سد النهضة الإثيوبي بعد ثماني سنوات.. هل يرى النور؟

د. بدر حسن شافعي

رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملِّس زيناوي: مصر لا يمكنها أن تكسب حربا مع إثيوبيا على مياه نهر النيل وهي تدعم جماعات متمردة في محاولة لزعزعة استقرار إثيوبيا

“مصر لا يمكنها أن تكسب حربا مع إثيوبيا على مياه نهر النيل وهي تدعم جماعات متمردة في محاولة لزعزعة استقرار إثيوبيا”.. هكذا صرح رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملِّس زيناوي في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أي قبل الثورة المصرية بشهرين، وقبل إعلانه عن التدشين الرسمي لسد النهضة بخمسة أشهر فقط. وهي تصريحات أثارت في حينها استغراب القاهرة من هذا التصعيد غير المبرر، والذي يبدو أنه كان توطئة لهذا الإعلان، حتى لا يكون هناك تعاطف دولي معها عند نشوب الأزمة.

لكن بعد مرور ثماني سنوات على تدشين السد في الثاني من أبريل/نيسان 2011 تثور تساؤلات من قبيل: هل فعلا السد مفيد لإثيوبيا، أم أن ضرره أكبر من نفعه، ولماذا لم ير النور حتى الآن، وهل هو فعلا يضر بمصر، وما هو مقدار هذا الضرر، وما هي سبل حل الأزمة، وهل تكون إسرائيل هي مفتاح الحل؟

 

سد الحدود.. سد النهضة العظيم

سد النهضة ليس اسمه الحقيقي، فقد كان يعرف في البداية باسم “سد الحدود” (Border) لقربه من الحدود مع السودان. لكن زيناوي قام بتغيير اسمه إبان أحداث الثورة المصرية إلى “سد الألفية”، وبعدها بشهرين -أي في الثاني من أبريل/نيسان 2011- استقر أخيرا على اسم “سد النهضة الإثيوبي العظيم”.

ويلاحظ أن كل اسم كان يحمل العديد من الدلالات السياسية الداخلية تحديدا، والتي تدفع الشعب للالتفاف حول حكومته خاصة بعد إجراء انتخابات 2010 واستتباب الأوضاع في البلاد لزيناوي والائتلاف الحاكم “الجبهة الثورية الديمقراطية”.

وقد حرصت إثيوبيا منذ البداية على إحاطة هذا السد بقدر كبير من الكتمان والسرية، ولم يُدرج في خطتها الخمسية إلى أن كشفت عنه إحدى الصحف الإثيوبية في فبراير/شباط 2011، مما اضطر الحكومة إلى الاعتراف به.

وفي الأول من أبريل/نيسان وقعت عقدا مع شركة ساليني الإيطالية لبنائه بكلفة تقدر بـ4.8 مليارات دولار، وفي اليوم التالي أي في الثاني من أبريل/نيسان أُعلن عن وضع حجر الأساس، وذكرت الحكومة أنها تعتزم تمويله بالكامل عبر طرح سندات للاكتتاب الشعبي.

من المتوقع أن يدر السد على إثيوبيا عائدات كبيرة في ظل احتياج دول المنطقة للطاقة الكهربائية النظيفة والرخيصة في آن واحد

الأكبر أفريقياً والعاشر عالمياً

يقع السد على النيل الأزرق الذي يمد مصر بـ85% من احتياجاتها المائية، ويعد الأكبر في أفريقيا والعاشر على مستوى العالم في توليد الطاقة الكهربائية التي تقدر بستة آلاف ميغاوات سنويا، وهو ما يعادل قرابة 12 مرة قدرة إثيوبيا على توليد الكهرباء عام 2009.

ومن المتوقع أن يدر السد على إثيوبيا عائدات كبيرة في ظل احتياج دول المنطقة للطاقة الكهربائية النظيفة والرخيصة في آن واحد، لذا فإنها قامت بالتوقيع على اتفاقيات مع دول الجوار ومنها جيبوتي وكينيا ورواندا والسودان وتنزانيا، كما تأمل في تصديره لمصر عبر السودان، ولليمن عبر جيبوتي، ولجنوب أفريقيا عبر تنزانيا، وقد شارك البنك الدولي في إقامة شبكات الربط الكهربائي بين إثيوبيا وجيرانها.

ورغم أن فكرة السد ليست جديدة حيث تعود لعام 1958 عندما طلبت إثيوبيا من أحد المكاتب الأمريكية وضع خارطة لمجموعة من السدود بهدف توليد الطاقة الكهربائية، فإن توقيت تدشينه الفعلي ارتبط -ليس من قبيل المصادفة- بأحداث الثورة المصرية عام 2011، حيث كانت فكرة السد -وقبلها موضوع مياه النيل والاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل المعروفة باسم اتفاق عنتيبي (2010)- بمثابة نقاط خلاف بين الجانبين، بل سبق وأن هدد كل من الرئيسين أنور السادات ومحمد حسني مبارك بشن ضربات عسكرية إذا أقدمت إثيوبيا على التأثير على حصة مصر من مياه النيل التي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب سنويا وفق اتفاقية 1959.

اتساع حجم بحيرة السد وتضاعفها خمس مرات أثارت شكوكا بوجود مآرب أخرى ومنها الزراعة التي تشكل قرابة نصف الناتج المحلي لإثيوبيا

مآرب أخرى!

وعلى الرغم من أن السد مخصص لتوليد الكهرباء؛ وهو ما يعني عدم حجز المياه إلا في مرحلة الملء الأولى فقط، فإن اتساع حجم بحيرته وتضاعفها خمس مرات أثارت شكوكا بوجود مآرب أخرى ومنها الزراعة التي تشكل قرابة نصف الناتج المحلي لإثيوبيا، ويعمل بها حوالي 85% من القوى العاملة، وتشكل 90% من عائدات التصدير. لكنها تقوم بالأساس على مياه الأمطار بنسبة 96%، مقابل 4% من مياه الري. ونظرا لانخفاض إنتاجية الري المطري، هناك اتجاه للتوسع في الزراعة عبر الأنهار وزيادة الأراضي المزروعة وفق هذا النمط إلى خمسة ملايين فدان[i].

السياحة لها نصيب أيضا من السد، فبحسب مدير المشروع الراحل المهندس سمنياو بكلي، فإنه سيتم الاستفادة من موقعه في تنمية المنطقة سياحياً عبر بناء منتجعات سياحية حول البحيرة لجعلها إحدى الوجهات السياحية العالمية، كما أن توفير المياه من خلال انسيابها إلى باطن الأرض سيوفر مخزوناً كبيراً من المياه الجوفية[ii].

يقع السد على النيل الأزرق الذي يمد مصر بـ85% من احتياجاتها المائية، ويعد الأكبر في أفريقيا والعاشر على مستوى العالم في توليد الطاقة الكهربائية

أضرار متوقعة وفاتورة باهظة

على الرغم من هذه الإيجابيات، فإن هناك بعض المشكلات تعترض بناء السد، منها تهجير 30 ألف مواطن من منطقة البحيرة، فضلا عن غرق بعض المناطق المحيطة به والغنية بمعادن الذهب والبلاتين والحديد، علاوة على تلوث مياه البحيرة نتيجة تخزينها أعلى نسبة صخور غنية بالمعادن[iii].

وكما سبق القول تبلغ كلفة المشروع 4.8 مليارات دولار أمريكي، بخلاف كلفة الخطوط الناقلة للكهرباء. ومن المُتوقَّع أن تصل الكلفة الإجمالية لإتمامه حوالي ثمانية مليارات دولار أمريكي، منها ثلاثة مليارات دولار ستدفعُها الحكومة الإثيوبية، و1.8 مليار دولار من البنوك الصينية لتمويل شراء الوحدات والمعدات الكهربائية.

لكن من الواضح أن هذه الكلفة قد ترتفع أكثر وفق التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء أمام بعض نواب البرلمان في فبراير/شباط الماضي، حيث أشار إلى أن الكلفة قد تزيد بنسبة 60% بسبب التأخر في عمليات التشييد، فضلا عن الغرامات التي تطالب بها شركة ساليني الإيطالية.

 

 

عيوب إنشائية وميكانيكية

لكن ربما الأخطر من إشكالية التمويل، هو ما تردد عن وجود مشكلات إنشائية وأخرى ميكانيكية تعرقل إتمامه في الموعد المحدد وهو خمس سنوات يفترض أن تنتهي في 2017. وهي التصريحات التي صدم بها أبيي أحمد شعبه في أغسطس/آب الماضي، حيث ألقى باللائمة على شركة ميتيك التابعة لوزارة الدفاع والمنوط بها الأعمال الكهروميكانيكية، فقد وصف إدارتها بأنها فاشلة وليس لديها الخبرة الكافية، كما ألقى باللائمة على الفساد المستشري في المؤسسة العسكرية، وأُلقي القبض على رئيس الشركة السابق وآخرين.

هذه الشكوك الميكانيكية التي ترتبط بعملية التشغيل يرتبط بها أيضا شكوك في العملية الإنشائية ذاتها، وقد أشار إليها التقرير الصادر من بعض مهندسي شركة ساليني في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بعنوان “ماذا لو حدث شروخ في السد؟”، مما دفع السودان بعدها إلى مطالبة الجانب الإثيوبي باستضافة وفد من خبرائه للوقوف على العملية الإنشائية والمطالبة بإدخال بعض التعديلات، وبالفعل استجابت إثيوبيا لها وتم خفض ارتفاع السد من 175 مترا إلى 155.

وقد جعلت هذه المخاوف وما أثارته من مخاوف داخلية وخارجية، وزير الطاقة والمياه الإثيوبي يعلن في فبراير/شباط الماضي أن بلاده ستبدأ إنتاج الطاقة الكهربائية نهاية العام القادم (2020) بقيمة 750 ميغاواتا باستخدام توربينين اثنين فقط من إجمالي عشرة توربينات، وربما يدخل السد الخدمة بشكل كامل نهاية عام 2022.

أهم المشكلات المائية التي لم تُحسم في جولات التفاوض التي قاربت العشرين بين مصر والسودان وإثيوبيا؛ هي تلك المتعلقة بمدة فترة الملء الأول للخزان التي ستُقتطع من حصة مصر والسودان بواقع 75% و25% على التوالي

مصر.. فقر مائي

إن تعمد إثيوبيا إخفاء المعلومات الأولية عن السد، فضلا عن قرارها توسيع مساحة تخزين المياه به إلى خمسة أضعاف تقريبا من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليار متر مكعب؛ أثار مخاوف الجانب المصري، وهو ما يعني التأثير بصورة مباشرة على المياه الواردة إليها في فترة الملء الأولى للبحيرة.

ونظرا إلى أن السودان ليست لديه مشكلة مائية، فضلا عن وجود موارد مائية أخرى، فإن المشكلة الأكبر ستكون لدى مصر، حيث يشكل نهر النيل 95% من مواردها المائية بالنظر لشح الأمطار وندرة المياه الجوفية، كما أنها منذ الألفية الثالثة دخلت خط الفقر المائي الذي يُقدر عالميا بألف متر مكعب للفرد سنويا، والسبب في ذلك تضاعف عدد السكان خمس مرات تقريبا منذ توقيع هذه الاتفاقيات مع ثبات حصتها المائية.

إن أحد أهم المشكلات المائية التي لم تُحسم في جولات التفاوض الثلاثية التي قاربت العشرين بين مصر والسودان وإثيوبيا؛ هي تلك المتعلقة بمدة فترة الملء الأول للخزان التي ستُقتطع من حصة مصر والسودان بواقع 75% و25% على التوالي، فتقول إثيوبيا إنها يمكن أن تملأه في ثلاث أو ست سنوات كحد أقصى، في حين ترغب مصر في إطالة عملية التخزين إلى 10 أو 15 سنة.

وإذا ما قررت إثيوبيا الملء في ثلاث سنوات فقط لتخزين 74 مليار متر مكعب، فإن هذا يعني أن حجم التخزين السنوي سيكون قرابة 25 مليار متر مكعب. وبما أن حصة مصر من مياه النيل وفق اتفاقية 1959 مع السودان تبلغ ثلاثة أضعاف حصة السودان المقدرة بـ18.5 مليار متر مكعب سنويا، فمعنى ذلك أن حصة مصر ستقل بمقدار 18.5 مليار متر مكعب سنويا على مدار ثلاث سنوات، ويمكن لهذا الخصم أن يصل لتسعة مليارات سنويا إذا ما قررت إثيوبيا ملء الخزان في ست سنوات.

ويبقى السؤال عن كيفية تعويض مصر هذه الحصة في ظل غياب البدائل، فضلا عن كونها أكثر كلفة مثل مشروع تحلية مياه البحر، أو معالجة مياه الصرف الصحي الذي تحدث عنه السيسي في يناير/كانون الثاني 2018 وأشار إلى أن كلفته تزيد عن 60 مليار جنيه، وأن الأزمة القائمة مع إثيوبيا لن تصيبنا بالعجز في إيجاد بدائل لمصادر المياه، كما أنه لن يسمح بوجود مشكلة مياه في مصر، مضيفا “لا بد من تأمين الجميع بالمياه”[iv].

 

 

مصر تلوذ بإسرائيل

لم تشهد مفاوضات سد النهضة أي نتائج ملموسة فيما يتعلق بفترة الملء، أو المشاركة المصرية في عملية السد، وذلك رغم التصريحات الدبلوماسية الناعمة لرئيس الوزراء الجديد أبيي أحمد، وهو ما جعل المفاوض المصري يبحث عن بدائل غير تقليدية للوساطة، ربما كشف عنها مراسل الشؤون العربية بصحيفة مكور ريشون العبرية آساف غيبور في تقرير ترجمه موقع عربي 21، بأن مصر “توجهت بطلب للحصول على مساعدة إسرائيل للحفاظ على ضخ مياه نهر النيل من خلال إقناع أصدقائها في إثيوبيا لإقامة نقاش إضافي في موضوع سد النهضة لأنه قد يستقطع بعضا من مياه نهر النيل”، وهو ما أكدته أيضا مصادر دبلوماسية لصحيفة العربي الجديد في 26 أبريل/نيسان 2017.

وعلى الرغم من أنه لم يصدر موقف مصري رسمي بذلك، فإن هذا الأمر وارد واقعيا في ظل احتياج إسرائيل لإحياء مشروع ترعة السلام (مشروع إليشع كالي) الذي يقضي بحصولها على 1% من حصة مصر من مياه النيل وتمريرها عبر سحارات أسفل قناة السويس لصحراء النقب، وهو المشروع الذي شرع فيه السادات بعد التطبيع، لكنه تراجع عنه بسبب الرفض الشعبي.

وفي ظل جميع المعطيات المتاحة يبقى السؤال مثلا عما إذا كان بناء سد النهضة سيكتمل في الموعد الجديد وهو عام 2022 ويتحقق حلم الإثيوبيين بالرخاء والنهضة؟ وفي المقابل ماذا ستفعل مصر، وهل ستكون إسرائيل هي الحل، وما هو المقابل الذي ستحصل عليه لو فعلت؟

المصادر: 

[i] – د. عباس شراقي، سد النهضة الإثيوبي: اعتبارات الساسة والتنمية، المجلة المصرية لدراسات حوض النيل، جامعة القاهرة، عدد 1، 2013، ص ص 10-11

[ii] – محمد منير أحمد، العربي الجديد، في منطقة سد النهضة الإثيوبي، جريدة العربي الجديد ،23 فبراير/شباط 2017

https://www.alaraby.co.uk/politics/2017/2/22/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A

[iii] -عباس شراقي، مرجع سابق، ص ص 18-20

[iv] – السيسي يعد المصريين بمياه المجاري.. ماذا عن نهر النيل؟ عربي 21، لندن، 9 يناير /كانون الثاني 2018.