ألعاب في ساحة المعركة.. رياضة برائحة البندقية

خلال الحرب العالمية الثانية وعلى بعد بضعة أميال فقط من ساحة المعركة، كان هناك جنود يلعبون كرة القدم ويمارسون رياضة الجري والقفز والملاكمة، ويكتشفون أنواع الرياضات البدنية، وبذلك ساعدتهم الرياضة على نسيان كل مشاهد العنف والموت.

المفاجئ هنا هو أن الحرب الكبرى لعبت دورا هاما في تاريخ الرياضة، تاريخٌ وضع لبناته الأولى جنود من كل أنحاء العالم، من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وأستراليا ونيوزيلندا وإيطاليا، فقد مارس هؤلاء الجنود الرياضة كما لم يمارسها أحد من قبل، حتى أصبحت الرياضة في تلك الحقبة أسوأ وأكبر متنفس إبان حروب القرن العشرين.

نستعرض فيما يلي فيلم “ألعاب في ساحة المعركة” والذي يبحث في علاقة الحرب العالمية الثانية بالألعاب الرياضية وتطورها فيما بعد ذلك، وكيف أصبحت الرياضة متنفسا للجنود في معمعان المعركة.

المعركة الكبرى بدأت

في بداية القرن الماضي كان قلة من الأوروبيين فقط هم من يمارس الرياضة، فقد كان الاستمتاع بأوقات الفراغ حكرا على علية القوم فقط. وفي صيف 1914 كان الفرنسيون ينتظرون دورة طواف فرنسا على الدراجات الهوائية التي تنظمها جريدة لوتو أشهر الصحف الرياضية في فرنسا، وهي ملحمة من 15 جزءا ستدخل التاريخ لعدة أسباب، وقد أعلنت بدء الدورة في صفحتها الرئيسية عبر العنوان التالي: المعركة الكبرى بدأت.

أثناء عبور المتسابقين من مدينة آبيفيل في العاشرة والربع ضُحى في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران قام شخص بقتل ولي عهد الإمبراطورية النمساوية وزوجته في سراييفو، وذلك أمر لا يعبأ به المتسابقون كثيرا، إلا أن الحرب اندلعت في أقل من شهر واحد بسبب العلاقات الدبلوماسية وصراعات المناصب، ليجد المتسابقون أنفسهم يترجلون عن دراجاتهم لينخرطوا في صفوف الحرب.

حينها كتب محرر صحيفة لوتو وراعي سباقها هنري دي غراند: أبطالي الصغار الأعزاء، أبطالي الفرنسيين، استمعوا إليّ، هؤلاء البروسيون أوغاد، عليكم أن تنالوا منهم وإلا نالوا منكم، أمامكم مباراة حاسمة لتلعبوها، لكن احترسوا، فعندما تتمكنون منهم في نهاية المعركة سيتوسلون لكم أن ترحموهم، لا تصغوا إليهم بل ابطشوا بهم دون رحمة، تخيلوا كيف سيتنفس العالم الصعداء إن انتصرتم، هذا أمر يعود إليكم يا أبطالي الصغار، يا أبطالي الفرنسيين.

أصبحت الرياضة متنفسا للجنود في معمعان المعركة
أصبحت الرياضة متنفسا للجنود في معمعان المعركة

 

مغلق من أجل الحرب

بعد ثلاثة أشهر من الحرب الدامية دخل موسم الشتاء، وقد اختار معظم الرياضيين المشاركين في الحرب أن يكونوا على خط الجبهة، وكم تساقط منهم هنالك من الشجعان والمجهولين، ومن أولئك الرياضيين النجم الرياضي اللامع جون بوان الذي أحرز الميدالية الفضية في أولمبياد أستوكهولم في سباق الخمسة آلاف متر، وقد سقط في معركة دارت رحاها في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول عام 1914، عن عمر ناهز 26 عاما.

وضعت الحرب نهاية لأحداث رياضية قادمة، مثل دوري الرغبي الخامس للأمم، وأولمبياد برلين عام 1916، لكنها لعبت في الوقت نفسه دورا في تطوير العديد من النشاطات الرياضية، مما أنتج دفعة جديدة من الرياضيين ما بين الجنود والطبقة العاملة نشأت في حقول الترفيه واللهو والألعاب التي كان يسلي بها الجنود أنفسهم من أجل التحصن ضد أسوأ أعدائهم في الحرب، ألا وهو الملل.

كان الترفيه من أجل التعويض عن العطلة الموعودة التي طالما أخلفت مواعيدها، وإنما كان يتم الاكتفاء بالتناوب على الخطوط الأمامية والخلفية بين الجنود أثناء الحرب تغييرا للنمط وتخفيفا عنهم، وفي بعض المقاطع المصورة يظهر جنديان يعبثان أمام الكاميرا ويشهران السلاح في وجهها في محاولة ربما لقتل الوقت.

كانت الرياضة عونا للجنود على نسيان الحرب
كانت الرياضة عونا للجنود على نسيان الحرب

 

أمل ينبثق من عمق الألم

كان بعض الجنود المحبين للألعاب الرياضية يحضرون كرة القدم ليلهوا بها حين يكونون في الصفوف الخلفية، وآخرون يلعبون الرغبي، وغيرهم يسبحون أو يمارسون الملاكمة، وأما من لم يكن يعرف شيئا من كل هذا فكان زملاؤه العارفون بها يعلمونه، حتى أصبحت الأجواء أجواء لهو ومرح على بعد كيلومترات قليلة من موقع المواجهة، الأمر الذي كان يبعث في نفوسهم أملا جديدا.

يقول العريف أندايون عن لحظة من لحظات الحرب “من المريح جدا لعب الرغبي بين الفينة والأخرى، هذا لا يتعب الرجال بل يحفظ طاقاتهم ويحرك مفاصلهم، وهذا ما يحتاجون إليه بالفعل، كما أن التواصل مع الرفاق أمر مهم جدا”.

كانت الرياضة عونا للجنود على نسيان الحرب، فقد كانوا لا يملون منها، حتى اقترح بعض الضباط الشباب المتحمسين استبدال التمارين العسكرية بالرياضة، ولقد كانت القيادة العليا تدرك أن ذلك سيسهل الحياة على الجنود، فوافقت على ذلك، وأعادت تلك الحركية إلى الجنود شعورهم بإنسانيتهم من جديد، لكن طيف المتعة هذا لا يعمر طويلا، فإنما هو استراحة قصيرة من الحرب يخلع بعدها الجنود المشاة ثياب اللهو ويعودون إلى ثياب الحرب.

كان الترفيه من أجل التعويض عن العطلة الموعودة
كان الترفيه من أجل التعويض عن العطلة الموعودة

 

إحساس صادق وآخر كاذب

في ربيع عام 1915 تم استدعاء عضو من فصيل لوكسمبورغ يدعى فرانسوا فابيير إلى منطقة آرغوا في فرنسا، وكان هذا الرجل قد فاز في دورة طواف فرنسا عام 1909، وفاز بمرحلتين من دورة عام 1914، ثم انضم إلى الفيلق الأجنبي، وعندما علم بأنه أصبح أبا لطفلة في الثامن من مايو/أيار 1915 كتب إلى زوجته وهو على الثغور قائلا “نعم لقد كنتُ على حق، إحساسي لا يخطئ أبدا، أترين؟ إنها فتاة، كيف حالها؟ كيف سار كل شيء؟ كيف حالك؟ أعتقد أن الهجوم الكبير سيحدث قريبا، نحن هنا في المعسكر على أهبة الاستعداد، ولا أظن أن الجنود الألمان سيستمتعون بذلك، إنني أشعر بالثقة، وآمل بالانتهاء من كل هذا. من زوجك الذي يحبك”.

لكن إحساس فابيير لم يكن دائما صادقا، فلقد زلت قدم حظه في اليوم الموالي عندما بدأ الهجوم، فسقط قتيلا تحت نيران العدو دون أن يعود إلى فتاته الذي صدق إحساسه فيها، وكان يبلغ حينئذ 28 عاما.

كان بعض الجنود المحبين للألعاب الرياضية يحضرون كرة القدم ليلهوا بها حين يكونون في الصفوف الخلفية
كان بعض الجنود المحبين للألعاب الرياضية يحضرون كرة القدم ليلهوا بها حين يكونون في الصفوف الخلفية

 

من أجل المعنويات

في عام 1916 بعد معركة فردان ومعركة السوم كانت الحياة الطبيعية بعيدة المنال، وقد توقفت الرياضة فجأة بسبب شدة الحرب، وكان الإنجليز هم من أعادوها إلى الساحة، وكان ذلك أمرا مهما لمعنويات الجنود، وهم رجال بحاجة ماسة إلى رفع المعنويات، فقد كان كل جندي يذهب إلى الجبهة يغرق في العزلة الكئيبة التي ترافق مواجهة الموت، أما أولئك الذين كانوا في عطلة مؤقتة عن البنادق فقد كانوا يلعبون كرة القدم كنشاط ترفيهي، ثم أصبحت تمارس بشكل رسمي في ملاعب كرة قدم مناسبة وبأدوات مخصصة لها وفرق ذات ملابس مختلفة، لكن حين تكون على مقربة من الجبهة فلا تكون الرياضة أكثر من مجرد وسيلة لنسيان الحرب.

يقول أحد الضباط “في بعض الوحدات يمارسون كرة القدم وينظمون المباريات، وينضم إليها الضباط الكبار، وهي ممتازة لمعنويات الرجال، وفي مكان آخر هناك حلبات ملاكمة والعديد من المتحمسين لممارسة الرياضة النبيلة”.

اقترح بعض الضباط الشباب المتحمسين استبدال التمارين العسكرية بالرياضة
اقترح بعض الضباط الشباب المتحمسين استبدال التمارين العسكرية بالرياضة

 

معركة فردان

حين صمتت البنادق في معركة فردان كانت النتيجة قتلى وأحياء، حزن وخوف، وخنادق كان عليهم المخاطرة في بعض الأحيان ومغادرتها، كان كل الجنود يفكرون بالأمر نفسه، كان الأمر سباقا ضد الزمن، سباقا ضد الموت، كانوا يركضون في الفضاء المكشوف تحت القصف، إنها خطة وضعت بدم بارد على بعد أمتار من الجبهة، ثم أوقد عليها بانتظار إطلاق رصاصة البدء.

سوّت المعركة فردان بالأرض، لكن ماذا عن سلامة من انخرطوا بالحرب التي لا يلوح لها في الأفق خط نهاية؟ حسبك أنهم كانوا حتى تلك اللحظة على الأقل أحياء، فقد كان الجيش يفقد رجاله شيئا فشيئا، لذلك طلبوا تعزيزات لبى نداءها أفراد عصابات في أعمار تحت العشرين، ذوو شوارب وعضلات تدل على معدن الفحولة والرجولة في تلك الحقبة، ثم يقومون بتدريبهم على الجري والقفز والتسلق واستخدام الحراب، فتلك رياضات الحرب التي تحولت فيما بعد إلى بطولات رسمية إضافة إلى رياضة رمي القنابل، فقد أدرجت فيما بعد في المسابقات الرياضية بناء على طلب هؤلاء الرياضيين الشباب، وكان أبطالها تصل قنابلهم 54 مترا تقريبا بسرعة ودقة كبيرتين، وكان في إمكانهم رمي 45 قنبلة خلال 60 ثانية.

يقول أحد الضباط “رمي القنابل رياضة حقيقية تجرى في بطولات حقيقية، إنها جزء مهم في تدريباتنا الرياضية؛ لأننا بحاجة إلى رجال ذوي بنية ممتازة وتدريب ممتاز بنفس قوي وجَلَد كبير. لقد كانت هذه الميزات التي يتمتع بها رياضيونا الشباب مهمة جدا في معارك القنابل”.

كان القائد العسكري يشجع جنوده التوميز على ممارسة الرياضات من أجل تدريباتهم البدنية ورفع معنويات المجموعة
كان القائد العسكري يشجع جنوده التوميز على ممارسة الرياضات من أجل تدريباتهم البدنية ورفع معنويات المجموعة

 

التوميز

في بداية الحرب كان الجنود البريطانيون هم من كسبوا احترام الجميع، كان الناس معجبين بهم وبشجاعتهم، وكانوا يطلق عليهم لقب التوميز، وقد جاء منهم عدد كبير يصل إلى أربعة ملايين يحملون الكثير من القوة العسكرية على ظهورهم واللياقة في عضلاتهم والروح الرياضية في نفوسهم.

كان القائد العسكري يشجع جنوده التوميز على ممارسة الرياضات من أجل تدريباتهم البدنية ورفع معنويات المجموعة، وهذا الموقف أثر في ضباط الجيوش الأخرى، فلعل الجندي الرياضي يكون مقاتلا أفضل.

في مطلع يوليو/تموز اندلعت نيران معركة سوم الكبرى التي اشتهرت بما ظهر فيها من اللياقة البدنية العالية للجنود
في مطلع يوليو/تموز اندلعت نيران معركة سوم الكبرى التي اشتهرت بما ظهر فيها من اللياقة البدنية العالية للجنود

 

معركة سوم

في مطلع يوليو/تموز اندلعت نيران معركة سوم الكبرى التي اشتهرت بما ظهر فيها من اللياقة البدنية العالية للجنود، وبالمآسي الإنسانية الموجعة أيضا، ففي هذه المعركة عرض النقيب البريطاني نيفيل مكافأة لمن يصل إلى خطوط العدو وهو يركل كرة قدم، وكلما سقط جندي تناول الكرة من بعده آخر.

أما النقيب نفسه فلم يكتب له أن يرى رجاله يسلبون الألمان شيئا، ففي اليوم ذاته كان في عداد الجنود البريطانيين الذين ماتوا في هذه المعركة ويبلغ عددهم عشرين ألفا، فكانت تلك أسوأ لحظات الجيش البريطاني.

قتلت الحرب الكثيرين وشوهت الكثيرين أيضا، فمنهم من اخترق الرصاص وجهه ولسانه، حتى أصبحت وجوههم مصطبغة بصبغة الحرب إلى الأبد، ومن هؤلاء الجندي البريطاني أوجي كريكي الذي عثر عليه في ساحة المعركة على حافة الموت مهشم الفك الأسفل، لكنه تعافى بعد عامين من العمليات الجراحية والعلاجات وعاد إلى عمله قبل الحرب كملاكم، رغم نصيحة الأطباء له بعكس ذلك، وقد نجح بالفعل في العودة إلى حلبات الملاكمة وحصد الجوائز، ففي عام 1923 أصبح بطل العالم في وزن الريشة، ليطلق عليه لقب الفك الحديدي.

استمرت معركة سوم أربعة أشهر، وخلفت من ورائها 450 ألف قتيل، فأقام قسيس الصلاة الأخيرة على هؤلاء القتلى بين القفار، حيث لم يبق في تلك الربوع شيء، لا إعمار ولا طبيعة ولا مكان ولا أحياء تقريبا، لكن قلة الأحياء غلبت كثرة الأموات، فكرموا أجسادهم بدفنها جميعا بما في ذلك الجنود الألمان، رغم التقاطهم لبعض الصور التي لا تنم عن كبير فخر.

كان بعض الجنود يلعبون الرغبي، وغيرهم يسبحون أو يمارسون الملاكمة
كان بعض الجنود يلعبون الرغبي، وغيرهم يسبحون أو يمارسون الملاكمة

 

رغبي الحرب

قام الفرنسيون بتنظيم مباراة رغبي بين الجنود الفرنسيين والنيوزيلنديين الذين كانوا في عطلة عن القتال في مدينة فانسين شرق باريس، وقد قامت السلطات الرياضية بالترويج للمباراة التي حضرها 60 ألف متفرج، وقد خسرت فرنسا مقابل نيوزيلندا خسارة مدوية في هذه اللعبة التي قاد الفريق الفرنسي فيها النقيب موريس بووايا، وهو بطل الطيران الذي خسرته فرنسا بعد ستة أشهر في الحرب.

لقد دفع فريق الرغبي الفرنسي أكبر ثمن في الحرب، حيث إنها لم تسمح لـ120 من أفضل لاعبي الرغبي الفرنسيين بالعودة إلى الوطن.

تمرد على الجبهة

عام 1917 تعرض الحلفاء إلى هزيمة مدوية أفقدتهم مئتي ألف جندي خلال شهرين فقط، أما الباقون فقد شعروا بالاكتفاء من الحرب بعد ثلاث سنوات من القتال، فقد خامرهم شعور أنهم مجرد خراف للذبح في حروب القوم التي لا تنتهي، وضاقوا ذرعا من الفئران، والطعام السيئ القليل، وصعوبة الحصول على العطلة.

بدأ التمرد يتنامى في صفوف الجنود كما أخبر بذلك أحد أفراد كتيبة المشاة 36 الذي يقول في رسالة له “رفضنا الذهاب إلى خطوط العدو ليلة الثلاثاء، لم نرغب في التقدم، كانوا يعتبروننا أغبياء، ولم يكن هناك طعام كاف، كنا في حالة إضراب، وقامت بعض الفرق الأخرى بالشيء نفسه، قد لا تصلكم هذه الرسالة، وربما فتحوها وأحرقوها لأنها تصف ما حدث، أنا لا أكترث، لقد اكتفيت من حروبهم”.

تولى الجنرال فيليب بيتان قيادة الجيش الفرنسي، وقام ببعض التحسينات في الظروف المعيشية التي تحيط بالرجال في الجبهة وخلف خطوط المواجهة، وقد تمكن من إخماد جذوة التمرد داخل صفوف الجيش، ومنذ ذلك الحين أصبح الجنود على الجبهة يجدون ثلاثة أيام للاستراحة من حمل البنادق، وانتعشت الأنشطة الرياضية بمبادرة من كبار الضباط الذين سمحوا لرجالهم بممارسة الرياضة دون أي قيود، الأمر الذي كان مفيدا في بنية الجنود الجسدية وحالتهم النفسية، ومن إجراءات تلك السياسة أن وزير الحرب أمر بإرسال خمسة آلاف كرة قدم إلى الجنود.

كانت الأحداث الرياضية الكثيرة جزءا في موجة كبيرة من الروح الوطنية
كانت الأحداث الرياضية الكثيرة جزءا في موجة كبيرة من الروح الوطنية

أبطال السماء

لقد جذب الطيران الحربي أبطال التحليق للالتحاق بالطيران، حيث أصبح التحليق فنا من فنون الحرب بعد أن كان يعد مجرد رياضة، وفي العام 1916 تم تدريب راكب الدراجات أوكتاف لابيز على القتال الجوي، فكانت جرأته في التحليق واضحة لشجاعته المكتسبة من هواية التسلق التي كان يمارسها.

فاز بمسابقة طواف فرنسا عام 1910، وهي المسابقة الأولى التي تضمنت مرحلة تسلق جبال بيريني، وعندما وصل لابيز إلى مكان مرتفع صرخ بغضب بالغ في وجوه المنظمين قائلا: أنتم قتلة.

في 14 يوليو/تموز 1917 تحطمت طائرة لابيز أثناء مهمة طيران عن عمر ناهز الثلاثين ربيعا، ليصبح بذلك بطلا حقيقيا بعد أن كان بطل ركوب دراجات في حياته؛ وقد كتبت عنه صحيفة فرنسية ما يلي: مات لابيز كغيره من أبطالنا الكثيرين ميتة مشرفة، لقد فقدنا بطلا من أبطالنا، بطلا من أفضل رجالنا، رياضيا متكاملا رائعا وذكيا أيضا، كلنا مفجوعون بموت لابيز.

المليونية الأمريكية

بعد صيف 1917 وصل مليونا جندي أمريكي إلى المعركة بمعداتهم العسكرية المميزة، وهاماتهم الحليقة، وصدورهم العارية، وأموالهم الوفيرة، وكان الفرنسيون يطلقون عليهم اسم ساميز، ويرافقهم أكثر من ألف جندي أفريقي أمريكي، لكنهم ليسوا للقتال، بل للمهمات اللوجستية، فتلك طريقة الولايات المتحدة في منع صعود أبطال حرب من السود.

قام الأمريكيون بإحضار أمريكا مصغرة معهم إلى الأراضي الفرنسية، فبنوا من الثكنات 1500 ثكنة على امتداد خطوط الجبهة، يدخنون فيها سجائرهم ويقرؤون كتبهم ويمضغون علكتهم، كما أحضروا معهم لعبتهم الرياضية كرة السلة التي انتشرت فيما بعد في أوروبا ولعبة البيسبول التي بقيت أمريكية بحتة لا رواج لها في أوروبا.

فقد الجيش الأمريكي ما بين يونيو/حزيران 1917 ونوفمبر/تشرين الثاني 1918 حوالي 120 ألف جندي في المعارك، وعندما انتهت الحرب تركت أمريكا بقدرتها على المنافسة وعلى ممارسة الألعاب آثار ثقافتها الرياضية على القارة العجوز.

كانت الدعايات تهدف إلى إبلاغ الناس أن هؤلاء الجنود الذين يلعبون قادرون على القتال في الخنادق في الظروف الصعبة
كانت الدعايات تهدف إلى إبلاغ الناس أن هؤلاء الجنود الذين يلعبون قادرون على القتال في الخنادق في الظروف الصعبة

باريس النابضة

عام 1917 كانت أتون الحرب تشتعل على الجبهة، وكانت الكثير من القرى محطمة مهجورة بفعل الحرب لا يتحرك في أرجائها إلا الرياح، لكن مدينة باريس كانت ذات حركة دائبة سلما وحربا، فلم تتوقف أبدا عن الحركة، ولم يكن فيها من الجنود إلا من قدموا من أجل العطلة، لتغمرهم باريس بحركتها النابضة بالحياة.

كانت الأحداث الرياضية الكثيرة جزءا في موجة كبيرة من الروح الوطنية، لكن جهود الحرب وأجواءها كانت تهيمن على ذلك، فقد كانت كل الدعايات تهدف إلى إبلاغ الناس أن هؤلاء الجنود الذين يلعبون قادرون على القتال في الخنادق في الظروف الصعبة.

في العام الموالي زاد جمهور الرياضة وزادت مسابقاتها، حتى أجريت الألعاب الأولمبية في كولومب قرب باريس، وهي أكبر لعبة أقيمت أثناء الحرب، حيث تنافس فيها البريطانيون والأمريكيون والإيطاليون والبرتغاليون والفرنسيون، فكانوا بذلك يخطون خطوة متواضعة في طريق الرياضة الطويل، وأما الجنود فقد كان ذلك بالنسبة لهم قضاء وقت ممتع بعيدا عن الخنادق والبنادق والأمراض والموت.

كأس فرنسا لكرة القدم

لا شك في أن الحرب العالمية بأعوامها الأربعة كانت كارثة اقتصادية كبرى للعالم، لكن من رحم هذه الكارثة انبثق حدث رياضي كبير، ألا وهو كأس فرنسا لكرة القدم الذي شارك في أول دورة له 48 فريقا، وقد حملت تلك الدورة اسم شارلز سيمون الذي مات في الحرب عام 1915 تخليدا لاسمه وتقديرا لجهوده، فقد كان من محبي كرة القدم، كما أنه أسس قبل الحرب نواة لاتحاد كرة القدم الفرنسي.

وقد أقيمت المباراة النهائية للكأس بباريس في الخامس من مايو/أيار عام 1918 أمام ألفي متفرج، وقد هزم فريق أولمبيك دي بانتان صاحب الزي الأبيض نادي دي ليون لكرة القدم، بنتيجة ثلاثة أهداف دون مقابل، وكان أغلب المشاركين في المسابقة هم من فئة صغيرة في السن، بينما كان الكبار يقاتلون في الميدان.

من بين قتلى الحرب كانت تشع الآلاف من الأسماء الشهيرة التي خسرها عالم الرياضة
من بين قتلى الحرب كانت تشع الآلاف من الأسماء الشهيرة التي خسرها عالم الرياضة

حواء الرياضية

عام 1917 أجريت في باريس مباراة كرة قدم نسائية بحتة بين فريقين من نادي فيمينين، وكانت الفتيات اللاتي شاركن فيها من عائلات مرموقة، ذهب أشقاؤهن إلى الحرب فخلت لهن الملاعب وحلبات السباق وغيرها.

وقد شهد هذا العام والذي يليه بداية المسابقات النسوية في الرياضات الأولمبية وكرة القدم والعَدْو، لكن الأطباء حينها رأوا أن ذلك مضر بالنسوة اللاتي يمارسنه، ويبدد فرصهن للإنجاب، حتى إن بيير دي كوبرتان عراب الألعاب الأولمبية لم يشجع ذلك رغم عدم الاعتراض التام عليه؛ حيث يقول “دور النساء يجب أن يقتصر كما في البطولات القديمة على تتويج المنتصرين، لا أرى بطل الأولمبياد الحقيقي إلا رجلا بالغا”.

ورغم ما قاله البارون دي كوبرتان، فقد شهد 12 ألف متفرج بعد الحرب مباراة نسوية بالكامل بين فريق منتخب من أفضل لاعبات فرنسا وفريق إنجليزي من بريستول.

أخوّة المنتصرين

في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 أعلنت الهدنة وخرست حناجر البنادق، فعمت أجواء الفرح في باريس، لكن الدموع ذرفت غزيرة بعد ذلك حدادا على أرواح 18 مليون جندي ومدني فقدوا أرواحهم في الحرب، ومع نهاية العام كان الجنود الذين لا يزالون في حالة تعبئة وترقب يلعبون كرة القدم، وينشرون المرح بالموازاة مع الاستعداد للقتال المحتدم.

من بين قتلى الحرب كانت تشع الآلاف من الأسماء الشهيرة التي خسرها عالم الرياضة، لكن السنوات التالية كانت من أعظم السنوات التي شهدتها أوروبا في المجال الرياضي على الإطلاق، وكان أول حدث رياضي يعقب الحرب هو ألعاب الحلفاء في باريس الذي يمثل النسخة العسكرية من الأولمبياد، وقد تم تقديمها على أنها ألعاب لتعزيز الأخوة، لكنها على ما يبدو كانت أخوة المنتصرين فقط، حيث لم يتم استدعاء الدول الخاسرة في الحرب للمشاركة في الألعاب.

كان الأمريكيون هم من موّل بناء الملعب الذي يحمل -تيمنا- اسم الجنرال برشينغ قائد الجيش الأمريكي أثناء الحرب، كما قام بتقديم الميداليات بنفسه للفائزين، وقد احتل جنود الجنرال برشينغ المراكز الأولى في الألعاب متقدمين على فرنسا وإيطاليا.

حظيت الرياضات بشكل عام بعد الحرب بحقبة ازدهار وشعبية
حظيت الرياضات بشكل عام بعد الحرب بحقبة ازدهار وشعبية

طواف فرنسا

عندما عادت مسابقة دورة طواف فرنسا عام 1919 تغير مسارها قليلا بفضل الحرب، فقد أصبحت تمر عبر الألزاس واللورين المنطقتين اللتين كانتا قابعتين تحت السيطرة الألمانية، ثم عادتا إلى السيادة الفرنسية مجددا، وكان عدد المشاركين عند انطلاق المسابقة لا يتجاوز 69 متسابقا، وقد فاز بالسباق البلجيكي فيرنال لامبو الذي احتفلت به الجماهير أمام حديقة الأمراء بباريس في 27 يوليو/تموز 1919.

خلال الحرب تحدث راكب الدراجات الفرنسي بيتي بريتون عن مستقبل مزهر لرياضة ركوب الدراجات قائلا “تعلم الرجال معنى المعاناة، سيتذكرون معاناتهم في الخنادق، وهذا ما سيمنحهم القوة، عندما يحل السلام سيكون الكل مسرورا بالعيش دون خوف ودون ندم، وسيبدو كل شيء بسيطا وسهلا، حينها ستعيش رياضة ركوب الدراجات عصرها الذهبي”.

بطل الرياضة لا الحرب

حظيت الرياضات بشكل عام بعد الحرب بحقبة ازدهار وشعبية، ولم تعد حكرا على الأقلية بل أصبحت متاحة لكل الطبقات الاجتماعية، بما في ذلك النساء والصغار أيضا، بينما حظيت كرة القدم بشكل خاص بالحصة الأكبر من الشعبية، حيث أصبحت الرياضة الأولى التي يفضلها الجميع، والتي كانت من أهم موروثات الحرب الكبرى.

بعد الحرب أصبحت الملاعب تحتضن المباريات، وأصبح الجسم البشري قادرا على تحقيق الانتصارات الرياضية بدل العسكرية، كما تم استبدال بطل الحرب ببطل الرياضة في أذهان الحشود.