الدواء المربح

حجة الشركات الأمريكية فيما تقوم به من فصل “لوسانتيس” عن “أفاستين” هي أن المؤسسات الصحية الأمريكية لا تميل إلى الأدوية ذات العلاج المزدوج، وأنها تفضل التخصص.

لكن الأطباء في فرنسا ظلوا لمدة طويلة يستخدمون “أفاستين” لعلاج مرض العيون لرخص ثمنه، لكن ضغوطات الشركات العملاقة أجبرتهم على التراجع التدريجي. ففي مقابلة مع طبيب فرنسي يشرح فيها الأضرار المادية التي يسببها وجود العقار البديل، وبالأرقام فإن الفرق بين السعرين يكفي لتعيين ودفع رواتب 50 ممرضة تعمل في المستشفيات الحكومية.

وفي أمريكا فإن السعر القديم يوفر لوزارة صحتها ما قيمته ثلاثة مليار دولار سنويا. المفارقة الأخرى الناتجة من عمليات الاستبدال أن الشركات المنتجة الأولى تلتزم بما تعرضه الشركات الجديدة، ولا تقوم بالتنافس معها، والسبب وراء ذلك أنها تتشارك معها في توافق عملاق تحصل منه في النهاية أكثر من بيع دوائها بثمن رخيص.

شركة “جلعاد”.. حصاد ثمرة ما تزرعه المعاهد العلمية

إن إعطاء النظام الصحي والحكومي الأمريكي لشركات إنتاج الأدوية الحق المطلق في تحديد سعره من دون تدخلها، أو محاولة الحد منه حتى لو جاء على حساب ميزانية الدولة، أو على حساب صحة المواطن الأمريكي وغيره في بقية العالم؛ هو نظام فاسد مُفسِد.

شركة “جلعاد” التي وضعت سعرا خياليا لدواء “سوفالدي” وصل إلى 84 ألف دولار لدورة علاج واحدة

فهذا ما يدفع الشركات للاستحواذ على كل ما هو جديد ومبتكر في حقل العلوم الطبية، حيث يتسابقون على أخذ امتيازات المخترعات الجديدة، والمفارقة أن أغلبها يعود لمؤسسات الدول وليس لها، فالشركات المنتجة عادة لا تخترع الأدوية والعقارات، بل يقوم بهذا الدور المعاهد العلمية التابعة للجامعات الحكومية والمؤسسات الصحية، لكنهم في النهاية هم من يجنون الأرباح.

خطورة هذا التوجه الرأسمالي الفاضح أن بإمكانه استنزاف موارد الدول والجهات الصحية التابعة لها.

“سوفالدي”.. ألف دولار للحبة الواحدة أو الموت

يأخذ الوثائقي دواء واحدا مثالا على عبث الشركات بأسعار الأدوية التي تنتجها، وهو دواء “سوفالدي”، فبعد تمكن هذا الدواء من علاج مرض “التهاب الكبد الفيروسي سي” الذي يؤدي سنويا إلى وفاة آلاف من المرضى؛ وضعت شركة “جلعاد” العملاقة سعرا خياليا له وصل إلى 84 ألف دولار لدورة علاج واحدة، أي بمعدل 1000 دولار للحبة الواحدة.

المفارقة أن الشركة لم تخترع الدواء، لكنها حصلت على حقوق إنتاجه وبيعه في العالم، وإنما رهان الشركات على هذه النوعية من الأدوية لكونها “توقف الموت لا المرض فحسب”، ولهذا وصلت مبيعات الشركة منه حوالي 32 مليار دولار وبنسبة ربح بلغت 55٪.

شركة “جلعاد” التي وضعت سعرا خياليا لدواء “سوفالدي” وصل إلى 84 ألف دولار لدورة علاج واحدة

في أوروبا يُباع بنصف السعر، ومع ذلك يستهلك أجزاء كبيرة من ميزانية وزارات صحتها. ففي فرنسا وحدها تقدم المستشفيات الدواء لربع مليون مريض، وبسبب حجم ما تنفقه دخلت في مباحثات طويلة مع الشركة الأمريكية، ونجحت في تخفيض سعره إلى 24 ألف دولار.

ولأن هذه الأرقام كبيرة جدا على البلدان الفقيرة فقد عملت منظمة أونيتايد التابعة لمنظمة الصحة العالمية للحصول على سعر خاص من شركة “مايلان” لإنتاج الأدوية الجينية، وقد حصلت بالفعل على استثناء منها، ووافقت على بيعه بسعر 80 دولارا، بشرط أن ينحصر هذا الرقم بالدول الفقيرة والنامية ولا يشمل غيرها.

“المصالح القومية”.. دفاع كل دولة عن شركاتها

تدر الأدوية الخاصة بالأمراض المستلزمة علاجات طويلة الأجل مثل السرطان وغيرها أرباحا هائلة على الشركات، وتؤمن لها مصدرا ماليا ثابتا وطويلا، ومن خلال تحقيقات الوثائقي اتضح أن “المصالح القومية” تلعب دورا كبيرا في تشجيعها على رفع أسعارها وإبقائها في مستويات عالية.

يظهر ذلك عند مطالبة الهيئات الصحية الوطنية لهذه الشركات الكونية العملاقة بخفض جزئي لأسعار أدويتها، حينها يبدأ كل طرف قومي بالدفاع عن شركته، فالفرنسيون يدافعون عن حقوق “سانوفي”، والسويسريون عن “نوفارتيس”، والأمريكان عن شركتي “فايزر” و”جونسون & جونسون”، وهكذا مع بقية الدول.

هذا الحال سيدفع الوثائقي لطرح سؤال مستقبلي عن الجهة أو الشركة القومية  المحتملة لإنتاج لقاح في المستقبل القريب لفيروس كوفيد 19.

“ترامب” وشركات الأدوية.. تشابك المصالح الرأسمالية

ينقل الوثائقي الفرنسي الرائع مشهدا لاجتماع يظهر فيه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” وهو يستقبل مدراء كبريات شركات إنتاج الأدوية في العالم، ويستمع إلى ما توصلت إليه شركاتهم من نتائج لاكتشاف أدوية تضع حدا للوباء.

ومن بين كل المعروض ركز الرئيس على عقار “ريمديسيفير” الذي لم تثبت التجارب الأولية فعاليته، ومع ذلك جرى العمل على تقريب شركة “جلعاد” من (مؤسسة الأدوية والأغذية الأمريكية) ليكون لها السبق في كل اتفاقية قادمة.

الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” يهنىء المدير التنفيذي لشركة جلعاد لاحتكارها حق إنتاج دواء لكورنا لمدة سبع سنوات قادمة

وبالفعل حصلت الشركة على حق “احتكار” إنتاجه لمدة سبع سنوات قادمة، وبدورها طلبت في خطوة استباقية -للسيطرة على السوق المستقبلية الواعدة- وزارة المالية بتخفيض ضريبي “استثنائي”.

المفارقة أن جمعية المستهلك الأمريكية رفضت طلب التخفيض، إلا أن مؤسسة الأدوية ظلت تروج له، والسبب -كما يكشف الوثائقي- أنها سنويا تحصل من الشركة على دعم مالي مُجزٍ، لذلك فإنها لا تقوى على رفض طلباتها.

في السياق ذاته ينقل الوثائقي مشهدا آخر يظهر فيه “ترامب” وهو يستقبل المدير التنفيذي للشركة، ويبلغه بحصولها على تصريح رسمي وشهادة سلامة استخدام عقار “ريمديسيفير” لعلاج كوفيد 19 مستقبلا، مما يشير إلى شدة ترابط المصالح الرأسمالية والشخصية مع أصحاب شركات إنتاج الأدوية الكبرى، وبشكل خاص الأمريكية التي تجد الطريق أمامها مُعبّدا لرفع سقف أسعار أدويتها إلى أعلى المستويات، من دون التفات إلى حاجة الناس في كل مكان لدواء رخيص يجنبهم الموت مرضا.