الشيخ إمام.. المغني الضرير الذي أنار أفئدة الثوار والعشاق والبسطاء

جلس الشيخ إمام في غرفة صغيرة متواضعة الأثاث، يتوسط مجموعة من الأشخاص بنظاراته السوداء الداكنة وقبعته الإفرنجية، وبدأ يعزف على عوده ويغني “حلو المراكب”، وصدح صوته بحزن بالغ من مقام الصبا بمقطع وسط الأغنية يقول:

يا سهرانين في القمر.. ليل الغريب ظلمة

يا عيني يا ليلي.. لا قنديل ولا نجمة

مناديل دي ولّا قلوع؟ وده بحر ولّا دموع؟

بكى الحاضرون وبكى معهم الشيخ، ومسح له أحدهم دموعه بمنديل في يده، وكان يحمل بالأخرى مسجلا قرّبه من شفتي الشيخ. كان ذلك الفيديو النادر الذي ظهر فيه الشيخ إمام بصحبة جمع صغير من الحاضرين، ورغم أنه تسجيل رديء لحفلة خاصة؛ فإنه قدم وجه الشيخ إمام العاشق.

أما في أغنيته الأخرى الثائرة الخالدة “شيّد قصورك”، فكان يحمل العود عاليا وهو محمول على الأعناق، وكأنه آمر فيلق يقود جنوده في ساحة الوغى.

لحّن الشيخ إمام وغنّى عشرات الأغاني وسط كل متناقضات العالم العربي، فشحذت عزائم الثوار طيلة قرابة نصف قرن، وكانت له أغانٍ أخرى ملاذا للعاشقين.

كان الشيخ إمام يعيش بين متناقضين من الحلم والخيبة، والقوة والوهن، والنصر والهزيمة، والحرية والسجن. هو نحن، وهو ظاهرة فنية لن تتكرر.

أهازيج حفلات الأعراس.. تذوق الموسيقى منذ الصغر

في العام 1918، ولد إمام محمد أحمد عيسى بمحافظة الجيزة في قرية يرجح البعض أنها كانت تعرف باسم “مكان العشق والغرام” باللغة الهيروغليفية، وتسمى مدينة أبو النمرس، ولم يمض وقت طويل على ولادته حتى فقد بصره بسبب رمد أصاب عينيه، وتسبب علاجه التقليدي في عماه. يقول إمام في أحد حواراته لمجلة “القاهرة” عام 1995: في السنة الأولى من ولادتي -ولا أعلم في أي شهر- فقدتُ بصري، وعندما بلغت عامي الخامس ذهبت إلى الكُتّاب لحفظ القرآن الكريم.

كان حظ إمام عيسى كحظ قريته التي تقع في محافظة يحدها متناقضان، نهر النيل من الشرق والصحراء من الغرب، أما الشيخ الصغير فقد عاش زمنا من طفولته كذلك بين متناقضين آخرين، حنان أمه وحبها الكبير له من جهة، وجفاء طباع أبيه وقسوته عليه من جهة أخرى.

كان إمام يشبه أبو النمرس تماما، فقد عانى من الجفاف ليس في عائلته فقط، بل في المدرسة القرآنية التي رماه فيها أبوه، حين كان يحلم أن يكون ابنه شيخا حافظا للقرآن، لكنه في المقابل ارتوى من الموسيقى التي كان يسترق السمع لها من خلال أهازيج نساء أبو النمرس حين كان يرافق أمه لحفلات الأعراس.

كان إمام يستمع وهو ابن سبعة أعوام إلى عماته وأمه وهن يغنين أثناء الحصاد وتنقية القمح، ووصف الشيخ إمام غناءهن بقوله: كان غناء شجيا يأخذني ويجعلني لا أتحرك، وكان يصل الحال بهم إلى البكاء وهن يتغنين، ومن هؤلاء اكتشفت معنى الغناء وأنني وهبت الموهبة الموسيقية.

كانت تلك الأهازيج هي التي ستحدد بوصلته نحو الموسيقى، ودربت أذنه على تذوق حلاوة القرآن الذي وجده في صوت الشيخ محمد رفعت.

الشيخ محمد رفعت الذي كان الشيخ إمام شغوفا بالاستماع لتلاواته في الراديو في مصر

“سيكون لك شأن عظيم”.. نبوءة الشيخ محمد رفعت

كان طريق الفتى إمام معدا له ليكون موسيقيا عظيما، لكنه كان طريقا مليئا بالآلام والأشواك، فبعد أن ختم المصحف انتقل إلى القاهرة حيث يوجد مركز الجمعية الشرعية، وأقام في مدرستها الداخلية فتعلم التجويد ثم عمل في بطانة الوشّاحين، وقد ظل الفتى الضرير أربع سنوات في الجمعية، وكان شغوفا بسماع تلاوات الشيخ محمد رفعت في الراديو الذي دخل حديثا إلى مصر في ذلك الوقت، لكن البعض أفتى بتحريم الاستماع له، وقد ضبطه أحدهم فاتحا المذياع، ولم يشفع له نبوغه من التعرض للطرد من الجمعية.

بدأت بوصلة إمام الصغير تميل بوضوح نحو وجهته الجديدة حين طرده أبوه من القرية ومنعه من دخولها، حتى حين توفيت والدته التي كانت ملاذه، وذلك بعد أن قضى إمام على حلم أبيه بأن يكون ابنه شيخا، لكن لم يخطر ببال الأب ولا بأبناء أبي النمرس أنه سوف يصبح شيخا له مريدوه، لكن في الموسيقى، كما لم يخطر ببال إمام ذاته أن نبوءة ألقاها الشيخ محمد رفعت في وجهه حين كان عمره سبعة أعوام ستتحقق.

يستحضر إمام وهو ابن سبع وسبعين سنة بفخر تلك الحادثة، إذ يقول: عندما كنت في الكُتاب كان يأخذني عمي لصلاة الجمعة مع الشيخ محمد رفعت في مسجده بدرب الجماميز، وكان اسم المسجد جامع فاضل باشا “مسجد بشتاك”، وأذكر أنني في أول جمعة صليتها عنده ذهبت للسلام عليه أنا وعمي،  فلما أمسك يدي أحس الشيخ رفعت أنني كفيف، لأنه كان كفيفا هو الآخر، فسألني عن اسمي، وسألني هل تذهب إلى الكتاب؟ ثم قال: سيكون لك شأن عظيم.

الشيخ إمام الضرير الذي أصبحت أغانية أيقونة الثوّار في الوطن العربي

“أنت في مقابر اليهود”.. ضرير يقع في فخ اللصوص

حين طردت الجمعية الشرعية إمام، لم يكن له من مأوى سوى سقف جامع الحسين في النهار وجامع الأزهر في الليل، وكان من الصعب على شاب ضرير مشرد أن يأمن على حياته، بل حتى على نعاله وعلى عمامته.

يستحضر الشيخ إمام تلك المرحلة القاسية من حياته بقوله: في هذه الفترة شاهدتُ الويل وعرفت الكثير، كم سرقت مني عمائم وأحذية في الأزهر وأنا نائم، كنت أتلفلف في الحصيرة مثل الكرنبة (خضار الملفوف)، وأستيقظ لأجد نفسي مقرفصا في الطقس البارد بلا عمامة ولا حذاء، وحالتي مكدرة.

صارع الفتى إمام ليعيش وليأمن اللصوص، ففي إحدى المرات وقع في فخ لص ادعى أنه يعمل لدى باشا، وأنه يريد أن يأخذه إلى قصره حتى يقرأ له، فصدّقه إمام وجهّز نفسه وتأنق، ثم عاد إليه الرجل المجهول واقتاده إلى مكان بعيد لم يتبينه الفتى الضرير، حتى قال له الرجل إنه في حديقة الباشا، وطلب منه أن يخلع ملابسه، وحين رفض إمام ذلك أخرج الرجل سكينا وقال له “تقلع وإلا تتقطع؟” فخلع كل ملابسه ما عدا ما يستر عورته، وأخذ اللص ملابسه وتركه هناك.

بكى إمام كثيرا لأنه لم يتبين المكان، ولم يجد الباب الذي دخلوا منه، فكانت الحادثة -كما وصفها الشيخ في حواره مع مجلة القاهرة- مؤلمة حين قال: ظللت أبحث في تلك الحديقة عن أي شيء دون جدوى، فانهمرت بالبكاء، لا ذبابة ولا عصفورة، تعبت من البكاء ومن الوقوف ومن الجلوس، ثم جاءتني فكرة أن أبحث عن الباب الذى دخلنا منه، رحت أبحث دون جدوى إلى أن وجدت المدخل، وبعد فترة سمعت صوت أقدام فتصدرت لصاحبها، فخاف وظنني عفريتا، وصرخت في الرجل “أنا بني آدم”، وأخيرا جاء وعاينني وتأكد أنني إنسي، وعندما سألته عن صاحب الحديقة قال لي: أنت في مقابر اليهود.

“يا سيدنا الشيخ”.. يد الصياد التي حررت الطائر من القفص

من الغريب أن يتمكن فتى ضرير لاحقه اللصوص في كل مكان تحت أسقف المساجد وبين القبور، من أن يلاحق حلما دفينا لم يكتشفه إلا حين قابل الموسيقار الكبير الشيخ درويش الحريري، وقد كان إمام عيسى يعتبر أنه صاحب نعمة لأنه ضرير، حتى أنه قال بامتنان كبير: تفضل علي الله وفعل بي أول شيء أن أخذ عيني ووضع مكانهما أجمل وأحسن نعمة، وهي نعمة الإدراك والإحساس، وحفظني كلامه، وزرع في موهبة الموسيقى، وجعلني محبوبا بين الناس، كل هذه النعم مقابل نعمة واحدة وهي النظر، كم أنت محظوظ يا إمام.

قاده الحظ إلى الشيخ محمد رفعت أولا، ثم إلى الشيخ درويش الحريري الذي كان ضريرا أيضا، وقد تكون الصدفة هي التي ساقته من مقابر اليهود إلى حارة حوش قدم بحي الغورية، وبالتحديد إلى محل حلاقة يرتاده درويش الحريري.

حين دخل الشيخ إمام حارة حوش قدم، وقف أمام حلاق اسمه محمد بيومي، وقد شدّه صوت أم كلثوم في الراديو، وكانت تغني أغنية “ليه تلاوعني”، حينها كان لقاؤه ببيومي الذي طلب منه قراءة القرآن وسط جمع كبير من النمارسة أبناء قريته.

كان عمر إمام وقتها ثمانية عشر عاما، وقدّم له لقاء الصدفة الأول بالحلاق بيومي فرصة ليكسب بضعة قروش من تلاوة القرآن في بيوت أهل الحارة، وأغلبهم من قرية أبو النمرس، وفي المحل ذاته كانت لإمام فرصة أخرى قلبت حياته إلى الأبد، فقد كان لقاؤه بمعلمه الشيخ درويش الحريري هناك، فحين بدأ بترتيل القرآن عند بيومي دخل الحريري وقال بإعجاب “يا سيدنا الشيخ”، لم يعرف إمام صاحب الصوت، لكنه قفز يقبل يده حين همس له بيومي أنه الشيخ درويش الحريري معلم زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب.

منذ لقائه بالشيخ درويش الحريري بمحل بيومي لم يفارق إمام معلمه، كيف يفارقه وبيته قبلة ملحنين وفنانين كبار مثل صالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب، لقد كان الشيخ درويش كنز إمام الذي كافأته به الأقدار، وقد انقلبت حياته منذ لقائه، فلازمه في جلسات الإنشاد، وتعلم منه قواعد الموسيقى، ولم يكن الأمر مجرد صدفة وضعت الفتى الضرير في طريق الفن والموسيقى، بل كان الأمر أشبه بيد صياد حررت طائرا من قفصه، فكانت موسيقى الشيخ الحريري هي التي فكّت الأقفال التي كبلت إمام، فوهبته الحياة بالفعل.

الشيخ زكريا أحمد الذي اكتشف قدرة الشيخ إمام العجيبة على الحفظ

“اسمعوا الأغنية التي ستغنيها أم كلثوم الشهر القادم”

في العام 1939 التقى الشيخ إمام بزكريا أحمد، وكان قد تعرف إليه وإلى الملحن محمود صبح عن طريق الشيح درويش الحريري، وبدأت شراكته مع زكريا حين اكتشف زكريا قدرته العجيبة على الحفظ، في حين كان زكريا يملّ بسرعة، فوجد في إمام ضالّته، فكان يعرض عليه ألحان أغانيه قبل أن يعرضها على أم كلثوم، فإمام بالنسبة له هو ذاكرته وميزانه الذي يعدل به الألحان قبل تقديمها إلى أم كلثوم.

لكن مثلما كانت أغنية “ليه تلاوعني” التي أدتها أم كلثوم السبب غير المباشر في تعرف الشيخ إمام على درويش الحريري، فقد كانت أغانيها السبب في قطع شراكته بزكريا أحمد، إذ اكتشفت أم كلثوم أن الشيخ إمام غنى أغنيتين لها في مجالس ومناسبات قبل أن تؤديها، واعترف إمام ذاته بذلك قائلا: كنت أغني وأقول لهم: اسمعوا الأغنية التي ستغنيها أم كلثوم الشهر القادم.

صورة تجمع ثنائي الرصاصة والبندقية الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في إحدى الحفلات التي جمعتهما

إمام ونجم.. ثنائية الرصاصة والبندقية

امتلك الشيخ إمام قدرة عجيبة على أن يصطاد أي فرصة ليفجّر موهبته، فقادته الصدفة إلى تعلّم العود حين سمع زميله المكفوف يعزف خلال حفل كان حاضرا فيه العازف كامل الحمصاني، وقد فوجئ الشيخ إمام بعزف زميله، لأنه كان يظن أن المكفوف لا يمكنه العزف على العود، وكان ذلك سببا في إصراره على تعلم العزف، ثم التلحين والإبداع فيهما.

في العام 1945 خلع إمام العمامة والجلابية، ولبس بدلا منهما قلنسوة عصرية وبدلة وربطة عنق، وكان هذا اللباس الجديد هو إعلان باحتراف الغناء والابتعاد عن احتراف التلاوة، وحينها اتضح طريق الشيخ إمام وأصبح فنانا محترفا، فغنى لزكريا أحمد، وغنى موشحات معلمه الأول الشيخ درويش الحريري، إلى حين لقائه بالشاعر أحمد فؤاد نجم صدفة في العام 1962، فذلك اللقاء الذي صنع شهرتهما معا.

كتب أحمد فؤاد نجم للشيخ إمام أغنية “أنا أتوب عن حبك”، وهي أول قصيدة يلحنها إمام، ولا تزال تلك الأغنية ترنيمة العشاق إلى اليوم.

أصبحت علاقة الشيخ إمام بأحمد فؤاد نجم أشبه بعلاقة البندقية بالرصاص، فلا غنى لأحدهما عن الآخر، وأنتجت تلك العلاقة أغاني أصبحت نشيد الثوار في الشوارع، ولا غرابة في أنها لقيت شهرة كبيرة، فقد كُتبت باللهجة العامية المصرية، وكاتبها عاش يتيما مُتنقلا بين الملجأ وقريته مطرودا، فعمل راعيا وساعي بريد ولاعب كرة قدم، واختلط بالعمال المضطهدين وشاركهم غضبهم ضد الاستعمار، أما مُلحّن تلك الأغاني ومؤديها فقد كان يتيما، وتشرد في الشوارع وآواه أصحاب الخير، وكان أيضا مطرودا من قريته.

كان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم توليفة من المشاعر الصادقة، وكانت تحكمهما طاقة من الغضب والأمل.

“بتاع الكلام اللي يودي في داهية”.. رحلة السجن

بدأ ما يمكن تسميته بظاهرة “إمام نجم” تكبر بعد نكسة عام 1967، حيث خرجت من المجالس الضيقة إلى بيوت كثيرة ثم إلى الشوارع، ثم أصبحت تتغلغل إلى مجالس أهل فلسطين وتونس وسوريا، وفي ذلك الوقت أسس الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ما يمكن تسميته بموسيقى الثوار في مصر وبقية دول العالم.

حين استلم الرئيس جمال عبد الناصر الحكم بعد ما عرف بثورة الضباط الأحرار، كان المصريون وبعض الشعوب العربية يحلمون باسترجاع أرض فلسطين، لذلك كان وقع هزيمة 1967 قاسيا في نفوسهم، ولم يكن إمام ولا نجم بمعزل عن مشاعر الخيبة، حينها تأجج غضب نجم وكتب قصيدته اللاذعة “الحمد لله خبطنا”.

الحمد لله خبطنا
تحت بطاطنا
يا محلا رجعة ظباطنا
من خط النار

يا أهل مصر المحمية
بالحرامية
الفول كتير والطعمية
والبر عمار

لحن الشيخ إمام هذه القصيدة بلحن ساخر حتى شفى غليل الجماهير الخائبة، وألب عليه السلطة، فقد كانت الأغنية لاذعة وجريئة، وانتقدت الجيش المصري الذي تسلّم السلطة وظلّ يعد العدة طيلة خمسة عشر عاما من الحكم من أجل مواجهة الجيش الإسرائيلي وهزيمته، لكن الجيوش ولّت وخابت وهزمت.

سرت أغاني الشيخ إمام سريان النار في الهشيم، فكانت تغنى على أسطح المنازل وفي المقاهي وفي الحفلات الخاصة، ومن المفارقات أن أغنية “بقرة حاحا النطاحة” السياسية الساخرة التي ألفها نجم ولحنها إمام، هي الأغنية التي أثرت في القاضي وجعلته يطلق سراح الشاعر والفنان.

ويستحضر نجم تلك الحادثة في سلسلة مذكرات نشرتها صحيفة “اليوم السابع” في العام 2010، فحين كانا في قسم الشرطة قال إمام لنجم: إوعى تستندل -أي تكون نذلا- وتفك مني. فقلت له: هو أنا بتاع الكلام ده؟ فرد: إنت بتاع الكلام اللي يودي في داهية.

“شرفت يا نيكسون بابا”.. عودة ثالثة للسجن

عاش الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم فترة غليان الشارع المصري والعربي، وكانا صوت الثوّار العرب، ففي غرفة في حارة حوش قدم بحي الغورية كانت اجتماعاتها معا، حيث كتبت القصائد الغاضبة بكلمات ساخرة ولحنت بإبداع كبير.

في العام 1967 أذيع خبر اغتيال القائد الأممي “إرنستو تشي غيفارا”، فألف نجم قصيدة “غيفارا مات”، ولحنها الشيخ على مقام الصبا الحزين، وهي أغنية تختلط فيها اللوعة بالسخرية والتحريض على الثورة، وهي مكمن إبداع إمام في التلحين الذي يمزج المقامات الحزينة بالكلمات الساخرة.

لم تخفت عزائم الثنائي رغم أن بعض الأغاني كانت سببا في سجنهما ليصبحا أول سجينين بسبب الموسيقى، ففي عهد عبد الناصر، حكم على إمام ونجم بالسجن في العام 1969، ولم يطلق سراحهما إلا بعد وفاة عبد الناصر، وفي عهد السادات، قبض عليهما بسبب أغنية “رجعوا التلامذة”، بمناسبة مظاهرات القاهرة في يناير/كانون الثاني من العام 1972 التي طالبت السادات بالحرب على إسرائيل، كما حكم عليهما بالسجن بسبب أغنية “شرفت يا نيكسون بابا” الساخرة بعد زيارة الرئيس الأمريكي آنذاك “ريتشارد نيكسون” إلى مصر بدعوة من السادات، ولوحق الشيخ إمام ونجم بعد أن حاولت السلطة استمالتهما وفشلت.

“نادي أحباء الشيخ إمام”.. غزو الديار التونسية

لم يسطع نجم الشيخ إمام في مصر فحسب، فرغم الحصار الذي ضرب على أغانيه في الإذاعات، فقد كان له مريدون في المشرق وفي المغرب، حتى أن التونسيين أسسوا ناديا اسمه “نادي أحباء الشيخ إمام” بتونس، وإلى حد اليوم لا يزال ينشط وينشر فن إمام.

خلال ضرب الحصار على الشيخ إمام بسبب أغانيه السياسية اللاذعة، حاول التونسيون فك عزلته من باريس، مثل المناضل الناصر جلول المقيم في فرنسا، والمناضل محمد الصادق بوزيان اللذين أرادا دعوة إمام ونجم لإحياء حفلات في فرنسا، وخلال محاولتهما السفر في العام 1981 مُنع الثنائي من الخروج من مصر، فكتب نجم قصيدة “ممنوع من السفر” على علبة سجائره، ولحنها وغناها الشيخ إمام، وقال الناصر جلول في شهادته في فيلم “إمام تونس” الذي بثته الجزيرة الوثائقية إن مجموعة من التونسيين نظموا حفلا في باريس تضامنا مع إمام الذي منع من السفر آنذاك.

وقبل ذلك بعامين سافر المناضل التونسي ومهندس الصوت الهاشمي بن فرج من باريس إلى القاهرة ليقابل الشيخ إمام في العام 1974، وسجل أسطوانة لأغنية “دور يا كلام”، حسب شهادته في الفيلم الوثائقي “إمام تونس”.

انتقى بن فرج مجموعة من الأغاني، وأعد أول أسطوانة للشيخ إمام في باريس بعنوان “عيون الكلام”، وانتشرت أغاني إمام في تونس بعد أن أنتج بن فرج أغانيه حين أسس شركة “صوت إفريقيا للأسطوانات، وأذاع الحبيب بلعيد الصحفي بإذاعة تونس الدولية الناطقة بالفرنسية أغاني إمام في الإذاعة، بعد أن اكتشف صدفة أسطوانة “عيون الكلام” في العام 1978 في باريس.

“أشم ريحة كلاب”.. انتصار الجماهير على النظام

في شهر أبريل/نيسان من العام 1984، تمكن المناضل التونسي الناصر جلول والصحفي الفرنسي “دانييل كو” من الحصول على دعوة رسمية للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم من وزارة الثقافة الفرنسية لإحياء حفل في باريس، وكان ذلك بمثابة نصر لهم، وحاول نقابيون تونسيون دعوة الشيخ إمام في أوج الغليان الشعبي في تونس بسبب الزيادة في أسعار الخبز آنذاك، وكان من المتوقع أن يُطرد إمام ونجم مثلما حصل لمارسيل خليفة الذي طرده محمد المزالي الوزير ذو النفوذ الكبير آنذاك، وهو ما حصل بعد أن تدبر الاتحاد العام التونسي للشغل دعوة الثنائي إلى تونس.

كان برنامج جولة إمام في العاصمة والمدن الداخلية كابوسا للسلطة، فمنعته من دخول تونس، لكن الاتحاد العام التونسي للشغل تدخل وأحيا الشيخ ونجم حفلاتهما في تونس، وحمل في الموكب الجامعي على الأعناق، ولا يزال طلبة ذلك الجيل يتندرون بقول نسب لإمام حين حمله الطلبة على أعناقهم “أشم ريحة كلاب”، ويعني بذلك الشرطة.

غنى الشيخ إمام في مجالس خاصة في تونس والتقى بفنانين وشعراء مثل الشاعر آدم فتحي الذي كتب له أغنية “يا ولدي”، وانتشرت عدوى “إمام نجم” في تونس وتأسست مجموعات فنية ملتزمة مثل مجموعة البحث الموسيقي، والحمائم البيض.

انقطعت علاقة الشيخ إمام برفيق دربه أحمد فؤاد نجم مدة من الزمن، فقد اتهمه نجم بأنه متفرد بالرأي، في حين انتقده إمام في أحد الحوارات الصحفية لأنه تنكر للمناضل الصادق بوزيان الذي نعته نجم باللص، تلك شروخ داواها الزمن، ولم يعد لها أي أثر.

“بيت من قصيدة عشق مجهولة”.. انسحاب هادئ

في السابع من يونيو/حزيران من العام 1995 في غرفة معزولة في حارة حوش قدم، انسحب الشيخ إمام عيسى بهدوء كبير بعد أن ابتعد عن كل شيء، ما عدا بعض المجالس الخاصة، وكان في رعاية ابن الشيخ البيومي يعتني به ويطعمه ويرافقه إلى أن مات.

حبيبي الشيخ إمام ما أقسى أن أمسك القلم وأكتب عنك
أنت فيلم عربي طويل
أول سنبلة بعد سبع عجاف
بيت من قصيدة عشق مجهولة
قهوة في صباح بارد
ورائحة بخور في زقاق قديم
ستبقى أنيس ليالي الوحدة
أنت فينا
وداعا.