الفيلم الوثائقي ..ضد كل سُلطة !

بين شمولية “تأليه الحاكم” وتعددية “خداع المحكوم “
الفيلم الوثائقي ..ضد كل سُلطة !

أسامة صفار

يقف الفيلم الوثائقي بين الصحافة والتاريخ و السينما شامخاً، ويشير  إلي نفسه مؤكداً أنه من هنا ولدت السينما، ومن هنا ولدت الحقيقة دون تأويل، ومن هنا يولد الشاهد الذي لا ينطق كذباً، ومن هنا يولد الشهيد وتبقي الصورة ما بقيت العيون ناظرة .
ولكن ما لم يقله الفيلم الوثائقي – تواضعاً – هو أن كل الأفلام وثائقية و كل عمليات إنتاج الأفلام وثائقية بالضرورة،  فحيث وجدت الصورة، ولدت الوثيقة و حيث وئدت الصورة ، صار الوأد وثيقة أخري .
وبين نظام سياسي يفتعل الليبرالية والتعدد ويعلن تسامحه مع كل مختلف، ونظام آخر شمولي لا يقبل إلا أن يكون المحيط مرآة لما يعتقده عن نفسه، يوثِّق الفيلم لمقولة واحدة لا يحيد عنها أبدا : لا يقبل الإبداع سلطة ولا يرضى بديلا عن الضمير معيارا و الجمال هدفا نهائيا ويشير بإصبعه تجاه المسوخ المتراصّة في أدراج النظم السياسية قائلاً: ليس وثائقيا من كذب ومن خدع ومن زين ومن تحول إلى بوق.
و لكن … لأن الفيلم من الحلم، فالواقع والوقائع يناقضانه بحكم الطبيعة الخشنة لهما في مواجهة من لا يقبل سلطة “الأمر الواقع”، لذلك  يعيش كل فيلم معركته الخاصة مع السلطة و رغم أن الفيلم المدعو تجارياً بـ ” الروائي ” يملك سبلاً و أسلحة في هذه المعركة تفوق قرينه الوثائقي إلا أنه لم ينج من المصادرة والمنع و التوجيه والافتعال والكذب والحذف وتجفيف منابع التمويل تأديبا لئلا يخرج عن حدود المسموح .

وبقي الوثائقي في المواجهة دائما واستطاعت السلطة أن تهزم وجوده فتمنعه وتمنع إنتاجه وتتركه في العراء و استطاعت السلطة أن تحوّله من حلم مرهف بعالم أجمل و شهادة لا يتطرق إليها الكذب إلي سلسلة من الإرشادات والتوجيهات والصور المفتعلة فاقدة المعني، لكن ما لا تعرفه السلطة الأولي و لا الثانية أنه حتي ذلك الكائن المشوه المزيف والدعائي تماما قد يصبح وثيقة إدانة لتاريخ من الاستبداد والمنع و المصادرة وإفساد الأذواق و تزوير وتحريف المفاهيم، وهكذا انتصر الفيلم الوثائقي حتي في أسوأ حالات ضعفه !
ويشهد التاريخ أن السينما ولدت وثائقية  ففى الثامن والعشرين من عام 1895 ولدت على يد الأخوين ( لوميير) واللذان قدما عرضا لمدة دقيقتين أو أكثر بعنوان ” الخروج من مصانع لوميير ” و” وصول قطار إلى محطة لاسبوتات ” ومنذ ذلك التاريخ 1895 بدأت فى الظهور والانتشار ،و تخصص فى إنتاج الفيلم التسجيلى رواد عالميون كبار أمثال: روبيرت فلاهيرتى الآمريكى و”دريجا فيرتوف السوفيتى” و “جون جريرسون الإنجليزى” و “جوريس ايفانس الهولندى” وغيرهم .

وبقدر ما يدرك الفيلم الوثائقي أهميته الخاصة فإن الأنظمة السياسية أدركت خطورته من البداية كسلاح سياسي فعّال يصل إلي قلوب وعقول الجماهير، وهو ما دفعها – وخاصة في أعقاب الثورات – إلي تجنيده ليصبح واحدا من أهم وسائل تعبئة الجماهير لما تهدف إليه تلك الأنظمة.
 ولعل النماذج التي يمكن طرحها هنا هي نفسها النماذج التي يمكن استعراضها عبر التأريخ السياسي للنظم بعد بدء استقرار وانتشار الفيلم الوثائقي نفسه بما يعنيه ذلك من عدم استثناء نظام سياسي سواء كان شموليا أو تعدديا فأنظمة الثورات الديمقراطية في دول مثل فرنسا وبريطانيا ودول شمال أوروبا و الفاشيست في إيطاليا والنازي في ألمانيا كلها اتفقت علي أن يكون الفيلم الوثائقي سلاحها الأهم وكذلك ثورة يوليو الاشتراكية في روسيا و ثورة يوليو في مصر وثورات دول أمريكا اللاتينية و الثورة الماوية في الصين .

ضُبّاط يوليو والسينما
نشأت السينما المصرية وثائقية أيضا علي يد رائد السينما المصرية (محمد بيومي) الذي أصدر مجلة (آمون) السينمائية عام 1923، وظهر العدد الأول منها ليرحب باسم الأمة بعودة الزعيم “سعد زغلول” من منفاه عام 1923.
 ثم تتابعت الأعداد بعد ذلك إلى أن قامت ثورة يوليو واستطاع النظام الناصري أن يستغلّ السينما بشكل عام والفيلم الوثائقي بشكل خاص لتحويله إلى وسيلة جيدة لحشد الجمهور حيث صارت حركة الضباط ثورة شعبية كبداية عن طريق الإعلام والأفلام الوثائقية وأضيفت للحركة أهداف ذات أبعاد اجتماعية بعنوان عريض هو العدالة الاجتماعية . وقد أنشأت ثورة يوليو الهيئة العامة للاستعلامات في بداية خمسينيات القرن الماضي وتولّى إدارتها الضابط الشاب – وقتها – محمد عبد القادر حاتم وتولّت الهيئة الجديدة حشد الناس بالتعبئة، كما أنشأت مصلحة الفنون التي تولّى إدارتها الأديب الراحل يحيى حقي وكانت وظيفتها حشد الشعب وراء الثورة وأهدافها وإنجازاتها من وجهة نظر القيادة السياسية.

وأنشأت مصلحة الفنون “مجلة الفنون ” عام 1957، ثم انشأت الحكومة المصرية “ستوديو مصر” وقامت إدارة الأفلام التسجيلية بإنتاج “المجلة السينمائية ” بين عامي  1965- 1966، وأنتج المركز القومي للأفلام الستجيلية بوزارة الثقافة بعد إنشائه مجلتين سينمائيتين الأولى بعنوان (الثقافة والحياة) ،والثانية بعنوان ( النيل ) .
وتتابعت الأفلام الوثائقية بعد ذلك من خلال ( الوكالة العربية للسينما ) والتابعة لوزارة الثقافة فأصدرت مجلة سينمائية عام 1972 وكان عنوانها ” مصر اليوم ” و سبق كل ذلك إنشاء ( جريدة مصر السينمائية) عام 1935 وقد أسسها المصور السينمائي (حسن مراد) وكانت تابعة لستوديو مصر حتى عام 1970 .
ثم آلت تبعيتها للهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام فغيرت اسمها إلى ( جريدة مصر السينمائية الناطقة ) وأصدرت أكثر من ألفين وخمسمائة عدد، وتعتبر سجلا تاريخيا للحياة المصرية والعربية .
ولم يكن ذلك الدأب علي إنشاء المؤسسات والمصالح نابعا من رغبة في تطوير ذلك الفن أو إيمانا بتلك المقومات الثقافية التي امتلكتها الدولة المصرية مقارنة بمحيطها، لكنه جاء من رغبة في “برمجة” الجماهير و تنميط طرائق التفكير وتوجيه الأنظار باتجاهات يرى النظام السياسي القائم أنها تُحقّق له نوعا من الاستقرار في السلطة .
 ولعل محتوى تلك الأفلام التي أُنتجت بأموال السلطة أو من خلال شركات سارت في ركاب السلطة هي خير دليل علي ما كان يُراد للفيلم الوثائقي أن يكونه.

 وإذا كان “الأخوان لوميير” قد انبهرا باختراعهما فصورّا عمال مصانعهما فقد انبهر الجمهور الذي شاهد فيلميهما برؤية بشر يتحركون في صورة.
 ويذكر المؤرخون أن أول فيلم عُرض في مصر في العام 1896 كان عبارة عن وصول قطار إلى محطة مصر في الإسكندرية وما كان من جمهور المشاهدين إلا أن خرج جريا من المقهى الذي كان يُعرض فيه الفيلم خوفا من القطار على الشاشة !
إذن الانبهار الأول بعد اختراع الأخوين لوميير كان بالاختراع ذاته و ما أظهره من إمكانية لتجسيد الحركة على شاشات ولم يكن الموضوع بطلا حتى هذه اللحظة .

وحين خرج الاختراع من “سحريته” إلى كونه وسيلة اتصال جماهيري حقيقية كان أول اهتماماته هو المحتوى السياحي بما يعكسه من اهتمام بالعين الأجنبية التي كانت تنتمي بشكل أو آخر  إلى السلطة المحتلة حينها والشركات الرأسمالية الكبري ( وهي سلطة أيضا ) التي اهتمت بتقديم أفلاما إعلانية .
و كان أول فيلم تسجيلي في تاريخ السينما المصرية قد ظهر عام 1924 ليواكب افتتاح مقبرة (توت عنخ أموت) وقد أخرجه ( محمد بيومي) و تلاه فيلم “حديقة الحيوان” من إخراج “محمد كريم” عام 1927، ثم أخرج “نيازى مصطفى” عددا من الأفلام الدعائية “لشركات بنك مصر ” عام 1936 .
 كما أخرج (صلاح أبو سيف) فيلما عن (وسائل النقل في مدنية الإسكندرية) عام 1940وجاء المخرج (سعد نديم) الذي اعتبره المؤرخون السينمائيون الرائد الأول والأوحد للسينما التسجيلية في مصر، وذلك لأنه أمضى حياته كلها مخرجا للأفلام التسجيلية (1920 -1980)، وقدم “نديم” نحو ثمانين فيلماً، بدأها بفيلم “الخيول العربية ” ومدته عشر دقائق عام 1974، كما قدم العديد من الأفلام ذات الطابع السياسى.

 والحقيقة أن (سعد نديم) و من تلاه من رواد هذا الفن في مصر في ظلّ نظام يوليو لم يكن إنتاجهم الوثائقي بمعزل عن أهداف السلطة التي طرحت في جريدتها السينمائية الناطقة نموذجا للأخبار التي لا تهتم بالخبر في علاقته بالجماهير  وإنما تهتم به في إطار علاقته بالزعيم وأنشطته اليومية، وهو النموذج الذي التزمت به نشرات الأخبار في التليفزيون الحكومي المصري حتي الآن .
وحين بدأ التلفزيون المصرى إرساله عام 1960 أخرج سعد نديم للشاشة المصرية والعربية عدة أفلام مهمة منها: “متحف السكة الحديد”، “أسوان” ،”مدينة سياحية”، “مدينة كوم امبو” ، “جزيرة فيله” ، “البترول” ، “الحديد والصلب”.
كما أخرج للتلفزيون العديد من الأفلام منها: “النحاس”،”التجارة العربية”،”الزجاج”، “الفخار”، “الكليم والسجاد “،” الخيام ، الحصر،  تطعيم الخشب ،الجلود، الذهب” كما أخرج العديد من أفلام الآثار الفرعونية منها: “تراث الإنسانية  ، أبو سمبل ، من فيلة إلى إيجيليكا” وغيرها.
وجاء الرائد الثاني وهو (صلاح التهامي) ليقدم العديد من الأفلام نذكر منها “دياب” ، ثم سافر بعد ذلك إلى سوريا وأخرج عدة أفلام عربية مهمة : ” دمشق ” ، ” متحف دمشق ” ، ” الفنون البدوية فى سوريا “، ” حمص وحلب و اللاذقية ” ،و” المصايف السورية ” ، “صناعة النسيج فى سوريا ، ثم عاد إلى مصر وأخرج عدة أفلام منها : ” بنت النيل ” ، “تحية لمقاتل مصرى ” ،” عالم الفنان حسن حشمت ” ، ” مذكرات مهنس “، “أربعة أيام مجيدة “، “كهرباء السد العالى ” ، ” رجال فى الصحراء ” ، على أرض الصعيد ” ، “مصر العمل ” وغيرها ولقد قدم للسينما التسجلية ما يربو على المائة فيلم .

ثم جاء المخرج والمنتج عبد القادر التلمسانى الذي أنشأ مع شقيقه المصور السينمائى “حسن التلمسانى” شركة تخصصت فى إنتاج الفيلم الوثائقي حيث أنتجت أكثر من ثلاثين فيلماً ثم أنتجت أيضاً لحساب الغير: “رحلة فى كتاب وصف مصر 1972″ ، ” دار الفن فى القرية 1973 ، ” فنون الخط العربى ” 1974 ، ” زخارف عربية ” 1974 ، ” زخارف قبطية ” 1975 ، ” المصحف الشريف ” 1977 ، ” صحراء سقارة ” 1978، ” قاهرة المماليك 1986 ” ، ” مصر عتيقة 1986 ” ، ” سيناء الحرب والسلام 1986 ” عالم البدو فى سيناء ” 1983 ، ” أرض الأديان ” و” سيناء مشتى عالمى ” “كنوز أرض محمد ” ،والديمقراطية فى مصر ” 1984 ، ” القرية الفرعونية 1992 ، ” الحضارة والتعمير ” 1995.

سياحة ودعاية
يقول الباحث والمخرج (هاشم النحاس) فى كتابه (مستقبل السينما التسجيلية فى مصر) إن تعدد الأجهزة التي أنشأتها الدولة وعدم استقرارها الذى فرضته الصراعات والتطورات المتلاحقة أدى إلى إعاقة نمو حركة الفيلم التسجيلى ولم يسمح له بإرساء تقاليده، ومع ذلك استطاعت بعض هذه الأجهزة مواصلة الإنتاج وقدمت فى بعض الأحيان أفلاماً لها قيمتها. فى هذه الفترة تم إنتاج سلسلة من سبعة أفلام عن آثار النوبة قدمها سعد نديم، فضلاً عن مجموعة من 15 فيلما عن كنوز الفن الإسلامى.
وإلى جانب هذه الوحدات الحكومية لإنتاج الأفلام التسجيلية أنتجت بعض الوزارات أفلاماً تسجيلية تبعاً لأهدافها الخاصة.
والملاحظ عموماً أن الأفلام الخاصة بإنجازات الثورة وأحداثها هى التى كانت تحظى بانتشار العرض، ولم يكن ذلك بفعل الاهتمام الرسمى وحده وإنما جاء تلبية لإشباع حاجة الجماهير لمعرفة ما يدور حولهم من أحداث متلاحقة تهز المجتمع، ولقد أدى الفيلم التسجيلى واجبه من هذه الناحية، لقد حددت له مهمة حشد الجماهير لتأييد الحكومة وقد فعل.
وقد أدى ارتباط الفيلم الوثائقي بالحساسيات السياسية إلى أن أصبحت الرقابة المحلية أكثر تشددا مع الفيلم الوثائقي أكثر مما تفعله مع الفيلم الروائي أو الدراما التليفزيونية.
فالأجهزة الرقابية لم تسمح للمبدع الوثائقي بالتعامل مع الواقع بشكل جدّي، حرمته من حرية التعبير عن هذا الواقع، وهو ما أدى إلى هجرة جماعية للمخرجين بعيدا عن القضايا الاجتماعية والسياسية أو مواجهة مشكلات الواقع الحي. كما أن التليفزيونات العربية والتى تشكل السوق الرئيسية للفيلم المصري شكلت رقابة إضافية لهذه الرقابة، وبالتالي تم حصار الفيلم الوثائقي وتسويقه.

ومن جهة أخري أدّت أدلجة الفيلم الوثائقي بمعنى توظيفه أيديولوجيا لصالح الدعاية المباشرة للأفكار،سواء الدعاية للدولة ونظامها السياسي والتي تمارس منهج السيطرة والتوجيه للمجتمع نحو أشكال وموضوعات تعاد وتكرر مرارا بحيث تبدو كما لو كانت الشرط الوحيد للمعقولية وبشكل يجعل الفيلم الوثائقي مرتبطا فى أذهان الكثيرين بالبروباجاندا والتنميط الذي يفقده حيويته.
ولا شك أن إهمال القيم الجمالية للفيلم الوثائقي و تبرير الركاكة والضعف الجمالي والتقني بالمفهوم الشائع أن الحقيقة أكثر أهمية من الجمالية فى الفيلم الوثائقي قد ساهما في تدني مستواه، رغم المعلومة البديهية التي تقول إن إهمال الجانب الفني هو المعوق الأكبر في التواصل بين العمل والجمهور خاصة أن إعادة إنتاج هذه الوثيقة يتطلب الجمالية والإتقان الحرفي بشكل أساسي.
 وإذا كان يجب اختراق حسّ المتلقي الاجتماعي والأخلاقي، فإن هذا الاختراق لن يتم بصورة صحيحة إلا من خلال نسق التوفيقات الممكنة بين ما هو واقعي وما هو جمالي. فغياب الإتقان الجمالي والحرفي ينزع سلاح الفيلم الوثائقي، الذي يستهدف وعى المتلقي، فطالما وضعنا لقطة إلى جانب لقطة أخرى، فستكون دائما هناك فكرة. أى علينا أن نضع نسقا.
وكما حُرم الفيلم الوثائقي في ظل نظام يوليو من هيكل مؤسسي ثابت يتيح له درجة من درجات الاستقرار ويضمن له آليات عمل محدد ومنظمة و منتظمة, حُرم من إدارة مستقلة تعطيه شخصية معنوية وتضمن له حرية الحركة، وظل الإنتاج متذبذبا كمّا وكيفا.

فارق نوعي
ثمة فارق نوعي بين المرحلة الناصرية بما تعنيه من شمولية وصوت واحد وسيطرة وتحكم وبين ما بعدها حيث مرحلة السادات الذي كان يعي تماما أهمية السينما بشكل عام والفيلم الوثائقي بشكل خاص لكن الأخير كان قد انشغل بقضايا الحرب بشكل جدي.
 فاستطاع الفيلم عبر التحوُّل السياسي الأول بعد الثورة أن يتنفس و أن تظهر مخرجة جديدة في هذا البراح لتقدم فيلما مغايرا لما درج عليه الوثائقيون منذ قيام ثورة يوليو .
إذ قدمت (عطيات الأبنودي) فيلم “حصاد الطين” عام 1971والذي لم تتجاوز مدة عرضه 12 دقيقة لكن ما أثاره من ضجة كان أكبر بكثير مما توقعه الكثيرون، لكن المخرجة المختلفة استكملت مشوارها فقدمت “أغنية توحة العظيمة” عام 1972، والسندويتش عام 1975 “التقدم إلى العمق” عام 1979 “بحار العطش” عام 1980 “الأحلام الممكنة” عام 1983 “إيقاع الحياة” عام 1990 “أيام الديمقراطية” عام 1999 “صنع في مصر” عام 2006 وغيرها. واستمرت في تكريس تقاليد الفيلم الوثائقي الواقعية، انطلاقاً من وعيها الاجتماعي وملاصقتها الشديدة للواقع المصري.

وكانت الرقابة قد اعترضت علي الفيلم الأول “حصاد الطين ” وحاولت منعه أما الفيلم الثالث ” السندويتش ” ،فجاءت الملاحظة الرقابية كالتالي “ظهر المكان فقيراً ويظهر حتى الكلاب هزيلة!”
وشنت السلطة حملاتها عبر أقلام نقاد تابعين لها فقيل أنها تمرغ كاميرا أفلامها بالطين، لكي تحصل على جوائز دولية.
 وحينما أخرجت فيلمها الثالث “الأحلام الممكنة”، نُشر مقال بعنوان: “مخرجة مصرية تسيء إلى سمعة الوطن”، وقد طالب وزير الداخلية بسحب جواز سفرها، لأنها لا تستحق أن تكون مصرية.
 وبعد منازعات طويلة طالب رئيس الرقابة بحذف كلمة “بوش”، من مقابلة الفلاحة المصرية، التي تحكي في الفيلم عن حياتها وعن هموم الوطن والعدوان الإسرائيلي،إذ تقول: “نروح نشتكي لمين، نروح للريس (بوش) ولا لمين؟”، واضطرت المخرجة إلى أن تحذف تسعة “كادرات” من صوت الفلاحة، ليختفي “بوش” من على لسانها.
كما تعرض فيلمها “اللي باع واللي اشترى” أيضا للمضايقات، وهو الفيلم الوحيد الذي أنتجه لها المركز القومي للسينما عام 1992 أي بعد تخرجها في معهد السينما بـ20 سنة! والفيلم يحكي عن كارثة الأرض الزراعية، التي استصلح الفلاحون المصريون مساحة أراضيها، التي امتدت على مساحة 60 كيلومترا من الإسماعيلية إلى السويس، والتي حولتها البرجوازية المصرية، بعدئذ، إلى فيلات فاخرة لقضاء أوقات الراحة والاستجمام ومكان لعقد الصفقات.
ولم تكن ظاهرة “حصاد الطين” بمعزل عن واقع سياسي بدأ في اتباع تكنيك مغاير لما درج عليه سابقه وهو التظاهر بقبول الصوت المعارض والتخلّي عن فجاجة التأليه للحاكم والدعاية المباشرة للنظام والحشد الجماهيري .
 

فبرزت علي استحياء أصوات أخري وإن ظلّت المؤسسات محكومة بالمنطق الشمولي وبدلا من الرقابة علي المصنفات الفنية برقبائها الرسميين كان على رأس كل مؤسسة سينمائية وإعلامية قيادة هي في حقيقتها رقابة مباشرة “من المنبع” وعلى عكس “عصا الناصرية” واستطاعت “الجزرة الساداتية ” أن تربط مصالح طبقة أطلق عليها “الرأسمالية الطفيلية ” بها. لكن جيلا من السينمائيين الذين أفرزهم حلم الوحدة العربية ومرارات الهزائم وخاصة 1967 كان قد تخرج من معهد السينما ليقدم أعمالا تمس حياة الشعب المصري في الريف ومنهم داوود عبد السيد و عاطف الطيب ومحمد قناوي وخيري بشارة ومعظمهم اتجه بعد ذلك إلى الروائي بما له من جماهيرية وقدرة عالية علي مراوغة الرقيب ومع انهيار المستوى الاقتصادي للطبقة الوسطى التي تشكّلت عبر سنوات الثورة بدا وكأن دور السينما يتآكل لصالح العمارات وانتهى تقليد عرض الفيلم الوثائقي سابقا لعرض الروائي في السينما  .

وجاءت سنوات مبارك الذي أسقطته ثورة 25 يناير 2011 لتشهد تحولات هائلة ومريرة في ذات الوقت حيث اضمحل دور السينما المصرية بشكل عام بل إن سنوات الثمانينات شهدت ندرة في الإنتاج الروائي نفسه فضلا عن الوثائقي باستثناءات نادرة وبفعل جيل من السينمائيين كان مختلفا مع سياسات السادات ومن تلاه، لكن مبارك كان مختلفا عمن سبقه سواء ناصر أو السادات في عدم الاهتمام بالسينما من الأصل ومع مرور سنوات طويلة على حكم الرجل أصيب النظام بالتحلل والضعف ورغم ذلك كانت الرقابة – أغلب الوقت – في كامل لياقتها, لكن رقباء النقد كانوا الأشد ضراوة فمازالت عطيات الأبنودي رغم النجاحات العالمية تتعرض للهجوم وامتد الهجوم إلى المخرجة تهاني راشد صاحبة فيلم ” البنات دول ” والذي رصد ظاهرة بنات الشوارع في مصر وطالبت أصوات باسقاط الجنسية عنها أيضا !

ثورة التكنولوجيا
كان الفيلم الوثائقي قد انتقل بالفعل – إبان تحلُّل نظام يوليو علي يد السادات – إلى عمال وفلاحي مصر البسطاء, لكن مع تحلُّل النظام السياسي المصري في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك,أصبح بالإمكان مشاهدة فيلم وثائقي يرصد معاناة مواطن و تناولت الأفلام الروائية بإسقاطات واضحة وأحيانا بشكل مباشر سلبيات النظام السياسي وفساد النخبة الاقتصادية (رجال الأعمال) لكن الفيلم الوثائقي كان قد حوصر تماما داخل المركز القومي للسينما والمعاهد الأكاديمية وبعض الجهود الفردية،من نماذجها المخرج وصانع الأفلام ” أحمد فؤاد درويش ” والذي استطاع أن يصمد وحيدا في عالم صناعة الأفلام الوثائقية وإن التزم بنسبة كبيرة من الأفلام “السياحية ” نظرا لاعتماده علي التمويل الأوروبي والذي يشترط مثل هذه الأعمال .
وجاءت كاميرا الديجيتال مع بدايات القرن الواحد والعشرين لتتسلل بهدوء إلى عالم صناعة السينما بشكل عام ومن ثم إلى الوثائقيات , ولتتحول خلال فترة قصيرة إلى بديل للقلم في يد الكاتب ولتصنع إمكانية – كانت من قبل مستحيلة – حيث استطاع هاوي السينما أن يصنع فيلما وثائقيا .

انخفضت ميزانية الفيلم الوثائقي فخرج من قبضة المؤسسة الحاكمة والمتحكمة إلى أيدي الهواة وإلى أيدي هؤلاء الذين يعيشون هموما شعبية فالتقط طرف الخيط متجاوزا النظام الحاكم ليجسد الغضب والسخط والنقمة وينقل الجرائم التي ترتكبها عبر أفلام منخفضة التكلفة ولم تكن أحداث كبري و مأساوية مثل “غرق العبارة السلام 98” الشهيرة لتمر من دون أن يصنع فيلم تحت اسم “أرواح تائهة ” عن أكثر من ألف ومائتي قتيل لم يعثر علي جثث كثيرين منهم.
ويبقى فيلم “عين شمس” الروائي للمخرج إبراهيم البطوط علامة شديدة الأهمية والدلالة علي تجاوز كاميرا الديجيتال للقوانين الحاكمة لصناعة فيلم في مصر, فقد صنع خارج أي رقابة ولم يحصل على تصاريح تصوير ولا موافقة من الرقابة على السيناريو كما هو محدد قانونا, لكن المعركة التي خاضها مكنّته من تحقيق نصر جبار على مؤسسة السلطة .
ولعل ذلك الحدث السينمائي كان شديد الدلالة من حيث الصنع خارج المؤسسة ومن حيث المضمون الشعبي المهموم بالهامشيين علي ثورة قادمة وبقوة وهو ما تحقّق بعد سنوات قليلة انطلقت خلالها الكاميرات لتوثّق عبر السنوات الأربع الماضية كل تفاصيلها وتفاصيل حياة واستشهاد أبطالها إلى أن صودرت تلك المساحة من الحرية مرة أخرى .
ويستطيع الراصد لما قبل 25 يناير 2011 في مصر أن يؤكد بكل ثقة أن تلك الوثائقيات المتواضعة حول تعذيب الأجهزة الأمنية لمواطنين مصريين في الأقسام كانت واحدة من أسباب الغضب الشعبي وتصعيده والتحريض عليه، لذلك يمكننا ببساطة أن نتحدث عن وثائقي مناضل استطاع أن يحقق من “المتخيل” واقعا ثوريا حقيقيا بإخلاصه لقضايا شعبية و هموم جماهيرية حقيقية .

ورغم المساحات الجبارة من الحرية التي اكتسبها الفيلم الوثائقي في القدرة على التحقُّق و في حرية التناول والمضمون وحرية تبنّي رسالة بعيدا عن سطوة السلطة فإن إشكاليات وتحديات جبارة تواجههه لإعادة تعريف نفسه لمواجهة تعدُّد الأشكال والأنواع بهدف المحافظة على كونه في المحصلة النهائية فنا وليس خطابا جماهيريا مباشرا وإلا سقط فيما سقط فيه قديما “وثائقي السلطة ” .