ناصر الدين دينيه.. تشكيلي فرنسي تعلق قلبه ببوسعادة في الجزائر

ضاوية خليفة

 

كلام جميل قيل عن الثورة والبيئة وتركيبة الشخصية الجزائرية، وأهم ما قيل عنها وفيها أنها ألهمت كل عابر ومسافر، بعضهم تغنى بها والبعض الآخر اتخذها مستقرا له كالمستشرق والرسام الفرنسي “ألفونس إيتيان دينيه” (ناصر الدين دينيه) الذي اختار العيش بصحراء الجزائر تاركا حياة البرجوازيين وكل ما توفره بيئته الفرنسية من رفاه وإغراء يروي فضول الإنسان وذوق الفنان.

اهتم المخرج الجزائري أسامة الراعي في ثاني تجربة له مع الجزيرة الوثائقية بشخصية وقصة الكاتب المفكر والتشكيلي إيتيان دينيه (1861-1929) الذي لم يرث عن والديه مهنة المحاماة، لكنه مارس أخلاقياتها من خلال مضامين أعماله في الفن التشكيلي كما في الكتابة والواقع أيضا.

وليكون المخرج راصدا أمينا لأبرز محطات دينيه فقد تنقل وطاقمه إلى أماكن كان أثرها واضحا وبالغا على شخصية الحاج ناصر الدين دينيه، بداية من مسقط رأسه بباريس إلى المدينة الساحرة التي نالت حيزا كبيرا من اهتمامه ولوحاته بوسعادة الجزائرية، مرورا بالمدن الجزائرية التي استوقفته عدة مرات كالأغواط وغرادية وغيرها، معتمدا على شهادات وتدخلات الدارسين لفنه وتاريخه الحافل بالمواقف والأحداث والأعمال الخالدة.

 

رسام ومفكر

ارتكزت المعالجة الأولى للوثائقي على جمع ما توفر من أرشيف ومراجع عن الشخصية الرئيسية للعمل، لتكون المعالجة الثانية والنهائية أثناء عملية التصوير، والتي أبانت عن معلومات ومحاور جديدة، مع تسجيل نقص كبير في المراجع والأعمال الفنية من أفلام ووثائقيات تتناول سيرة هذا الرجل العالمي بفكره وفنه ومواقفه تجاه الجزائر، فنزوله بها تزامن والاحتلال الفرنسي.

وفي محاولة لاقتفاء أثره يتتبع وثائقي المخرج أسامة الراعي أهم المراحل التي صنعت من دينيه كاتبا ومفكرا ورساما كبيرا، فبغض النظر عن أعماله التي كانت تجمع بين الواقعية والانطباعية، انفرد ببعض التقنيات التي صنعت تميزه، كاشتغاله على التأثيرات الضوئية في رسوماته، فالكل أصبح يدرك مدى اختلافه عن أساتذته وأبناء جيله من التشكيليين في الأفكار والأسلوب حسب قول جون بيار بيري عضو مجلس بلدية إيريسي الفرنسية.

كان دينيه دائم الاقتراب من الواقع والشخصيات التي تصنع اللحظة فتستفز ريشته استفزازا جميلا، خصوصية جعلت الكثير يهتم إلى يومنا هذا بمواضيع لوحاته، ولهذا ارتأى المخرج أن يفتتح العمل بمزاد علني لأعمال رسامين نقلوا صور الشرق المُغيب جماله وتحضره إلى الغرب.

صورة بورتريه لدينيه بعد إسلامه، فهو من الفنانين القلائل الذين جعلوا الفن وسيلة لسرد مختلف القصص الإنسانية

 

المستشرق الإنساني

لم يكن دينيه الذي أسس سنة 1893 جمعية الفنانين الفرنسيين المستشرقين؛ المستشرق الوحيد الذي ألهمته الموضوعات المتنوعة التي تزخر بها الطبيعة المغاربية عموما، فقد منحته زياراته المتكررة للجزائر عوالم جديدة ومواضيع متنوعة، فزارت لوحاته أكبر المعارض في القارتين الأوروبية والأمريكية على وجه التحديد، وجعلت فنانيها يقصدون دول شمال القارة والمغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب) لتغذية أفكارهم ورسوماتهم، فتنوعت الموضوعات وانصبّ الاشتغال على العمارة الإسلامية والعادات واليوميات والمساجد، ونالت الطبيعة المبهرة من ريشة دينيه ومن أتوا بعده ولجؤوا إلى بيئة جمالها مكتمل ومتكامل المعالم والقوام.

كان إيتيان دينيه من الفنانين القلائل الذين جعلوا الفن وسيلة لسرد مختلف القصص الإنسانية، وحماية التراث الشعبي الذي قد يهدده النسيان والإهمال أو الهدم على يد المحتل الفرنسي، فقد عُرف بدفاعه عن الجزائريين.

لوحة لفيضان في “وادي المزي” في الجزائر ، والتي رسمها الفنان إيتيان دينيه عام 1891

 

إسلام دينيه.. صدمة فرنسية

عرض الوثائقي بعض المخطوطات والمراسلات التي طالب فيها دينيه قوات بلاده برفع أيديهم عن مدينة بوسعادة التي قضى فيها ما تبقى من عمره، مواقفه العادلة التي تنتصر للحياة وتدافع عن الإنسان لم ترق لأبناء بلده من مسؤولين عكسريين أو فنانين، فتعرض لهجوم مستمر وأثّر ذلك على فنه بالسلب.

شكل إسلامه سنة 1913 صدمة أخرى للفرنسيين عموما والتشكيليين المستشرقين على وجه الخصوص، وهو الذي كان يُنتظر منه التبشير بالمسيحية وسط الأهالي بالجزائر، فوقع ناصر الدين دينيه بين التخوين والمقاطعة، وأقصيت لوحاته التي كان الطلب عليها كبيرا في السابق من الجوائز والتتويجات، كل هذا لم يكسر عزيمته، فالباحث عن الحقيقة، العادل بين الناس بالفطرة، والمتطلع لمعرفة أدق التفاصيل واصل اشتغاله، فقال بالكتابة عما لم تسعه اللوحة والريشة.

لوحات ناصر الدين دينيه تنبض بألوان السعادة التي تعيد للنفوس جمال الحياة

 

لوحات تغازل الطبيعة والإنسان

تنبض لوحات ناصر الدين دينيه -التي تغازل الطبيعة والإنسان على حد سواء- بألوان السعادة التي تعيد للنفوس جمال الحياة، وتوثق لمراحل وتفاصيل هامة وجدت في مجتمع يختلف عن بيئته الفرنسية في كل المجالات. وقد نقلت أعماله -بعد تكرار زيارته لمدن جزائرية (بسكرة وغرداية والأغواط) قبل الاستقرار في إحداها- بشكل دقيق التعايش السلمي الذي كان يلقاه هذا الفرنسي من قبل السكان والأهالي، مما جعله يندمج سريعا معهم، فعدد اللوحات التي خصّ بها بوسعادة وحدها فاقت 130 تحفة وتعكس عشقه للمدينة على بساطتها ونظرته لأهاليها وسر انسجامه مع عاداتها.

يُروى على لسان الدارسين لأثره أنه أصبح “بوسعادي” الهيئة واللسان أكثر من سكانها الأصليين، واشتغاله على بعض التفاصيل التي تنفرد بها البيئة الثقافية والاجتماعية للمنطقة جعل ريشته تتميز عن أعمال أبناء جيله من الفنانين التشكيليين، فعندما يصوب نظره إلى الإنسان يستخرج من بساطته أبلغ صفات الجمال.

فنان فهم العرب بفرادة

قال عنه زافي راي محافظ متحف أورساي بباريس “كان يبحث دائما عن اللحظة المناسبة لرسمها، تابع مسار من سبقوه لكنه طور نفسه بشكل سريع، وأصبحت لرسوماته لمسة خاصة جدا وبألوان نابضة جدا”، ويعتبره فريدريك شانوا الخبير في الفن الاستشراقي الأرقى من بين الفنانين الآخرين، لأنه فهم العرب بطريقة فريدة.

ويرجح خذير بن شيكو المختص في تاريخ دينيه أن ما ميز أعمال الفنان اهتمامه بدراسة إنسان الصحراء بكل العوامل المحيطة به، بينما اكتفى فنانون آخرون بتصوير الجوانب الخارجية الأرستقراطية.

ويروي هنري غرو خبير مزادات فنية أن لوحات دينيه لا يزال الطلب عليها، والعرب مثل الغرب مهتمون كذلك برسوماته، فقد اقتنت قطر لمتاحفها أربع لوحات، وكذلك عُمان والمغرب وغيرها من الدول والجنسيات التي تظهر اهتماما متزايدا بفنه، فخلال ثلاثين سنة تم بيع أكثر من 200 لوحة من إجمالي 450 إلى 500 لوحة تحمل أفكاره وتوقعيه، وبعض لوحاته على اختلاف أحجامها بيعت بمليون يورو كـ”شهيد العشق”.

سليمان بن إبراهيم باعمر كان لناصر الدين دينيه خير الرفيق والمرافق في مغامرات الحياة والموت أيضا

 

رفيق الحياة والموت

سليمان بن إبراهيم باعمر لمن يزور الجزائر هو مجرد دليل سياحي، بينما كان لناصر الدين دينيه خير الرفيق والمرافق في مغامرات الحياة والموت أيضا، حيث دُفن الرجلان جنبا إلى جنب، وحجّا معا.

أسلم إيتيان على يد سليمان بعدما درس بعمق تعاليم الإسلام، واختار أن يكون ناصرا للدين الذي مات عليه، وتُوج مسارهما بتأليف “حياة محمد” و”الحياة العربية” و”الشرق في نظر الغرب” و”خضراء أولاد نايل” و”محمد رسول الله”.

تغيرت مواضيع أعمال دينيه كما تغيرت عقيدته تماما منذ اعتناقه الإسلام عن قناعة، وتأديته رفقة سليمان بن إبراهيم فريضة الحج سنة 1929 وهي السنة التي توفي فيها. وفي إسلامه قال دينيه “عرفت الإسلام فأحسستُ بانجذاب نحوه وميل إليه، فدرسته في كتاب الله، فوجدته هداية لعموم البشر، ووجدت فيه ما يكفل خير الإنسان روحيا وماديا واتخذته دينا، وأعلنت ذلك رسميا على رؤوس الملأ”.

تواصلت مساعي دينيه لخدمة الإسلام، وتجلت في مشروع مسجد باريس الذي كان دينيه ضمن لجنة بناء هذا الصرح الديني الهام.

الوصية التي كتبها دينيه قبل وفاته، حيث طالب بدفنه بالجزائر بدلا من فرنسا

 

عناق أبدي للمدينة

عاد ناصر الدين دينيه إلى بوسعادة بتاريخ 12 يناير/كانون الثاني 1930، لكن هذه المرة لم يدخلها مترجلا بل جاءها محمولا على الأكتاف، ليعانق وإلى الأبد تراب المدينة التي بادلها الحب بصدق ومنحته الإلهام بكثير من الاهتمام.

توقف القلب في فرنسا في 24 ديسمبر/كانون الأول 1929، واستقر الجسد بالجزائر عملا بالوصية التي كتبها عندما تغيرت نفسيته الغربية وغيّر عقيدته باعتناقه الإسلام. أما رسوماته البالغة المعاني والجمال وقطعه الفنية النادرة لا تزال تزين جدران القصور والمتاحف وأشهر المعارض في العالم، وستظل شاهدا على تلك البيئة الجزائرية الحاضنة التي ألهمت الكثيرين، وكانت نافذة أطل منها العالم علينا.

ومن بين الشواهد التي تختصر رحلته بين فرنسا والجزائر المتحف العمومي الذي يحمل اسمه ويكتنز بعضا من أعماله، فلا تستقيم ولا تكتمل زيارتك لبوسعادة الحاضنة لجثمانه دون أن تروز متحف ناصر الدين دينيه، وتتأمل لوحاته وتستمتع بالطبيعة الملهمة هناك، وتقرأ تاريخ وفكر الرجل في الكتب أو من خلال اللوحات.

“لوحة الصلاة” التي رسمها الفنان إيتيان دينيه، والتي تعني التواصل والالتحام بين ثلاثة أجيال

 

قصص يلفّها الغموض

لم يتعرف المشاهد على الأثر الذي تركه دينيه الرسام في الفن التشكيلي الجزائري، كما لم يتناول الوثائقي الذي أشرف على إخراجه أسامة الراعي بعض القصص التي تلاحق أشهر الشخصيات، والتي تقع عادة بين الحقيقة والإشاعة، فمن بين ما قيل إن سليمان بن إبراهيم أنقذ رفيقه إيتيان دينيه من القتل بعدما علم الأهالي بنظره خلسة إلى النسوة وهن يغتسلن ويستحممن بوادي المدينة، وكذلك زواجه من الراقصة “خضرة”، فالعمل لم يتطرق إلى هذا الجانب لا بالنفي ولا بالتأكيد.

قصص كثيرة يلفها الشك والغموض والتخوين أيضا، وأسئلة كثيرة تُطرح في كل مرة عن حقيقة اندماجه السريع في مجتمع محافظ تحكمه الأعراف، فمنذ سنة كتب بصحيفة الوطن الصادرة بالفرنسية الكاتب والمسرحي محمد قاسمي موضوعا عنونه بـ”إيتيان دينيه أو اختراع الاستعمار السعيد.. خداع بصري تاريخي”.