الترابي.. رجل الثورة والسلطة والدين وشيخ بنكهة أوروبية

في الخامس من مارس/آذار 2016 ودّع ضجيجَ الحياة إلى الأبد، فترك مكانه شاغرا في الحزب والمسجد والزنزانة وفي قاعات الدرس ومنتديات السياسة والفكر. ولأن الشيخ حسن الترابي قصة تُروى؛ أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما من جزأين يتناول حياته الشخصية ومنعطفاته السياسية والفكرية.

بُث الوثائقي في الذكرى الثانية لوفاة الترابي، واستضاف كوكبة من المفكرين والسياسيين تحدثوا عن الرجل وعن الجدل السياسي والفكري الذي أطلقه في السودان قبل ستة عقود، حيث ينطلق الفيلم من مدينة كسلا المستلقية بين أحضان جبال التاكا بشرق السودان، وتظهر في الصور مئذنة مسجد الختمية الشهير.

وبين الزوايا والصخور والمروج ولد حسن الترابي عام 1932 في بيت علم وسلطة، إذ كان والده قاضيا وضليعا في أصول الفقه، وفي مرحلة مبكرة غرف الترابي من معين والده، فدرس الفقه والأصول ورافقه في تنقلاته بين المحاكم في مختلف ولايات السودان.

يروي أستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد الوهاب الأفندي أن الترابي كان حالة فريدة في دراسته، فقد أفاض عليه والده من علوم الدين ثم التحق بأفضل المدارس في السودان وتتلمذ على يد الأوروبيين.

 

النميري والترابي.. لقاء الغريم

هذه المدرسة هي ثانوية حنتوب النموذجية شرق مدينة مدني، وهناك أقام الترابي في القسم الداخلي إلى جانب صديقه وغريمه وحليفه وسجانه جعفر النميري، وفي أحد مقاطع الوثائقي يظهر الترابي يتحدث عن تركيزه في الدراسة حتى يصل إلى مرحلة أعلى، ويروي أن النميري كان قائدا لفريق كرة القدم ورئيس طلاب القسم الداخلي.

ويعود الفيلم الوثائقي إلى اللحظة الأولى التي دشّن فيها الترابي نشاطه السياسي، ويعرض صورا لجامعة الخرطوم في مطلع الخمسينيات. ويحكي الوزير عثمان عبد الوهاب أن الترابي حصل على شهادة كامبريدج من الدرجة الأولى، والتحق بجامعة الخرطوم، و”هناك التقينا وأصبحنا حركة إسلامية نحن الاثنين” عام 1951.

كانت هذه الحركة شبيهة بجماعة الإخوان المسلمين، وحملت اسم حركة التحرير الإسلامي، وذلك ردا على حركة التحرير السوداني الشيوعية.

ويرافق الوثائقي الترابي في رحلته إلى لندن لنيل درجة الماجستير في الحقوق، وعودته للتدريس في جامعة الخرطوم ومصاهرة آل المهدي. ويحكي أخوه الأكبر دفع الله الترابي أنه حصل لاحقا على منحة لنيل درجة الدكتوراه في لندن، لكنه أقنع اللجنة المعنية بتغيير وجهته إلى باريس رغم أنه لم يكن يتحدث الفرنسية.

في باريس.. لغة القوم

وفي باريس أتقن الترابي لغة موليير ونهل من فكر الثورة الفرنسية وقيمها، ليتوج مسيرته هناك بالحصول على الدكتوراه في القانون والاقتصاد. ومن أضواء باريس عاد الترابي إلى الخرطوم بفهم جديد للسياسة، وتبوأ منصب عميد كلية الحقوق في جامعة الخرطوم، فكان أصغر دكتور يشغل هذا المنصب في تاريخ الكلية.

ويوضح أستاذ الأخلاق السياسية والأديان الدكتور محمد المختار الشنقيطي أن المتعارف لدى الناس أن الترابي درس في السوربون، لكن الصحيح أنه نال الدكتوراه من جامعة باريس، و”وتجاوز أيدولوجيات اليسار التي تتنكر للهوية الإسلامية”.

أما الأمين العام السابق لحزب المؤتمر الشعبي إبراهيم السنوسي فيعلق على هذه المرحلة بالقول “جاء مشبعا بفكر الثورة الفرنسية؛ الإخاء والمساواة والحرية”.

 

الإطاحة بنظام عبود

ومع عودة الترابي للتدريس في جامعة الخرطوم اندلعت حرب الجنوب عام 1956 إبان رئاسة إبراهيم عبود للبلاد. وعلى خلاف السائد في الفهم السياسي آنذاك، كانت لدى الترابي رؤية مغايرة للقضية الجنوبية، إذ رأى أنها مشكلة دستورية واجتماعية لا يمكن أن يحلها العسكر.

وعبّر الترابي عن هذه الرؤية في محاضرة شهيرة بكلية الحقوق، وقال إن النظام القائم يحب أن يسقط، ثم بدأ تعبئة الطلاب والشارع، مما قاد لثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 التي أطاحت بنظام إبراهيم عبود.

ويقر المفكر السوداني منصور خالد بجهد الترابي في التعبئة لثورة أكتوبر/تشرين الأول، لكنه يرى أن رفاقه بالغوا في هذا الجانب، “وهناك مجموعات كبيرة شاركت في الثورة”.

الترابي أصبح عضوا في البرلمان السوداني في 1965، وقد أقام تحالفات تحت قبته لمواجهة الشيوعيين

في مواجهة الشيوعيين

يتوقف الوثائقي عند انعطافة مهمة في مسيرة الشيخ المعمم وخريج الحقوق من باريس ولندن، فقد استقال الترابي من العمل الأكاديمي ودخل معترك السياسة وأسس حزبا يدعى “جبهة الميثاق الإسلامي” ونأى به عن الإخوان، وفي هذه الحقبة تحدّث عن العزلة الشعورية وجنسية المسلم وعقيدته ومجتمع المؤمنين، “وكانت أفكاره مشابهة لفكر النمط اليساري”.

دخل الترابي البرلمان في انتخابات 1965، وأقام تحالفات تحت قبته لمواجهة الشيوعيين، وانتُخب رئيسا للجنة كُلفت كتابة دستور جديد للبلاد. وما لبث الترابي أن وجد فرصة سانحة للانقضاض على الشيوعيين، فقد أساء أحد طلبتهم للجناب النبوي “واستغل الحادثة وعبأ الناس وساروا معه بمن فيهم الرئيس”.

ويروي السياسي والأكاديمي النور حمد أن الترابي أربك المشهد السياسي؛ فثار الناس وحاصروا البرلمان مطالبين بحل الحزب الشيوعي، وذلك انطلاقا من كونه ملحدا بنظرهم.

وعند هذه النقطة تعود الكاميرا لمنصور خالد ليقول إن الترابي كان يمثل شخصيتين مختلفتين، وإن حرصه على القيم الليبرالية يتمثل في تفكيره أكثر منه في ممارساته، أما الشنقيطي فينظر لهذه الممارسة من زاوية “الدهاء السياسي الذي مكنه من التغلب على خصومه”.

في السجن ألّف الترابي كتبه المهمة، وسنحت له الفرصة لقراءة كتب كثيرة جلبها من فرنسا وبريطانيا

عصر الزنزانة

ارتدّت الطعنة إلى الترابي، فقد نفذ الشيوعيون الأقوياء حينها انقلابا على السلطة الحاكمة، وتولى الرئيس جعفر النميري مقاليد السلطة في البلاد، وعلى الفور بدا أن الشقاق السياسي أقوى أثرا من وشائج مدرسة حنتوب وكرة القدم، فأوصد النميري باب الزنزانة على الترابي.

يقول عبد الوهاب الأفندي “لقد سَجنوا الناس كلهم بمن فيهم الترابي”، وعلق النور حمد بالقول “كان انتقاما، فأغلب الانقلابيين شيوعيون وبينهم عروبيون”.

لم تكن هذه سوى البداية، فقد كان الترابي أكثر السياسيين ترددا على السجن على مدى تاريخ السودان، ويروى أن حقيبة السجن كانت دائما جاهزة ومرتبة لأنه يتوقع رميه خلف القضبان في أي وقت.

وفي السجن ألّف الترابي كتبه المهمة، وسنحت له الفرصة لقراءة كتب كثيرة جلبها من فرنسا وبريطانيا. يقول في مقطع بالفيلم إن “المجتمع السوداني لا يأذن لك بالقراءة”، وكان السجن فرصة مناسبة لقراءة كتب تراكمت من قبل في الخزانة.

في هذه الحقبة تشكلت الجبهة الوطنية ورأسها الصادق المهدي، وضمت كيانات سياسية كانت تعمل خارج السودان. قضى النميري على المهدية، وعندما فشل الشيوعيون في إسقاطه بمحاولة انقلابية قضى عليهم، ومات الحزب الشيوعي السوداني الذي كان أقوى حزب يساري في الشرق الوسط.

بحث النميري عن مقاربة أخرى وحلفاء جدد، فأفرج عن الترابي و”تعانقا كأصدقاء” لم يلتقوا منذ عهد بعيد

النميري.. من غريم إلى حليف

بحث النميري عن مقاربة أخرى وحلفاء جدد، فأفرج عن الترابي و”تعانقا كأصدقاء” لم يلتقوا منذ عهد بعيد، ومن هذه الحظة بدأ الترابي التفكير بثورة شعبية ينحاز لها الجيش وتُسقط النظام.

عمل خصوم النميري من الخارج ونفذوا أكثر من محاولة انقلابية، لكن الجيش كان يسحقهم في كل مرة، “وظل الترابي أسيرا”. كثرة المحاولات أرعبت النميري فخطب ودّ خصومه بإعلان المصالحة الوطنية عام 1977، وكذلك غيّر الترابي هو الآخر تكتيكاته فقبل الصلح، وبدأ “اختراق النظام والقبائل والطرق الصوفية وتغلغل في القوات المسلحة، وتعاظم النفوذ الإسلامي في الاقتصاد والسلطة”.

ومن غريم تحوّل إلى حليف للنميري وشريك في السلطة، فشغل حقيبتي الداخلية والعدل وتولى رئاسة لجنة مراجعة القوانين، وشغل الشارع بأفكاره التجديدية والتحررية، وبنى قاعدة شعبية عريضة في عموم السودان، ونال إعجاب العالم الغربي في الوقت ذاته.

اتخذت المرأة حيزا مهما من جهده القانوني، فحصلت على المساواة في الحقوق والراتب مع الرجل، وأفتى بجواز إمامتها للصلاة. ويقول منصور خالد إن الترابي رجل جريء واجه ديناصورات رجعيين ودفع ثمن مواقفه فيما يتعلق بالمرأة.

 

التجديد والتمكين

في هذه المرحلة أصدر الترابي كتبه؛ قضايا الوحدة والحرية، وتجديد أصول الفقه، وتجديد الفكر الإسلامي، والأشكال الناظمة للدولة الإسلامية المعاصرة. يقول الأفندي إن هذه الكتب عكست نهجه التجديدي، فكان ينظر إلى المقاصد وينتبه إلى أن الفقه يتأثر بالزمان والمكان.

وعندما اشتد عود الإسلاميين في السودان اشتدت حاجة النميري لهم، فأقنعوه بتطبيق الشريعة الإسلامية رغم أنه كان شيوعيا، وفي هذه الحقبة أُعدم محمد محمود طه لارتداده عن الإسلام.

ويقول النور حمد إن الترابي هو من أدخل حد الردة في قانون العقوبات، فيما ينفي السنوسي أن يكون له دور في إعدام الرجل. ومع الوقت تحول الترابي إلى وجه لنظام النميري، وكان يتحدث لقنوات أجنبية عن كيفية قيام الحضارة الإسلامية.

وعندما ضاق الغرب ذرعا بنفوذ الترابي في الخرطوم؛ جاء بوش الأب وحرّض النميري على الحركة الإسلامية، فقرر القضاء على قادتها ومن بينهم الترابي إذا لم يختفوا عن الأنظار، وكالعادة حمل الترابي حقيبته إلى السجن ومكث في زنزانته إلى أن انتفض الشعب السوداني ضد الغلاء عام 1985، وأطاح المشير سوار الذهب بالنميري.

الحقبة المهدية

عاد الترابي للمشهد السياسي، وبعد عام تنازل سوار الذهب عن السلطة، وانتُخب الصادق المهدي رئيسا للوزراء. واصل الترابي تغلغله في قوى الدولة والمجتمع، وعلّق الشنقيطي على هذا النهج بالقول “كانت لديه مرونة ذهنية وسياسية، كسب المعركة ضد خصومه وآمن بالقوة لا بالوعظ”.

كان الترابي على وعي بأن كل الحركات الإسلامية ضربها الجيش، وكان عليه أن يتفادى هذا المصير عبر اختراق القوات المسلحة، فتتلمذ على يده ضباط رفيعون آمنوا بفكره ورؤيته، وشكّل الترابي حزب الجبهة الإسلامية القومية، وفاز بمقاعد بالبرلمان في عهد رئاسة المهدي للوزراء.

وبينما كانت أفكار الترابي تواصل تمددها في ثكنات الجيش؛ تدخل اليساريون لدى قائد القوات المسلحة وأقنعوه بأن يطلب من المهدي حلّ الحكومة وإلغاء التشريعات الإسلامية والشراكة في السلطة مع الإسلاميين، فقبل المهدي كل هذه الإملاءات، وهنا رفع الترابي شعار “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم”.

تأسس مكتب سري يقوده الترابي، وبدأ التخطيط للوصول إلى السلطة عبر القوة بعدما يئست الحركة الإسلامية من جدوى العمل السياسي عدة عقود.

لم يكن البشير سوى تلميذ للترابي الذي نظّر وخطط للانقلاب

البشير.. مريد الشيخ الداهية

بعد منتصف ليل 30 يونيو/حزيران 1989؛ أزاح العسكر الصادق المهدي من السلطة وتلوا بيانهم الأول، فقد استيقظ الناس على خبر يقول إن ضابطا مغمورا يدعى عمر حسن البشير دخل القصر عنوة، وذلك من أجل إنقاذ الوضع المتدهور في البلاد.

لم يكن البشير سوى تلميذ للترابي الذي نظّر وخطط للانقلاب، لكن الشيخ الداهية قرر التمويه حتى لا يُعرّض الحركة لضغط دولي وإقليمي، وحتى لا يحصل انقلاب معاكس، فمكث في السجن بضعة شهور. وعن هذه الممارسة يقول الترابي نفسه “ذهبت للسجن حبيسا.. وذهب البشير للقصر رئيسا”، وهنا يقول الشنقيطي “من تناقضات الترابي أنه ينظّر للتعددية وأنه أول إسلامي يقود انقلابا عسكريا”.

وبالفعل نجحت الحركة في هذا التمويه، فلم يكن للمخابرات المصرية والأمريكية والبريطانية أي علم بهوية الحكام الجدد، وقد بادرت مصر للاعتراف بالانقلاب، وحطت طائرة حسني مبارك في الخرطوم للتهنئة، ثم توسط للبشير لدى صدام حسين فأمده بالنفط مجانا وتحسن الوضع المعيشي في السودان.

وبعد فترة غادر الترابي زنزانته الطوعية إلى بيته في حي المنشية، فكان يمارس منه سلطات القائد الأعلى للبلاد، بينما كان البشير مريدا في حضرة الترابي ليلا، وموظفا له بالقصر عندما يتجلى النهار.

راشد الغنوشي يؤكد أن الحركة الإسلامية في السودان حزب وليس مشيخة دينية، وأن دور المرأة فاعل في المجتمع

القصر والمنشية

في هذه الحقبة أحيط ببيت الترابي زخم كبير، ودخلت ثنائية “القصر والمنشية” في المعجم السياسي بالسودان. يقول مدير مكتبه المحبوب عبد السلام إن الترابي شكل أجهزة شورى وكان يحكم من بيته، ثم توافدت عليه الحركات الإسلامية والعربية للتعرف على فكره وممارساته في القيادة.

وفي حديثه لوثائقي الجزيرة يقول رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي “اطلعنا على الحركة في السودان ورأينا حزبا حديثا وليس مشيخة دينية، لاحظنا دور المرأة الفاعل وهذا يميز السودان”.

أما رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل فيروي أنه زار السودان عندما كان في الـ24 من عمره، ويقول “احتضنني الترابي وتناقشنا في رؤيتنا للغرب والتعامل معه، وناقشنا مشاغل الحركات الإسلامية”.

ورغم ذلك، ظلت علاقات الترابي بجماعة الإخوان المسلمين متوترة ورفض الانضواء تحت لوائها، انطلاقا من إيمانه بخصوصية السودان.

رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل يروي أنه زار السودان عندما كان في الـ24 من عمره

الترابي يحاور الغرب

وهنا يلاحظ الشنقيطي أن الترابي مارس الشيء نفسه الذي عابه على الإخوان، فقد أسس مظلة عالمية شبيهة بهم تحت عنوان “المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي”. توسّع هذا المؤتمر لاحقا وانتمت له أحزاب إسلامية وقومية ويسارية وحتى مسيحية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، ممّا جعل الدول الكبرى ترتاب من مشروع الترابي.

لكن النور حمد لم ير في هذا الزخم العالمي سوى “تصورات هلامية وصورة مضخمة، فالسودان ليس مركزا، فهو استُغل فقط لأسلمة العالم العربي”. ويشير الأفندي إلى أن الترابي لم يتردد في تلبية دعوة الكونغرس الأمريكي في لقاء مشهور نُشر مضمونه في كتيّب بعنوان “الترابي يحاور الغرب”.

وعندما حلّ الترابي ضيفا على الكنديين حدثت قصة الاعتداء الشهيرة أثناء مغادرته المطار، فقد هجم عليه السوداني الجنوبي هاشم بدر الدين وضربه في الرأس، ليدخل في غيبوبة لم يتوقع الأطباء أن يخرج منها، لكن عناية الله أدركته فاستعاد صحته وعقله وعلمه.

مصر تتهم السودان والترابي تحديدا بتدبير العملية اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك أثناء زيارته للعاصمة الإثيوبية

موسم الأكدار

لم يدم صفو الأيام طويلا للحركة الإسلامية في الخرطوم، فقد رماها الزمان بالأكدار وحصلت تقلبات وتطورات وضعتها أمام مجموعة من التحديات. ففي عام 1990 غزا الرئيس العراقي صدام حسين الكويت، فحشدت أميركا العرب والعالم لطرد قواته، وعندما رفض الحكام الإسلاميون في السودان السير في هذا الاتجاه عاقبهم الغرب وصنفهم ضمن المغضوب عليهم، واستقر السودان في “محور الشر” حتى اليوم.

وقد اشتد غضب الغرب من الترابي عندما استضاف السودان أسامة بن لادن وكارلوس المطلوب في قضايا كثيرة، ورفضت الخرطوم تسليم الرجلين. وبرره أنصار الترابي هذا الرفض بالقول إن بن لادن دخل البلاد مستثمرا على رأس شركة سعودية كانت تنفذ مطار “بورت سودان” ثم قرر البقاء بمحض إرادته، أما كارلوس فلم تكن هناك اتفاقية تسليم مجرمين بين باريس والخرطوم، وعندما جاء فرنسيون يطلبونه حدثهم الشيخ بلغتهم، وأوضح لهم ضرورة اتباع الإجراءات السليمة وفق قانونهم الذي يتقنه أيضا.

ثم إن المصائب لا تأتي فرادى، فقد حاول مسلحون اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك أثناء زيارته للعاصمة الإثيوبية للمشاركة في قمة أفريقية، وحينها اتُهم السودان والترابي تحديدا بتدبير العملية، ووفق أنصار الرجل فقد استُغلت الحادثة لضرب الحركة الإسلامية في السودان، وذلك على الرغم من أن الترابي كان يقول “إن الاغتيالات السياسية لا تغير التاريخ وإنما تعقده”.

وبالفعل كانت تقف خلف محاولة اغتيال مبارك أجهزة في الدولة السودانية، لكن منصور خالد يشدد على أن الترابي والبشير لم يكونا على علم بها. وفي الحرب الجنوبية ظلّ الترابي فاعلا وموجِّها لجبهات القتال، وفق النور حمد “فهذه واحدة من الأشياء التي تؤخذ عليه وتسيء له كمفكر”.

بعد سبع سنوات من حكم الإنقاذ سلك الترابي منعطفا جديدا وطالب بالتعددية ودولة لا يولد فيها قائد وإنما تختار قائدا

غَدْر المريدين

بعد سبع سنوات من حكم الإنقاذ ومواجهته تحديات داخلية وخارجية، حيث سلك الترابي منعطفا جديدا و”طالب بالتعددية ودولة لا يولد فيها قائد وإنما تختار قائدا”، وعندما طلب الترابي من العسكر التحول لمدنيين؛ انقلبوا عليه وقلصوا من صلاحياته وبدأ الصدام بين الشيخ ومريديه.

وقد كان دستور 1998 ثورة إصلاحية برعاية الترابي، لكن البشير ورهطه كانوا أقوى فأعلنوا حالة الطوارئ وحلّ البرلمان. واعتَبر الترابي هذا السلوك غدرا وخيانة وانقلابا، وقال إن تلامذته من الضباط تحولوا إلى عصابة تغدر وتخون، و”إنهم فاسقون وفاسدون”. وعندما تضاربت المصالح شدد الترابي على أنه لن يركع ولن يخنع، فاعتقله تلميذه البشير ورمى به خلف القضبان.

ويأسف منصور خالد لأن الترابي لم يتعلم من تجربته مع النميري، وإلا لكان توصل إلى أن “العسكري لا يقبل التغيير ولا يتخلى عن السلطة”. وبعد 15 عاما من الفراق مُدت الجسور مجددا بين الجانبين، لأن الترابي كما يقول الأفندي “كان ابن العصر والواقع، ولا يعيش داخل الكتب مثل مفكرين مسلمين كثر”.

في ليلة الخامس من مارس/آذار 2016 رحل الترابي قبل أن تؤتي أفكاره الجديدة أكلها

لكل أجل كتاب

ويلاحظ منصور أن الجانب الفكري طغى على عمل الترابي في أيامه الأخيرة، و”مؤسف أن يرحل قبل أن تؤتي أفكاره الجديدة” أكلها.

وفي ليلة الخامس من مارس/آذار 2016، أراد الترابي أن يبرئ نفسه أمام ربه ووطنه، فسهر يعد ورقة سياسية عن حقوق المرأة والديمقراطية والحرية. وعندما انبلج الصبح دلف إلى مكتبه “وحبّرها بخطه الجميل” ثم أسلم الروح لباريها، فبكته مدن السودان وأنهاره وأوديته.

وبعد عامين من رحيله يقول الشنقيطي إن تجربة الحركة السودانية متقدمة في الخطأ والإصابة، وسيحكم الزمن عليها “هل انهزمت المبادئ لصالح البرامج أم أن البرامج ستخدم المبادئ؟.. المؤرخون هم من سيحكمون”.

أما النور حمد فيقيّم تحولات وانعطافات الترابي بالقول إنه “سياسي ناجح قادر على الحركية والتعبئة والاستمرار لزمن طويل، ومَخَر بالتنظيم أمواجا متلاطمة، واستطاع أن يظل على ألسنة الناس في الداخل والخارج، وهو شخصية جدلية في المقام الأول”.