شيرين غيث.. نظرة سينمائية إنسانية اختطفتها السماء

د. أمــل الجمل

لعل السمة الأبرز في أعمال المخرجة المصرية شيرين غيث -التي رحلت عن عالمنا قبل أيام– هي أسلوبها الفني المتناسق تماما مع فكرة ومحتوى كل عمل فيلمي، وتكامل عناصره الفنية وإن طغى بعضها أحيانا كالإضاءة وحجم اللقطات وزوايا التصوير شديدة التنوع بالإضافة إلى الثراء البصري.

كانت شيرين تملأ الكادر بالحركة التي تمنح المحتوى الإنساني صدقية ومزيدا من التوازن الإيقاعي، حتى عندما كان الفيلم يتحول إلى مجرد لقاءات مع ضيوف يجلسون على مقاعدهم فلا يتحركون، وخير مثال على ذلك فيلمها “مدكور ثابت” الجزء الأول، وهو من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية.

يتناول هذا العمل الوثائقي أحد أبرز أساتذة التدريس بالمعهد العالي للسينما بمصر، وهو المخرج الوثائقي المصري الراحل د. مدكور ثابت، وقد قدم أول أعماله الروائية عند تخرجه، وشهد له الجميع بتميزه وبانحيازه للتجريب الإبداعي، كما شغل مناصب عدة منها رئاسة المركز القومي للسينما.

تولى رئاسة الرقابة لسنوات عديدة اشتهر أثناءها بعدم اتخاذه قرارا منفردا فيما يخص الأفلام المثيرة للقلق، حيث كان دوما يُقيم اجتماعا يدعو إليه النقاد والصحفيين لمشاهدة ذلك الفيلم ومناقشته، بل كان يطلب منهم تحديد موقفهم سواء بالموافقة على العرض أو المنع، هذا القرار الذي جعل البعض ينتقده معتبرا ذلك أحد أشكال حماية نفسه من مسؤولية الهجوم المفاجئ غير مضمون العواقب.

 

مدكور ثابت.. جوانب إنسانية مضمرة

لم تتطرق شيرين لسنوات عمل مدكور ثابت في الرقابة في الجزء الأول، بل خصصت هذا الجزء للحديث عن عمله الروائي الأول “الأصل والصورة” ودراسته وانشغاله بالسينما، وإصراره على دراستها والعمل بها، لكن الأهم أن شيرين تغمرنا بكثير من الجوانب الإنسانية عند المبدع مدكور ثابت، وعلاقته المتفردة بطلابه الذين انتشروا في مختلف أرجاء الوطن العربي، وقد تحدث عنها باستفاضة المخرج والسيناريست الراحل د. محمد كامل القليوبي الذي اعترف بأريحية وابتسامة طفولية أنه في بعض الأوقات كان يشعر بالغيرة من قوة علاقة ثابت بطلابه.

أما المخرج المصري عمرو بيومي -صاحب فيلم “الجسر” و”رمسيس راح فين”- فحكى عن تجربته كأحد طلابه بالمعهد، موضحا تلك العلاقة الإنسانية المتينة التي رسخها معهم أستاذه مدكور ثابت، وكيف حطم الجدران بينه وبين طلابه، فمثلا بعد أن كان ممنوعا تناول المشروبات أثناء المحاضرة جاء مدكور وغيَّر هذا الممنوع.

فبمجرد أن يدخل لموقع المحاضرة كان يطلب ساعي البوفيه حتى يُحضر المشروبات التي يريدها الطلاب، ثم يبدأ مدكور في سرد قصة بسيطة بشكل تلقائي، وسرعان ما يكشف الخيوط الرابطة لقصته بموضوع المحاضرة، مثلما يؤكد بيومي أنه كان يجتمع بطلابه في وسط البلد، وفي أماكن مختلفة بعيدا عن جدران المعهد فتتواصل النقاشات في الفن والإبداع.

 

“الأصل والصورة”.. مركزية الكواليس في البنية الفيلمية

يتحدث بعض الضيوف عن شخصية مدكور ثابت وطيبته ورقته لدرجة أن مدير التصوير الدكتور سمير فرج كاد في إحدى اللحظات أن يبكي من شدة الانفعال وهو يتذكر ثابت، وعندما توقف عن الحديث اعترف د. سمير -بينما يناوله أحدهم منديلا ورقيا- بتأثره العاطفي وأنه كان سيبكي.

لا تحذف شيرين هذه اللقطة في المونتاج، بل تفاجئنا بتفاصيل أخرى عديدة من كواليس وأجواء صناعة وتصوير هذا الفيلم، كلقطة تضبط فيها إما قميص أحد الضيوف أو جهاز التسجيل أو الإضاءة أو الإعلان عن بدء التصوير، وأحيانا توجيه سؤال واحد بينما نتأمل ردود فعل جميع الضيوف بالتنقل والقطع بينهم رغم أن كل واحد جرى تصويره على حدة.

كانت كواليس التصوير جزءا لا يتجزأ من البنية الدرامية للفيلم الوثائقي الذي أخرجته شيرين غيث، ومَنْ شاهد فيلم مدكور ثابت الأول “الأصل والصورة” المقتبس عن قصة “الصورة” للأديب الحائز على نوبل نجيب محفوظ سيُدرك على الفور لماذا اختارت شيرين ذلك الأسلوب الفني.

فقد استلهمت نفس القالب الدرامي التجريبي الذي ابتكره مدكور في أول أفلامه في أواخر الستينيات من القرن العشرين، حيث تحطيم الإيهام بأن يجعل كواليس التصوير جزءا أساسيا من بناء الفيلم وتكوينه الفني، بما في ذلك حيرة الممثلين في أداء المشهد وأفكاره كمخرج خلف الكاميرا وتوجيهاته لهم.

 

“عروستي خلج”.. تاجرة العرائس الصغيرة في المعابد الفرعونية

ولاء طفلة لم تتجاوز تسع سنوات من عمرها، وتعيش في إحدى قرى محافظة الأقصر، وتربطها عاطفة إنسانية قوية بعروستها التي صنعتها لها جدتها، فما تنفك تلعب معها وتعانقها، وعندما تنتهي من المدرسة تحمل في يدها كيسا بلاستيكيا به مجموعة من العرائس المصنوعة من القماش القديم المزينة برسوم وتِرتِر ودانتيل، وتجري بها هنا وهناك لتلاحق السياح الأجانب أمام معبد حتشبسوت محاولة إقناعهم بأن يشتروا منها واحدة.

ليست ولاء الوحيدة التي تقوم بهذا العمل بل إن أخواتها يقمن به أيضا، إذ تصنع جدتها وأمها العرائس بينما تقوم هي وأخواتها ببيعهن، إنه مصدر الدخل الأساسي للأسرة، ويعترف الأب نفسه بذلك، وتقول الأم في حزن ومرارة: لا أريد لأطفالي أن يعيشوا نفس المأساة، ولا أن يظل هذا مصيرهم عندما يكبروا، أريدهم أن يتعلموا ويكون لهم مستقبل أحسن.

تجري هذه الأحداث في سياق درامي إنساني بفيلم من توقيع شيرين غيث يحمل عنوان “عروستي خلج” من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، حيث تأخذنا كاتبة السيناريو والمخرجة معها في رحلة داخل بيت عائلة ولاء، فنعيش معهم تفاصيل حياتهم، لكن الأهم أنها عند الحديث عن ولاء تجعل الكاميرا في موقع تلك الطفلة لتعبر عن وجهة نظرها، فتجعلنا نرى ببصيرتها ونشعر بأحاسيسها، فتتبدل زاوية التناول.

ليس هذا الفيلم شريطا وثائقيا فقط يتحدث عن عمالة الأطفال، وإنما هو فيلم من وجهة نظر طفلة حُرمت من طفولتها، أو على الأقل أُخذت منها تفاصيلها.

بوستر فيلم “عروستي خلج” الذي يروي قصة الطفلة المصرية ولاء التي تجمعها رابطة قوية بعروستها التي صنعتها لها جدتها

 

غياب الراوي المباشر.. لحظات بوح داخلية

تظهر الأحداث من دون وجود راوٍ مباشر، بل تنساب تلقائيا عبر الحوار بين أهالي المكان، سواء بين الأم والجدة أو الجدة والحفيدة أو الأم وابنتها أو ولاء والسائحة التي تعرض عليها عشرة يوروهات مقابل العروسة الخاصة بها فترفض ولاء لأنها عروستها التي تبثها همومها وأفراحها، يُرغمها الأب لاحقا على بيع العروسة لأنها مصدر دخل مهم للأسرة، هنا تُمسك الطفلة ورقة العشرة يورو وتقلبها بين أصابع يدها بينما يكتسي وجهها بنظرة الحزن والقهر.

يظهر أيضا من خلال المونولوج الذي يدور في أعماق ولاء، وحديثها مع نفسها أو بالأحرى للكاميرا من دون النظر إليها، كأنها في حالة بوح فتعترف أنها أحيانا تشعر أنها “شحاتة” رغم أنها لا تطلب إحسانا وإنما فقط تحاول بيع البضاعة، لكن لعله الإلحاح الذي تطارد به السياح، ربما تقرأ ذلك في نظرتهم إليها، أو في مطاردة الأمن لها ولأخواتها لئلا يُضايقوا الأجانب، ربما هو وعيها المبكر ونفورها من تلك المهنة التي تأخذ من آدميتها.

هناك ميزة إضافية للفيلم وهي أن شيرين اختارت من بين العاملين في مجال هذه العرائس في تلك القرية أسرة بها ثلاثة أجيال، تركت كاميرتها تأخذنا لثنايا وخبايا البيت والشارع، وظلت تتنقل بينهم بنعومة وسلاسة كبيرة ليلا ونهارا في لقطات قريبة وأخرى بعيدة، أثناء النوم واليقظة، وتبادل النظرات الناطقة من دون صوت ومن زوايا تصوير متباينة بعضها جانبي أو علوي تعبيرا عن ضآلة الوضع المادي لهم ورقة حالهم، كانت الإضاءة بطلا أساسيا خصوصا بتقاطع الظل والنور وإضاءة العرائس التي تكاد تنطق كأنها من لحم ودم.

 

“ع السمسية”.. ملامح سنوات المقاومة في بورسعيد

يأتي الفيلم الثالث “ع السمسمية” -وقد أنتجته أيضا قناة الجزيرة الوثائقية- ليتبع نفس النهج والأسلوب الفني في “عروستي خلج”، حيث الاعتماد على الحوار بين أبطال الفيلم، ومثلما جاءت الأسئلة على لسان الطفلة ولاء التي كانت تستنطق جدتها وأمها عن مهنة العرائس، كذلك جعلت المخرجة ابن عازف السمسمية -الطفل الذي لم يتجاوز سبع سنوات- هو المحاور الأساسي بفيلمها.

تتخذ المخرجة من هذه الآلة تكئة فنية لتحكي عن تاريخ بورسعيد وأحيائها وأهلها والحروب التي خاضتها، وعن المقاومة الشعبية في 1956، وعن العدوان في 1967، وقد بدأ معه تهجير أهالي بورسعيد لمدة شهرين، ثم معاودة التهجير مرة أخرى عام 1969 لمدة خمس سنوات.

نالت آلة السمسمية شهرة كبيرة حتى صارت أحد أهم ملامح الفن التراثي لمحافظة بورسعيد منذ سنوات المقاومة في 1956، إنها ليست مجرد آلة موسيقية للعزف والترفيه بل قوة محفزة ودافع للحياة، هكذا يشير أكثر من شخص بالفيلم.

تلتقي غيث بمجموعة من الأفراد يُشكلون فرقة للسمسمية يعزفون ويرقصون ويغنون “ع السمسمية”، إنها مجموعة عاشقة لتلك الآلة، يقولون بفخر واعتزاز إنهم يُحاولون الحفاظ على تراث السمسمية لأن فيها هويتهم، لذا يسعون لتوريثها لأبنائهم وبناتهم.

وأثناء ذلك يتطرق الفيلم إلى نشأة تلك الآلة وألحانها والظروف التي ساهمت في انتشارها أثناء المقاومة في 1956، ونتعرف كذلك على الفروقات بين الطنبورة والسمسمية، وكيف جاءت نشأة الطنبورة سودانية، والتطور الذي أُدخل على شكل وتركيب آلة العزف ثم على الألحان.

آلة السمسمية الموسيقية التي تُعتبر أهم ملامح الفن التراثي لمحافظة بورسعيد منذ سنوات المقاومة في 1956

 

رقصة البمبوطية.. حكاية تجارية ترويها إيماءات جسدية

تلجأ المخرجة شيرين غيث إلى إقامة الحوار بين الأجيال، جيل الأب وابنه وابنته، ويصطحبهم والدهم إلى بعض أصدقائه ليتعرفوا على مزيد من المعلومات عن تراث السمسمية وتاريخ مدينتهم، كذلك لا تفوت شيرين غيث الفرصة للحديث عن رقصة “البمبوطية” ودلالات الحركات والإيماءات بها، وكيف أنها تعتمد على خفة وإيقاع القدمين والتمثيل بالذراعين.

يشرح الأب هنا لصغيره دلالة الإيماءات التي يقوم بها راقص “البمبوطية”، فهي قصة عن التجارة بين بحار بورسعيدي ذي مركب صغير وأحد الخواجات (الأجانب) على ظهر مركب كبير، تُحكى القصة عبر لغة الإيماءات الجسدية التعبيرية غير المنطوقة، وعندما تكتمل الصفقة ويتناول البحار أمواله يقبلها ويضعها في جيبه ثم يبدأ في التراجع للخلف عائدا إلى الشاطئ.

كانت الإضاءة بالفيلم مميزة ولافتة جدا خصوصا مع اللقطات المقربة والمتوسطة للآلة الموسيقية وحدها، حيث وُضعت على خلفية سوداء تماما مع إطلاق الضوء على تفاصيل الآلة ومن خلال الظل والنور تتكشف جمالياتها، وتتحول إلى كائن حي بالغ الجمال يكاد يذكرنا بإضاءة رامبرانت (رسام هولندي).

اكتفت المخرجة في فيلم “عروستي خلج” بمشاهد ولاء وعائلتها والسياح وتفاصيل المكان هناك، لكنها استعانت بصور فوتوغرافية ومواد فيلمية أرشيفية في فيلم مدكور ثابت “الأصل والصورة”، مثلما فعلت بفيلمها عن السمسمية حيث غزلت بمهارة كبيرة ضمن نسيج الفيلم اللقطات الأرشيفية للحرب على بورسعيد وضحاياها وبيوتها المهدمة.

المخرجة المصرية شيرين غيث قدمت العديد من الأفلام الوثائقية التي نالت عدة جوائز أهمها فيلم “همس النخيل”

 

“انتحار شرعي”.. أعمال لم تر النور حتى انتهى الحفل

رحلت المبدعة شيرين غيث قبل أيام بشكل مفاجئ وصادم وهي لا تزال في الأربعين من عمرها، فقد تخرجت في المعهد العالي للسينما عام 1996، وكانت تقوم بالتدريس فيه، كما عملت كمساعدة مخرج مع عدد كبير من المخرجين بالدراما التلفزيونية، لكن أعمالها الوثائقية اصطبغت بروح وجماليات سينمائية صافية تعكس روحها الإنسانية الرقيقة.

قدمت شيرين العديد من الأعمال الوثائقية من بينها فيلم “همس النخيل” ونالت عليه عدة جوائز، وقد صرحت قبل عامين أن لديها مشروعات روائية طويلة، ومن بينها عملان مع المنتج حسين القلا الأول بعنوان “إيه يو سي” من سيناريو عمر جمال.

يتحدث هذا المشروع عن الشبان الذين يعيشون تجربة الثانوية العامة لكنهم لا يحصلون على معدلات تؤهلهم للجامعات المرموقة أو كليات القمة، فيحاولون حل تلك المشكلة على طريقتهم الخاصة، كما يناقش الفيلم منظومة التعليم ومكتب التنسيق غير المناسبين لروح العصر وفق أحد تصريحات المخرجة الشابة.

إضافة إلى مشروع آخر كان بعنوان “انتحار شرعي” عن أربع شخصيات لا يعرفون بعضهم يقررون الانتحار، لكنهم يبحثون عن وسيلة للانتحار الشرعي، فيكتشفون أن الحياة في ذلك المجتمع هي في حد ذاتها أحد أشكال الانتحار الشرعي.