“دماء على نهر السين”.. جثث جزائرية تجسد تاريخا أسود في عاصمة الأنوار

هناك على ضفاف نهر السين حدثت المجزرة بوحشية تقشعر لها الأبدان، نفذت الشرطة الفرنسية المذبحة التي راح ضحيتها مئات الجزائريين العزل ظلما وغدرا عام 1961، وبذلت باريس كل ما بوسعها حتى تبقى طي الكتمان، لكنها ظلت حاضرة في ذاكرة الجزائريين.

 

في هذا الفيلم الذي تبثه قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “دماء على نهر السين”، يغوص المخرج المغربي مهدي بكار بعمق في تفاصيل هذا الحدث المهم في الذاكرة الجزائرية، من خلال شهادات ضيوف من قلب الحدث.

في هذه الحادثة البشعة أعدمت قوات الأمن الفرنسية بدم بارد مئات الجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات مطالبين بحقوقهم، واحتجاجا على أوضاعهم الإنسانية المتردية.

“لا ينفع معهم غير الضرب”.. عنف المنفى وثورة الوطن

في فرنسا وتحديدا في العاصمة باريس، عاش المهاجرون الجزائريون في أحياء القصدير حياة بائسة معدمة، كانت تلك الأحياء المهمشة نتاجا طبيعيا للاكتظاظ، فقد كان المهاجرون يدفعون قسرا للعيش في هذه الأحياء.

وينسحب هذا أيضا على اللاجئين في أحياء كثيرة افتقدت إلى أبسط سبل العيش، إلا أن سكانها كانوا مترابطين فيما بينهم، وشعروا بضرورة تنظيم أنفسهم من أجل تحسين وضعهم. لقد عاشوا تجارب مريرة، وكانوا يتعرضون للضرب بحجة أنهم عرب، وتحت قاعدة أنه “لا ينفع معهم غير الضرب”.

أحياء القصدير التي كان يعيش فيها مهاجرو الجزائر في فرنسا

 

كان للمهاجرين الجزائريين حظهم في الثورة ضد المستعمر الفرنسي، فنظموا أنفسهم في فعاليات كثيرة داخل فرنسا، بهدف التخفيف عن أشقائهم في الوطن، ومع انطلاق الثورة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، تحولت الأمور لتصبح أكثر عنفا وقمعا.

هنا ظهر اسم الضابط الفرنسي ذو السمعة السيئة “موريس بابون” رئيس شرطة باريس، وقد اشتهر بوحشية لا نظير لها، ونزعة عنف قاد من خلالها فرق الموت التي سحقت المظاهرات بلا هوادة. ووفق ما تحدث به ضيوف الفيلم، فقد جيء به من قسنطينة إذ كان يعمل نائبا لحاكمها، وعُيّن آمرا للشرطة في باريس، وكان صاحب تجربة واسعة، وشارك في قمع الانتفاضات التي شهدتها الجزائر والمغرب وحتى في سوريا قبل ذلك.

الضابط الفرنسي موريس بابون رئيس شرطة باريس الذي قاد حملة إعدام الجزائريين في أكتوبر/تشرين أول 1961

 

جاء إلى منصبه ومعه تقنيات جديدة، وقد اختارته فرنسا لأنها أرادت رجلا قويا ومتخصصا بالقمع الاستعماري، وساعده في ذلك عناصر “الحركي” الذين كانوا يسمون “القبعات الزرقاء”، وقد جاء بهم حتى يواجهوا الجزائريين، وهذا تخطيط استعماري مفضوح ومعروف منذ البداية، حتى تكون حربا جزائرية على أرض فرنسا.

عناصر الحركي.. معركة إبادة الشعر الأجعد والعيون السود

كان عناصر الحركي يعرفون مخابئ المهاجرين الجزائريين، وقد كانوا عنيفين للغاية بطريقة مبالغ بها في كل الدوائر في العاصمة باريس، جيء بهم لتنفيذ الأعمال القذرة، وحتى يتحملوا وزر الممارسات العنيفة في حق المهاجرين، وفي كثير من الأحيان حملتهم الشرطة الفرنسية المسؤولية عن كثير من الانتهاكات البشعة.

استلهم “موريس بابون” وبعض المسؤولين في الشرطة معركة الجزائر في التعامل مع ما وصف بأنه معركة باريس، واستخدموا التعذيب الذي كان يصل إلى حد القتل خلال استجواب جزائريي فرنسا -حتى قبل المجزرة- وظهرت كثير من جثث الجزائريين في غابات السين وغابات بولوني.

كانت ممارسات الشرطة هذه جزءا من سياسة واسعة تبتغي فرض القوة وإشاعة الخوف، لقد أخذوا كثيرا من المعتقلين الجزائريين إلى أماكن بعيدة، حيث تعرضوا للاعتداء الجسدي وتُركوا ليموتوا، وألقي بعضهم في نهر السين.

معتقل جزائري ربطته الشرطة الفرنسية بجذع شجرة وتركته حتى يموت

 

وبحسب شهادات من تحدثوا في الفيلم، فقد كان هذا نهجا متكررا، حتى أن الإحصاءات والبيانات التي قدمت قبل يوم المجزرة أثبتت أن عدد الجزائريين الذين قتلوا خلال الأسابيع التي سبقت تاريخ 17/ أكتوبر 1961 فاق بكثير عدد الذين قتلوا في ذاك اليوم المشؤوم.

فقد كانوا يستهدفون ويعتقلون كل من يمتلك شعرا أجعد وعيونا سوداء، باختصار كل من يشتبه به أنه عربي جزائري، كانوا يخضعونه للتحقيق ثم التعذيب، وأحيانا حتى الموت.

تصفية السفاحين.. قواعد الدفاع عن النفس في جبهة التحرير

في الجهة المقابلة قدم المجلس الفيدرالي لجبهة التحرير الجزائرية في فرنسا عددا ضخما من التقارير حول ما كان يحدث معهم من قبل عناصر الحركي، وهنا قرر قادتهم الدفاع عن أنفسهم بكل ما يستطيعون من قوة، وكيفما أرادوا وفي الوقت الذي يختارون، كان هذا فيما يتعلق بالتعامل مع عناصر الحركي الذين جيء بهم خصيصا للقضاء على جبهة التحرير وتصفية عناصرها في فرنسا.

عنصر من جبهة التحرير الجزائرية يغتال شرطيا فرنسيا

 

أما فيما يتعلق بالرد على عناصر الشرطة الفرنسية، فكان لا بد للحصول على موافقة، وتحديد تلك العمليات فقط ضد رجال الشرطة الأكثر عنفا، لذا فإن رجال الشرطة الذين قتلوا في حرب التحرير الجزائرية نادرا ما كان يقع اختيارهم عشوائيا.

في كل مرة كان يقرر فيها القيام بعملية اغتيال يُوفر السلاح لتنفيذ العملية، ثم يعاد ولا يسمح للمناضل بالاحتفاظ به كسلاح شخصي، وذلك بسبب عمليات الإيقاف التي كانت جارية، كما أن انتشار السلاح أدى إلى تنفيذ عمليات خارجة عن السيطرة.

الضرائب الثورية.. جبايات إجبارية ضخمة لدعم الثورة

نتيجة لتلك العمليات التي أجراها رجال جبهة التحرير، فقد علت أصوات عناصر الشرطة الفرنسية المنددة بما يتعرضون له من خطر، مقابل أجور متدنية، “كانوا يرون أن أجورهم لا تتكافأ مع الخطر الذي يهدد حياتهم”، فلم يعد الوضع يحتمل بالنسبة لهم، ومع وصول العمليات إلى قلب باريس أصبحت جبهة التحرير الوطني تشكل خطرا حقيقيا على الحكومة الفرنسية.

كان مصدر التهديد، ليس فقط في شقه العسكري العملياتي، وإنما أيضا في شقه المالي، فقد فرضت الجبهة على المنتسبين لها وعلى الجزائريين في فرنسا اشتراكات ماليا لتمويل عملياتها، وكانت تتخذ إجراءات عقابية بحق من لا يدفع هذه الاشتراكات.

شكلت جبهة التحرير الوطني خطرا حقيقيا على الحكومة الفرنسية إذ كان لها شق عسكري وآخر مالي داعم

 

كانت فلسفتها تقوم -كما يذكر أحد قادتها المتحدثين في الفيلم- على أنها حركة سرية تعمل من أجل تحرير الوطن، وعلى الجميع أن يساهم في هذا الواجب الوطني، وعلى كل مستنكف عن الدفع أن يتحمل المسؤولية عن فعله هذا، “فلو ثبت لسكان حي من المهاجرين أن أحدهم لم يدفع، ولم تستطع الجبهة إجباره على فعل ذلك، فإن أحدا في ذلك الحي لن يدفع، لذا كان من الواجب فرض عقوبات تصل إلى حد الضرب والتهديد وأحيانا التصفية”.

شكلت الجبهة فريقا خاصا يسمى “الاستخلاص”، كان يتزعمه شخص يدعى بوعلام، وكانت مهمة هذا الفريق -بحسب ما جاء على لسان أحد مناضلي الجبهة- هي “تصفية كل من يرفض دفع اشتراكاته للجبهة”، وقد بلغت ما كانت تسمى “الضرائب الثورية” نحو 6 مليارات فرنك في الشهر.

حظر التجوال الليلي.. ضربة للعمال المهاجرين وموارد الثورة

قرر “موريس بابون” مع حكومته والرئيس “ديغول” و”ميشيل دوبريه” رئيس الوزراء فرض حظر التجوال على الجزائريين، وأصدر “بابون” قرارا بإفراغ باريس في الليل.

فقد كان معظم المهاجرين الجزائريين في فرنسا من عمال المصانع، كانوا يعملون في النهار، وينتظرون الليل لقضاء شؤون حياتهم الأخرى، قبل أن يكون لديهم وقت للتفرغ للعمل النضالي وحضور الاجتماعات وجمع التبرعات وتوزيع الصحف السرية.

للحد من أنشطة جبهة التحرير في جمع الأموال، رأى بابون أن حظر التجوال وسيلة ناجعة

 

رأى “بابون” أن حظر التجوال وسيلة ناجعة لوقف أو الحد من أنشطة جبهة التحرير في جمع الأموال التي كانت تشكل مفتاحا أساسيا في عملها.

لكن الجبهة كان لها رأي آخر، فقد أدركت أنها إن استجابت لسياسة حظر التجوال فإن نهايتها تكون قد اقتربت، لذا قررت الخروج بمسيرة سلمية ليلية يشارك فيها آلاف المهاجرين وعائلاتهم وأطفالهم، وأعطوا تعليمات للمشاركين بأن يصطحبوا معهم كل أوراقهم الرسمية، وأن لا يحملوا معهم أي شيء يثير ضدهم الشرطة، حتى لو كان ذلك مجرد سكين.

“أن التظاهر حق للجميع”.. مظاهرة حضارية تحت غطاء الوهم

كان من المقرر أن تخرج المظاهرة السلمية في العاشر أو الحادي عشر من أكتوبر، لكن تعذر ذلك، واختير يوم السابع عشر للخروج في استعراض ضخم أنيق، وقامت الجبهة بتنظيم المسيرة على أكمل وجه وبطريقة حضارية، وخرج المشاركون نساء ورجالا وأطفالا في قمة أناقتهم “متوهمين أن فرنسا تتسع لهم، وأن التظاهر حق للجميع”.

لكن في المقابل، زعمت الشرطة الفرنسية أن كثيرا من المتظاهرين خرجوا رغما عنهم وبدون رغبة منهم في المشاركة.

حافظت المظاهرة على سريتها حتى يوم انطلاقتها، لكن بسبب خطأ من أحد القطاعات التي خرجت من ساحة “ليتوال” علمت الشرطة بالأمر، إذ خرجت المظاهرات من ذلك القطاع في الساعة الثامنة صباحا بدلا من الثامنة مساء، وخلال ساعات كانت باريس كلها محاصرة بالشرطة.

مسيرة سلمية أنيقة نظمها جزائريو فرنسا قوبلت بعنف وقتل ورمي بالنهر

 

كان مظهر المشاركين في المظاهرة سلميا حضاريا لائقا بقضيتهم، كانت النساء تزغرد والرجال يهتفون بكل حماس مطالبين بأدنى حقوقهم كبشر، لكن الشرطة بادرتهم بالضرب بالهراوات بكل وحشية، وبدأت باعتقال المشاركين وكل من يشتبه بأنه عربي في تلك المنطقة، ولم تكفِ شاحنات الشرطة لعدد المعتقلين، فطلبت من شركة النقل العمومي المساعدة.

تطور الأمر، وبدأت الشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين المسالمين، وأعلنت كذبا أن من بدأ بإطلاق النار هم المتظاهرون، فعمت المكان حالة من الذعر، “وبدت الشرطة أكثر وحشية وبشاعة، لقد كان لديهم رغبة في قتل أكبر عدد من المتظاهرين، كانوا مشحونين موتورين، واستخدموا أعلى درجات العنف”.

عشوائية الموت.. أمطار الجثث البريئة تتهاطل على نهر السين

على الجادة قرب قاعة سينما ريكس كان أحد رجال الشرطة يرتدي لباسا مدنيا أمام المقهى، بدأ بإطلاق النار بين الحشود وتساقط الناس حوله بين قتلى وجرحى، بينما أخذ عناصر الشرطة في أماكن أخرى يجرون أجساد الضحايا ويكدسونها فوق بعض.

طلبوا من الجزائريين القفز في نهر السين، ومن كان يرفض كانوا يقيدونه ويلقونه عنوة في النهر حتى يغرق، ومن حاول الخروج يسحقون يديه ويعيدونه إلى الماء مرة أخرى، انتهى الأمر بكثير من جثث الضحايا في البحر، كما عثر على بعضها في منطقة روون، وكان بعضها يطفو على الماء.

كان هناك قتلى في شوارع باريس الكبرى، وخاصة في محيط سينما ريكس وشوارع أخرى، أما الذين حاولوا الهرب في الشوارع الجانبية فقد قتلوا داخل ردهات المباني وفي الطرق المظلمة.

قمع واعتقال للنساء اللاتي طالبن بإطلاق سراح المعتقلين

 

يروي الدكتور جودي برار كيف استعدت أخته فاطمة للذهاب إلى المدرسة، لكنها لم تعد إلى البيت مرة أخرى، فقد أرادت الالتحاق بالمتظاهرين، ويرى أنه ألقي عليها القبض، وحينها ذهب الوالد يبحث عنها في كل مكان، وبعد صراع مرير مع الشرطة، استطاع تقديم بلاغ.

كان جودي في عامه الخامس ولم يكن يعلم ما يحدث، كانت أمه تأخذه بيدها وتجوب الشوارع باكية تبحث عن أخته، وفي 31 أكتوبر/تشرين أول عثر أحد العمال في سان دوني على جثة امرأة شابة كانت رجلاها عالقتين في القضبان المشبكة بالقرب من توربين المصب، لتنتهي الحكاية بهذا المشهد المأساوي.

بلغ عدد حالات الإيقاف في تلك الليلة المشؤومة حدا لم يسبق لفرنسا أن عرفته في تاريخها، إذ بلغ عدد المعتقلين نحو 12500، وأقامت الشرطة بشكل عاجل أماكن حجز في القاعات الرياضية التي تواصل فيها القمع والتعذيب.

وفي تلك المراكز كانت هناك عدة أدلة على أن الشرطة أقدمت على قتل عدد من المحتجزين، ويروي بعض المتحدثين أن ذلك كان يجري عند ذهاب المحتجزين إلى الحمامات، كان يصحبهم مجموعة من الجنود يطلقون النار عليهم بكل بساطة، أما غير أولئك فقد تعرضوا للتعذيب، وأصيب بعضهم إصابات بليغة.

عبثية باريس.. صراع بين الحفل الغنائي وأناشيد الثورة

صادف في تلك الأيام وجود موعد لحفل غنائي للمطرب الأمريكي “راي تشارلز”، وطلبت الشركة المنظمة للحفل من الشرطة إخلاء قاعة قصر الرياضة التي كانت تضم نحو 11 ألف موقوف جزائري، وقد عثر في الأرشيف على مراسلات بين الشرطة وبين الشركة المنظمة للحفل، فقد طلبت الشركة نقل الجزائريين من قصر الرياضة، لأنهم يريدونها لإقامة الحفل، وفعلا قامت الشرطة بنقلهم في غضون يومين إلى مكان قريب، حيث أودعوا في قصر المعارض على بعد بضع مئات الأمتار.

ومن السخرية بمكان أن أغنية افتتاح الحفل كانت بعنوان “فلنترك الأوقات الجميلة تغمرنا” (Let the Good Times Roll)، كم كان هذا ساخرا، كان بإمكان من يشترون التذاكر أن يسمعوا الجزائريين وهم يشدون بأغانيهم الوطنية الثورية، فقد قرروا أن يكون صوتهم أعلى من صوت أغاني “راي تشارلز”.

حفل غنائي للمطرب الأميركي راي تشارلز في نفس مكان اعتقال الجزائريين بعد إخلائهم منه

 

في هذه الأثناء نظمت الجبهة مظاهرة للنساء أمام مركز الاحتجاج الجديد، وقد ساهمت تلك المظاهرة في كشف الستار عن حقيقة القمع الذي تمارسه الشرطة ضد الجزائريين، وكان الهدف من المظاهرة الذهاب أمام مراكز الاعتقال ومحافظة الشرطة للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين.

لكن مرة أخرى أضافت الشرطة الفرنسية نقاطا سوداء إلى سجلها المخزي، وقامت بقمعهن واعتقلت المئات منهن، وكانت حصيلة جديدة من المعتقلين، لكن هذه المرة بلغت نحو 500 من النساء، ونحو 100 طفل.

ونقلت بعض النساء المصابات إلى المستشفى، لكن الأطباء كانوا بدون أدنى إنسانية، فلم يقدموا لهن المساعدة، وبعد دخولهن من الباب الرئيسي أخرجن من الباب الآخر.

خنق الصحافة.. لعبة النافذين لطمس آثار الجريمة

أظهرت بعض التقارير المصورة والتسجيلات السينمائية في ذلك الوقت بمطار أورلي مجموعة من الجزائريين وهم يركبون الطائرة، كان المعلق يقول إنهم راغبون في العودة إلى بلادهم، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، كما يقول الكاتب الفرنسي “جيل منصرو”، فقد اختير عدد من المتظاهرين الذين لم يطلهم عنف الشرطة، وأعيدوا عنوة إلى بلادهم ليرسلوا من جديد إلى مراكز الاعتقال، ويتواصل معهم التحقيق هناك.

ترحيل قسري إلى سجون الجزائر لمواطنين شاركوا في المظاهرة

 

سخّرت فرنسا شركه “إيرفرانس” وطائرات عملاقة سميت بعابرات الجسور، وقد أرسل كل هؤلاء الأشخاص إلى وطنهم الجزائر، وهناك سجنوا مرة أخرى وصُفّي بعضهم. وفي حصيلة المجزرة، وبناء على التقارير فقد أحصي نحو 200 قتيل غريق، وأنكرت الشرطة ذلك وقالت إن هناك فقط ثلاثة قتلى سقطوا في المظاهرات نتيجة شجار حصل بين الجزائريين أنفسهم.

شكلت لجنة فيما بعد وأسند إليها إجراء التحقيقات، وقد أحصت نحو 120 قتيلا، لكن جهات أخرى تحدثت عن 400 قتيل، ولم تجر الحكومة أي تحقيق دقيق واكتفت بالصور الملتقطة مع بعض المعلومات، لقد كانت الممارسات تصدر عن دولة استعمارية ذات خبرة واسعة في تقنيات إخفاء الحقيقة.

وفي مختصر يسخر من كل الحقائق والدماء التي نزفت يقول “موريس بابون” رئيس الشرطة “لقد كان هناك اشتباك بين أفريقيين شماليين”، وإن قتيلا واحدا فقط سقط في هذه الاشتباكات، وبعدها تحدث عن قتيلين.

بلغ عدد ضحايا مجزرة نهر السين أكثر من 200 قتيل ، ومئات الجرحى

 

وضعت الشرطة في باريس رقابة صارمة على الصحف، وكانت تأمر بإلغاء وشطب كل ما يتعارض مع ما تصرح به، كما أنها صادرت بعض الأفلام والصور، وخاصة صور “إيلي كاكون” الذي كان مصورا مستقلا، فكان يركب دراجته النارية ويجوب شوارع باريس لتصوير تلك المظاهرات.

كان التلفاز والصحافة لعبة في يد الرئيس “ديغول”، وكانت الحكومة تستقبل رؤساء الصحف على موائد العشاء. وقد حاول بعض الصحفيين الفرنسين الشجعان إنجاز فيلم عن المجزرة، لكن السلطات صادرت مادته، كان عملا “عدائيا” نفذه “بابون” وأعوانه وغيرهم لضمان عدم المحاسبة.

“ديغول”.. يد تفاوض الجزائر وأخرى تتستر على الجريمة

يحمل بعض المتحدثين وكثير من التقارير الرئيس “ديغول” مسؤولية ما حدث، فلا يمكن أن يكون جاهلا بالتفاصيل، لكن ما حدث كان غير مهم بالنسبة له، كان ما يشغله هو إنهاء ملف الجزائر، فقد كان ملفا مكلفا بالنسبة له.

كان “ديغول” حينئذ “يتفاوض بيده اليمنى، وبالأخرى يتستر على الجريمة، فلا يمكن لجريمة تحدث في باريس أن يعلمها العالم بأسره، وهو مغيب عنها”.

كان الرئيس ديغول “يتفاوض بيده اليمنى، وبالأخرى يتستر عن الجريمة

 

وينقل الفيلم تصريحا لأحد المتحدثين قال فيه إنه سأل ابن “ديغول” عن علاقته برئيس الشرطة “بابون”، فكانت الإجابة “إن بابون لم يكن ليستمر في عمله، لو لم يفعل ما يأمره به أبي”.

أما الحكومة الفرنسية فتتحمل هي المسؤولية أيضا عما حدث، وبعد ذلك عن طمس الحقائق وغض الطرف عن قمع الشرطة وعنفها.

قادة الثورة.. تجاهل تاريخ المهجر في الوطن الأم

ينقل الفيلم أن الجزائريين في الجزائر لم يتحدثوا عن المذبحة التي حدثت في باريس بشكل واضح، وهو أمر مثير للاستغراب. وهنا ننقل شهادة علي هارون المسؤول السياسي لفيدرالية جبهة التحرير في فرنسا، إذ يقول: أنا مسؤول عن ما أقول، طبعا مسألة استقلال الجزائر شهدت بداية غير سوية في الداخل الجزائري، فرغم ما بذل في الحرب التي استمرت 7 سنوات ونصف، ففي النهاية وأثناء اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية، حدث شرخ عنيف بين أحمد بن بلة وهواري بو مدين من جهة، وبين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من جهة أخرى.

صحيفة فرنسية تطالب بالكشف عن حقيقة موت المتظاهرين الجزائريين.

 

تواصل صراع هذين الطرفين عدة أسابيع، وفي النهاية فاز بن بلة وبو مدين بالسلطة، وبعد وصولهما همشا فرع الثورة في فرنسا أو ما كان يعرف بفيدرالية جبهة التحرير/ فرنسا.

يتابع هارون قائلا: كانت كل جهة تحاول إخفاء مكاسب الجهة الأخرى، وإذا تحدث أحدهم قام الآخر ليقول العكس تماما، وهو ما جعل الأمر كالتالي: بما أن أحداث 17 أكتوبر حدثت في فرنسا وبتنظيم من فيدرالية فرنسا التي لم تقف إلى جانب بن بلة وبومدين، وبما أن بن بلة بقي سنتين ونصفا على رأس السلطة، وبومدين بقي نحو 13 عاما، فهذه أكثر من 15 عاما لم يتطرق فيها أحد في الجزائر للحديث عن فيدرالية جبهة التحرير/ فرنسا وعن ما فعلته، ولم يجرِ الحديث عن 17 أكتوبر إلا قبل عشر سنوات فقط، حيث تجد الآن أسماء الشوارع باسم 17 أكتوبر.

كما يذكر -أحد المتحدثين- أن الكاتب “مارسيل بيجي” كان قد ألف كتابا عن مذبحة 17 أكتوبر، وكان من المفترض أن يصدر في العام 1962، لكن أول حكومة بعد الاستقلال في الجزائر كانت بقيادة بن بلة، وقد طلبت منه عدم نشر الكتاب، وقد خضع لذلك.

سجن “بابون”.. أطول المحاكمات في تاريخ فرنسا

من السخرية بمكان أن قائد شرطة باريس “موريس بابون” قدم للمحاكمة، ليس بسبب تورطه بقتل مئات الجزائريين، وإنما بسبب مشاركته في ترحيل بعض اليهود من فرنسا إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد كانت تلك المحاكمة من أشهر وأطول وأكبر المحاكمات في تاريخ فرنسا، وحدثت بين عامي 1997-1998.

عوقب الجنرال المجرم موريس بابون ليس لأنه أعدم الجزائريين، بل لأنه رحّل مئات اليهود من فرنسا إلى ألمانيا.

 

كان “بابون” يحاكم في مدينة بوردو بتهمة التعاون في ترحيل مئات اليهود، عندما كان أحد المسؤولين المرموقين في حكومة تل المقاطعة، وقد وجدت المحكمة أنه كان مذنبا، وأثبتت عليه تهمة التعاون مع الحكومة الألمانية في ترحيل 1600 يهودي.

حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات إلا أنه لم يمض منها سوى القليل، وأطلق سراحه بقرار خاص، لكن سجله في قتل الجزائريين بقي مغلقا، ولم يفتح ولم يتطرق إليه أحد.

هكذا بكل بساطة لم توجه له تهم بالقتل، ولم يكترث أحد بدماء مئات الجزائريين التي سالت، لا في ذلك اليوم ولا بعده ولا قبله.. ويبقى السؤال حاضرا: لماذا؟