“جورج سيدهم”.. إسدال الستارة الأخير لصانع البسمة في الوطن العربي

د. أمــل الجمل

كان الفنان الكوميدي المصري جورج سيدهم يمتلك موهبة كبيرة في الأداء التمثيلي بمختلف أنواعه، رغم أن شهرته الكبرى أنه كوميديان، لكن المتأمل لأدواره المختلفة يكتشف قدرته على التلون في الأداء عندما يتيح له السيناريو الفرصة لذلك، وإن ظل يُوظف الكوميديا لمناقشة القضايا الإنسانية، منتقدا الأوضاع الاجتماعية والأخلاقيات السيئة.

كان جورج يعتمد على السخرية اللاذعة لتكريس قيم أخلاقية في أعماله المسرحية، فالضحك عنده له أهداف وليس مجرد نوع من التهريج أو كوميديا الفارس، ولم ينتهج أسلوب الضحك من أجل الضحك كما كان يفعل آخرون، رغم بداياته المرحة الساخرة جدا مع “ثلاثي أضواء المسرح” من خلال الاسكتشات سواء في البرامج أو الفوازير مثل “شالو ألدو جابو شاهين”، و”الطالب عبد المعطي جاد الحق” أو في اسكتش “أبناؤنا في الخارج”، أو دوره الناجح جدا في “لو كانوا سألونا” الذي قلدته كثير من الفرق والأجيال وما زال حتى اليوم يوظف لحنه على كلمات أخرى أحيانا.

وكذلك أداؤه في اسكتش “كوتو موتو يا حلوة يا بطة” الذي يتألق فيه بمهارة كبيرة في تقمص دور امرأة من أحياء شعبية تقدم وصلة ردح غنائي دفاعا عن ابنها المدلل، ويقوم بدوره الممثل الضيف أحمد الذي رحل وترك مكانه شاغرا بفرقة “ثلاثي أضواء المسرح” عام 1970.

 

طبخة التمثيل والموسيقى.. تنويعات الفنان الشامل

تنوعت أدوار جورج سيدهم بين الفوازير والمسرح والاسكتشات والأفلام والسهرات والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية، كما تعددت مواهبه بين التمثيل والكتابة أحيانا، وبامتلاك صوت قادر على التلون في أداء الأغاني بدرجات متباينة كانت وما زالت تجلب الضحك والسعادة لجمهوره رغم أنها أُنتجت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.

كان يتميز برشاقة الحركة والقدرة على الرقص بخفة ظل ومرح كبيرين على خشبة المسرح رغم وزنه الثقيل، وقد تمتع بمواهب أخرى مثل التلحين الموسيقي، إذ كان يُلحن مقاطعه الغنائية وأدواره التي يُقدمها مع الثلاثي بنفسه، كما يقول عن نفسه إنه كان “يلعب بشكل جيد جدا على الرّق والصاجات والطبلة والباند، ويستخدم الجاز بصورة خفيفة” فليس صحيحا على الإطلاق أن اسكتش “لو كانوا سألونا” الذي قدمه بفيلم 30″ يوم في السجن” هو العمل الوحيد الذي قام بتلحينه، بل إن أغلب أعماله مع الثلاثي هي من تلحينه.

كل هذا يضاف إلى موهبة أخرى تتمثل في الطهي وعمل الحلويات، فقد كان يعشق الطهي والتلذذ بالطعام، حتى أنه عندما احترق مسرح “الهوسابير” الذي كان يمتلكه في أحداث الأمن المركزي عام1986  ولم يجد عملا افتتح مطعما قام فيه بدور الطاهي، وكان يفعل ذلك بسعادة، وأطلق على الأصناف أسماء بعض مسرحياته.

 

“دخان بلا نار”.. متاهة الأدوار الصغيرة

من أشهر أدوار جورج سيدهم “شالومو اليهودي” في مسلسل “رأفت الهجان”، و”نوبار باشا” في مسلسل “بوابة الحلواني”، و”عبد العظيم الفتك” الذي يذهب لخطبة امرأة من زوجها بعد أن وقع في غرامها بفيلم “البحث عن فضيحة”، و”عبد الرحيم” صديق البطل والناصح العبقري في شؤون الحب ومكايد النساء بفيلم “الشقة من حق الزوجة”.

إنه أيضا مؤلف الأغاني الرومانسي المجهول “سعيد ماهر” وصديق آخر للبطل بفيلم “قصر في الهواء”، ومن أدوار الشرف شخصية “ظريف” المعلق الرياضي بفيلم “أونكل زيزو حبيبي”، وصاحب الشقة الذي ينصب على نور الشريف وسعاد حسني بفيلم “غريب في بيتي” (1982)، كان ضيف شرف بمشهدين فقط لكنه قدم خلالهما جملة ظل يحاكيها الكثيرون: “شحاتة أبو كف، عفاف عبد الواحد.. أشوفكم أمس”.

ثم استهلك جورج نفسه في أدوار صغيرة ثانوية يصعب أن تصدق أنه قام بها بعد أدوار البطولة والنجومية الكبيرة التي قدمها، فهو محروس الموظف الصعيدي سيء السمعة الذي يجلب العار لأهله بتصرفاته الطائشة وملاحقة النساء في “دخان بلا نار” (1986) ولكن بمشاهد معدودة، وصاحب دور آخر مشابه وإن كان قصيرا جدا في “امرأة سيئة السمعة”، وهو “حسني” بفيلم “الجراج”، و”هيثم النصاب” المدعي صاحب الخلطات الشعبية التي تُؤذي الناس وتسبب لهم العاهات، ثم يتحول إلى طباخ بمسلسل “زغلول يلمظ وشقوب” (1990) مع إسعاد يونس التي تستكمل فيه أجزاء المسلسل الشهير “بكيزة وزغلول”.

وهو أيضا “مسعود” أو السجين “نمرة واحد” بمسرحية “فندق الأشغال الشاقة” (1969) حين كان اسمه ما يزال يتصدر التتر ويتقدم على اسم سمير غانم في بعض الأحيان، بل كانا يتبادلان ذلك حتى يتغلبا على مشكلة من يأتي اسمه الأول؟ فاخترعوا فكرة التوازي، أو طباعة أربعين ملصقا عشرون منها يتقدم فيها اسم جورج، والعشرون الأخرى يتقدم فيها اسم سمير، أو يطرحان الأفيشات بالصور فقط دون أسماء، فهل كان مكان وحجم الاسم هو سبب انفصال سمير عن جورج، أم أن سمير أراد أن يقول أنه نجم مع الثلاثي أو من غيرهم، أم تُرى كانت هناك أشياء أخرى جعلت جورج يقدم شخصية الصول “مرسي” بطل مسرحية “حب في التخشيبة” (1994) لتكون أول مسرحية بدون رفيق رحلة التمثيل منذ كانا يدرسان في الجامعة؟

 

“المتزوجون”.. ذكرى نجومية انفرط عقدها

صحيح أن الحديث عن جورج سيدهم يستحيل بدون الحديث عن فرقة “ثلاثي أضواء المسرح”، كما يستحيل أن نتحدث عن الضيف أحمد أو سمير غانم من دون ذكر فرقة الثلاثي، وبالرغم من أن جورج سيدهم قدم أعمالا قد تتجاوز 130 عملا فإن أشهر أعماله وما يتذكره أغلب المشاهدين هو دور “حنفي” بمسرحية “المتزوجون” (1971) التي كان التلفزيون المصري يُذيعها مرارا وتكرارا.

كما يتذكر المشاهدون شخصية الدكتور “زناتي خليفة” بمسرحية “أهلا يا دكتور”، والاسكتشات العبقرية في “30 يوم في السجن”، أما جيل الستينيات فيتذكر له الاسكتشات الساخرة الضاحكة التي قدمها مع فرقته “ثلاثي أضواء المسرح” وقد أعاد موقع يوتيوب إحياءها فصارت تُرفه عن الناس في ظل الاكتئاب والإحباط الناجمين عن الحبس الاضطراري بسبب جائحة كورونا.

من يتأمل بداية جورج سيدهم يندهش للنهاية التي وصل إليها، ليس فقط بسبب المرض والأزمة الصحية الخطيرة التي أصابته بالشلل لما يزيد عن 20 عاما، لكن أيضا لعدم الحفاظ على نجوميته كما فعل شريكه سمير غانم، فانفرط عقد الثلاثي مرة برحيل الضيف، ومرة ثانية بخروج سمير، رغم أن مَنْ يتأمل بدايات سمير وجورج يشعر بقوة موهبة وثقافة وحضور كوميدي عند جورج سيدهم بشكل طاغ، لكن في اعتقادي أنه لم يُحسن إدارة نفسه، ولم يسع لتطوير موهبته والخروج من الخانة التي وضعه فيها المنتجون، فوقع في فخ التكرار والأدوار النمطية التقليدية.

ثم أصبح يظهر في أدوار شرف في عدد غير قليل من الأفلام، إلى جانب أدوار صغيرة ثانوية بأفلام ومسلسلات أخرى، مما يجعلنا نتساءل لماذا لم يرفض جورج هذه الأدوار، لماذا لم يواصل العمل على صناعة نجمه بنفسه، أين طموحه في تجهيز مسرحه بأحدث الإمكانيات العالمية، لماذا لم يبحث عن من يكتب له سيناريوهات تُبرز إمكانياته وقدراته في مناطق أداء أخرى بعيدة عن الكوميديا طالما أن الكتابة الكوميدية للسينما كانت تواجه مأزقا بشكل عام، لماذا لم يفكر في الإنتاج السينمائي ليُقدم نفسه في أدوار مغايرة؟

 

“لما أكبر أكون مسنود على ضمير يخلق إنسان”.. الهاوي المنتصر للإنسان

لا شك أن الفجوة كبيرة وشاسعة بل شديدة المأساوية بين البدايات القوية المبشرة الواعدة والمتأججة بالحيوية والوهج الفني، وبين النهاية الميلودرامية الحزينة، المؤلم في حكاية جورج سيدهم أنه كان فنانا مخلصا لعمله منحازا للإنسان ويرفض الخروج عن النص، وساهم في تقديم واكتشاف مواهب، فهو من اكتشف دلال عبد العزيز وقدمها في مسرحية “أهلا يا دكتور”، مثلما قدم ثمانية أبطال صغار كانت أعمارهم ما بين 6-12 عاما. بمسرحية “موسيكا في الحي الشرقي” قام بصناعتهم في هذا العمل.

كانت مهمة جورج سيدهم والمخرج حسن عبد السلام أن يجعلوا هؤلاء الصغار -الذين ليس لهم دراية بعالم التمثيل- يتواءمون ويتلاءمون مع أجواء المسرح ويتعايشون معه، حتى قاما بترويضهم لعملية المسرح نفسها، لذلك جاءت النتيجة ممتازة.

رغم إيمان جورج بذكاء المتفرج فإنه كان يرغب بتطوير المتلقي وخلق قيم جديدة بداخله، وهذا يتضح بقوة في شخصية “د. زناتي خليفة” بمسرحية “أهلا يا دكتور”، حيث يناقش إشكالية الممارسات الطبية غير الأخلاقية وسرقة المريض، مثلما يتضح بمسرحية “فندق الأشغال الشاقة” (1969) التي يختتمها بحوار يقول فيه: “من الحضانة علم ايديا تشيل الأمانة، دَخَّل ضميري وِرَش الصيانة من الحضانة، علشان لما أكبر أكون مسنود على ضمير يخلق إنسان.. ساعتها ابني مش هيشوف مسجون ولا سجان”.

كان جورج يعتبر نفسه هاويا، وربما كانت كلمة هاوي أحد أسباب تعطل تقدمه، فهو كما يقول: “لا أعتبر نفسي محترفا، أنا بامارس الفن مزاج”، فهل هذا الشعور نزع منه الرغبة في التسابق مع الآخرين لصناعة اسمه والحفاظ على نجوميته خصوصا في السينما كما في المسرح، أم أنه كان ينتمي لتلك النوعية التي تنجح في المسرح ولا تنال حظا مماثلا في السينما كما حدث مع الفنان محمد صبحي، أم هو من نوعية أخرى تتألق مع شركاء معينين، فإن اختفوا انطفأ بريقها؟

 

مسرح في المنزل.. بين الصدف وتصاريف القدر

في حوار له ببرنامج “اثنين على الهواء” مع الإعلامي المصري طارق حبيب قال جورج سيدهم إنه مثلما بُثت فيه الحياة صدفة، فقد دخل التمثيل واحترفه أيضا صدفة، فعندما وُلد تخيلت القابلة أنه ميت لأن لونه كان أزرقا وكان صامتا، فلفته في خِرْقَة قديمة وتركته تحت السرير حتى يدفن، ثم جاءت جارتهم لتطمئن على الأم والوليد فأنقذته بالبصل حتى تعالت صرخاته، ودبت فيه الحياة من جديد، أما التمثيل فله حكاية أخرى.

ولد جورج يوم28  مايو/أيار عام 1938 في جرجا بسوهاج حيث كان والده يعمل هناك، ويعترف بأن “الصعيد قاس، فالولد لازم يكون راجل من يومه، كنا نتعلم حماية النفس، ونتدرب على ذلك منذ الصغر، فنضع المخدات على الحيط وندرب دماغنا على ضرب الرُوِسِيَّة، كنت شقيا ودايما ألبس طربوش واسع، كان مدرس اللغة العربية عندما يجدني أتكلم مع زميلي يضربني على رأسي ويسقط الطربوش على عيني، فأتركه حتى ينتبه المدرس ويأتي ويرفعه، إلى أن تتجدد الواقعة ويضربني مجددا”.

كان جورج منذ الصغر عاشقا للتمثيل، فكان يحضر عرضا سينمائيا مرة بالأسبوع، وبعدها يعود إلى الشقة ويضع سجادة على ألواح السرير ويعمل مسرحا، ثم يبدأ التمثيل ويكون حريصا على أن تكون النهاية سعيدة، وكانت أول مشاركة له في المدرسة بإحدى الحفلات، حيث صعد فوق الكرسي وغنى بجرأة أغنية لمحمد عبد الوهاب، كان صوته وفق تصريحه الساخر “مش هو” أو “مش تمام”، ففقد جماهير كثيرة.

 

“ممكن تعمل لنا فقرة؟”.. فرقة “الزحيفة” الجامعية

كان جورج سيدهم يحب الرياضيات، وقد تفوق فيها لدرجة أنه كان يُعطي دروسا لجميع زملائه، وكان يحصد الدرجات النهائية، لكن مكتب التنسيق بعثه إلى كلية الزراعة جامعة عين شمس، وكان لديه استعداد لفعل أي شيء فعندما التحق بالكلية كون فرقة تمثيل أسماها “الزَحِيفة”، وتكونت من12  عضوا، وفي وقت لاحق صاروا جميعا في مناصب مهمة، لكن جورج هو الوحيد الذي وَاصل عمله بالفن.

كان يمارس في الجامعة التمثيل والتصوير والموسيقى والحفلات والرحلات، أو يكون مسؤولا عن “البوفيهات”، ثم التقى صدفة مع سمير غانم الذي كان يدرس في السنة الثالثة بكلية الزراعة بالإسكندرية، وذلك أثناء مشاركة جورج بمهرجان الكليات، حيث كان يُمثل ومعروفا في كليته.

يقول جورج: بعد التخرج كان المشرف الاجتماعي بكلية الزراعة بعين شمس -واسمه الأستاذ حسن ابراهيم- يتابع نشاطي، وكان معجبا به، وكان يُعد برنامجا اسمه “مع الناس” من تقديم فؤاد منيب، فسألني: “ممكن تعمل لنا فقرة؟ فقبلت وعملتها ونجحت، وكان الناس أيامها يؤجرون أماكن في البيوت حتى يشاهدوا التلفزيون، وكنت ذات يوم راكبا في حافلة فرأيت سمير غانم يتمشى على كوبري الجلاء فقفزت من الحافلة وناديت عليه: يا سمرا؟
فقال لي: شوفتك في التليفزيون يا عّم، مين أدك، وصلت وسيبت الفقر.
فقلت له: عندك مانع تشتغل معايا؟”.

 

“الشحاتين حول العالم”.. ميلاد “ثلاثي أضواء المسرح”

عمل جورج وسمير فقرة سويا ثم انضم إليهم عادل نصيف، وشاهدهم المخرج محمد سالم على شاشة التلفزيون يقدمون فقرة “الشحاتين حول العالم” فأُعجب بهم وطلبهم للعمل معه، وكان يُخرج برنامج “أضواء المسرح”، ومن هنا جاءت تسمية “ثلاثي أضواء المسرح”، فقدموا “دكتور الحقني” التي حققت لهم شهرة عريضة رغم اختلاف الآراء حولها، فبعض الناس أعجب بها وآخرون انتقدوها.

أما التحاق الضيف أحمد بفرقة الثلاثي فتحقق عندما ترك عادل نصيف الفرقة مسافرا لألمانيا حتى يكمل الدكتوراه معتبرا أن الفن غير مضمون، فالتقى جورج وسمير بالضلع الثالث الجديد -الضيف أحمد- صدفة أيضا في باب الحديد، وكانوا يعرفون بعضهم منذ دراسته للآداب بجامعة القاهرة، فقد كان الضيف أحمد منافسا لهما، وقد وافق على الانضمام إليهما، وحققوا شهرة واسعة جعلت فريد شوقي يطلب الاستعانة بهم في بعض فقرات الفيلم الكوميدي 30″  يوم في السجن” الذي كان إعادة إنتاج لمسرحيات الريحاني، فقدموا خلاله عددا من أبرز وأجمل الاسكتشات التي لا تزال عالقة في الأذهان إلى اليوم.

 

ضربات قاتلة فنيا.. سجال ابتعاد جورج مرغما عن الفن

جاء رحيل الضيف بمثابة ضربة قوية من القدر لفريق الثلاثي، ومع ذلك فإن جورج وسمير قد نجحا في الصمود وتقديم عدة أعمال مسرحية ناجحة أيضا تحت اسم “ثلاثي أضواء المسرح”، لكن سرعان ما تدخلت الأقدار مجددا وقرر سمير الانفصال، بينما ظل جورج صامدا متشبثا باسم الثلاثي، لكن جاءته الضربة هذه المرة من أقرب الناس إليه، فأصابته بالجلطة التي أرغمته على الابتعاد عن الفن.

ما يردد في الوسط الفني والصحافة الفنية أن أمير سيدهم الذي كان يُدير مسرح جورج بتوكيل رسمي، ذات صباح من عام 1997 باع المسرح واستحوذ على كل شيء وهرب إلى أمريكا، مما تسبب في مرض أخيه لمدة تقترب من ربع قرن إلى أن وافته المنية في 27 مارس/آذار 2020 عن عمر يناهز 82 عاما.

ترددت هذه الحكاية عن أمير مرات عدة عبر السنوات العشرين الأخيرة أثناء حياة جورج، ومع ذلك فإنه لم يكتب خلالها أبدا كلمة واحدة تؤكد أو تنفي، لكن من الملاحظ أمران؛ أن البعض في السنوات الأخيرة أشار بأصابع الاتهام إلى سمير غانم قائلين إنه وجّه ضربة قاتلة فنيا لجورج سيدهم عندما انفصل عنه، مما جعل سمير يظهر ببعض البرامج ويُعيد سرد حكاية أمير، من دون أن يجيب أبدا عن سبب قرار الانفصال عن مسرح “ثلاثي أضواء المسرح” وترك رفيق نجاحه جورج سيدهم.

ثلاثي أضواء المسرح المكون من جورج سيدهم والضيف أحمد وسمير غانم

 

“الشيطان الذي سامحه جورج سيدهم”

عقب وفاة جورج سيدهم نهاية الشهر الماضي أُعيد للسطح مجددا الحديث عن ضربتيْ سمير وأمير الموجهتين لجورج، وتساءل كثيرون عن سبب غياب سمير غانم عن تشييع جنازة وعزاء جورج سيدهم، وطرحت التساؤلات على شاشات الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وظلت الفنانة دلال عبد العزيز تحاول الرد عليها بدبلوماسية متحججة بصدمة زوجها من وفاة جورج.

أعتقد أن تلك الاتهامات والتساؤلات كانت وراء كتابة الصحفي الفني طارق الشناوي في 6 من إبريل/نيسان مقالا شديد القسوة بعنوان “الشيطان الذي سامحه جورج سيدهم” معيدا سرد قصة أمير، ومؤكدا أنه سرق أموال أخيه وأنه السبب في مرضه، من دون أي إشارة لسمير غانم.

إنه أسلوب شديد الذكاء للدفاع عن سمير ورفع أي اتهام عنه دون أن يدافع عنه مباشرة، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد إذ في اليوم التالي وللمرة الأولى يخرج تصريح رسمي عن أحد أفراد أسرة جورج سيدهم ليدافع عن أمير أخيه، ويُحاول تفسير الحكاية بأن أمير كان قد استدان أموالا لإتمام مسرحيتي “حب في التخشيبة” و”نشنت يا ناصح”، لكنهما لم تحققا عائدا لتسديد الديون وكان سيسجن، لذلك أصابه الخوف وقرر السفر إلى أمريكا، وأن مطالبة الناس لجورج بتسديد الديون، وشجاره مع أصحاب الديون كان السبب وراء إصابته بالجلطة.

لقطة لجورج سيدهم خلال مشاركته في فيلم “البحث عن فضيحة”

 

“أمير مثل التلميذ الذي تفوق على أستاذه”.. تبرير أم إدانة؟

يبدو كل التبريرات التي تحدثت عن ديون المسرح ومطالبة الدائنين والشجار معهم غير منطقية، خصوصا لو تذكرنا أن مسرح جورج عندما احترق عام 1986 ولم يكن جورج يمتلك عملا أو أموالا قام بافتتاح مطعم ليعمل وليكسب قوته، لكن أخطر ما في تصريح العائلة أن دفاعه عن أمير الآن يأتي على حساب شخصية جورج، بينما وضع التفاصيل بجوار بعضها يُؤكد الحقيقة.

فلماذا صمت جورج طوال سنوات حياته، ولماذا لم يكتب أو ينشر هذا التصريح، ولماذا تدافع الأسرة الآن؟

أتذكر كلمات جورج سيدهم عن أخيه في حواره مع طارق حبيب عندما سأله: هل جعلت أمير سيدهم مديرا للمسرح لأنه أخوك؟
فرد جورج: أمير من النوع اللي تقدر تحمله مسؤولية ويقوم بها بصدق وبرجولة مباشرة، أمير قبل ما أخليه مديرا جعلته يمر بمراحل كتير، فهمته المسرح، بلاويه من فين تبدأ، وجعلته يمر على سلسلة كبيرة جدا، ومر على العلاقات العامة، حتى التفكير في الأفيشهات مارستها معه، أمير مثل التلميذ الذي تفوق على أستاذه.

لكن، إذا استدعينا مونولوجا ساخرا في نهاية الفصل الأول من مسرحية “الدنيا على كف عفريت”، حيث يقف نجيب الريحاني وحده على المسرح، يقول: “الفلوس يا منجي يا مغيث، خلت الناس هردبيس، والضماير طلطميس، هي فيها مغناطيس ولا أيه سر الفلوس؟ فيه ناس من العيش والغوموس تكنز وتحوش في الفلوس، والنتيجة يعيشوا ويموتوا جاموس، إنما الورثة نهار فتح القادوس، يبنوا لهم في الأرافة تربة في غاية اللطافة، والكفن يمكن لونه لون ريش الطاووس، وآدي كل اللي نابهم من الفلوس، إنما فيه ناس يا جماعة تكسب الجنيه وتفرتكه في أقرب ساعة والنتيجة يعيشوا ويموتوا شباعة، إنما الورثة من الغيظ والفجاعة، يحدفوهم جوا نقرة، لا فقي ولا حد يقرأ، كل ده علشان ضيع الفلوس، مين في الاثنين أكثر في الهبالة، اللي بيكنزوا ولا اللي ما بيكنزوش؟”.

لو تأملنا الثقة التي تحدث بها جورج عن أخيه، إلى جوار ترديده هذا المونولوج ذات يوم، ربما نصل للحقيقة الغائبة التي شغلت الناس عن تقييم أهمية جورج فنيا، عن أنه نموذج لفنان لم تُستغل مواهبه وطاقاته المتفجرة، وعن الاعتراف بأنه كان فنانا شاملا نادرا خسرته مصر والعالم العربي.