سايكس بيكو.. 108 أعوام من التلاعب بالعرب

أصل الصفقة يعود إلى ارتفاع حدة الصراع بين بريطانيا وفرنسا على النفوذ في المنطقة العربية

“لم يكن الخط الفاصل بين منطقتي نفوذ بريطانيا وفرنسا عقلانيا، بل كان فكرة بسيطة: كل شيء هنا عبارة عن رمال، لا داعي للأخذ بعين الاعتبار أراضي القبائل ومسارات الأنهار وقنوات الاتصال الجغرافي. إنه خط هندسي خالص، كل شيء تم بشكل عرضي”.. هكذا وصف المؤرخ جيمس بار اتفاق “سايكس بيكو” في كتابه “خط فوق الرمل”[1].

بل إن الكثير من الكتابات الجادة لا تتورع عن تشبيه الاتفاق الذي يحمل اسمي موظفَين كبيرين واحد بريطاني والآخر فرنسي؛ بلعبة يمارسها طفلان يرسمان دائرة فوق الرمل، ثم يشقانها بخط مستقيم، ويقرران أن كلا منهما يحوز الشطر الذي يليه.

منذ العام 2016، دخل العداد مرحلة القرن الثاني بعد هذا الاتفاق الشهير، دون أن يلوح في الأفق أمل في خروج عرب شبه الجزيرة والعراق والشام من المربع الذي رسمه لهم كل من “سايكس” و”بيكو”.

اقتسام الغنيمة العثمانية

تقع الاتفاقية في ثلاث صفحات، مكونة من 12 مادة وخريطة. وتلخص المصادر مضمون الوثيقة في قيام سايكس برسم خط أفقي يمتد من ميناء عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك شرقا، حيث تعود المنطقة الواقعة شمال هذا الخط لفرنسا، أي جنوب تركيا وسوريا باستثناء فلسطين وولاية الموصل، بينما تسيطر بريطانيا على الجزء الواقع جنوبه، أي ولاية بغداد وموانئ عكا وحيفا شرق الأردن إلى غاية الحدود العراقية السعودية والأردنية السعودية الحالية، مع تخصيص فلسطين بوضع خاص يتمثل في إدارة عالمية[2].

إرهاصات الاتفاق الذي يحكم مصير المنطقة العربية حتى الآن، ظهرت في أكتوبر/تشرين الأول 1915، حين دعا وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي سفير فرنسا في لندن بول كامبون، للتداول الدوري بمستجدات السياسة على ضوء مخرجات جبهات القتال المشتركة ضد ألمانيا وبوادر سقوط الخلافة العثمانية.

أثمر ذلك أن ينتدب السفير الفرنسي ممثلاً دائماً لفرنسا إلى لجنة تُعرف باسم “لجنة دي بونسن”، فوقع الاختيار على دبلوماسي فرنسي بدرجة قنصل حديث التعيين بلندن اسمه فرنسوا ماري جورج بيكو.

خاض بيكو مفاوضات طويلة مع البريطانيين آلت بداياتها إلى الفشل بسبب ما اعتبره محاوروه البريطانيون تعاليا وعجرفة فرنسية، قبل أن يتم اللجوء إلى تشكيل لجنة ثنائية بينه وبين سايكس، وعقد أول اجتماع لهما يوم 21 ديسمبر/كانون الأول بالسفارة الفرنسية في لندن، واستمرت الاجتماعات يومياً، تلتها صداقة ودية بين الاثنين امتدت طوال فترة الحرب، وهو ما سيتولد عنه اتفاق “سايكس بيكو” الشهير[3].

هذا التقارب والتفاهم بين الشخصيتين فسره البعض بالقواسم المشتركة بينهما، من قبيل السن والوظيفة الدبلوماسية وانفتاح كل منهما على لغة الآخر وثقافته.. لكن جل المصادر تشير إلى أن سايكس كان القائد الحقيقي لمسار التفاوض، حيث كانت بريطانيا حريصة على إنجاح اتفاقها مع فرنسا لحسم مصير المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى.

وتحرص المصادر التاريخية على تأكيد أن روسيا لم توقع أبدا بشكل رسمي على هذا الاتفاق، بل اكتفت بتزكيته. وفي المقابل منح الغربيون لروسيا الضوء الأخضر للزحف نحو إسطنبول وشرق شبه جزيرة الأناضول[4].

أصل الشرور

في الذكرى 101 لتوقيع اتفاقية “سايكس بيكو”، نشرت مجلة “ديلي بيست” الأمريكية تقريرا قالت فيه “على الجميع الاعتراف أن هذا الدمار الذي حاق بالشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ليس سببه الغزو الخارجي (الأمريكي البريطاني) أو التوترات الداخلية (ثورات الربيع العربي)، ولكن السبب الرئيسي هو تلك الخريطة التي تم بموجبها تقسيم الشرق الأوسط المطلق عليها سايكس بيكو”[5].

وتحدثت المجلة عن “اختراع” دول جديدة لم تكن قائمة حينها مثل سوريا، وأن التقسيم جرى يومها على أساس طائفي، مما زرع بذور الصراعات في المنطقة.

أصل الصفقة يعود حسب المجلة الأمريكية إلى ارتفاع حدة الصراع بين بريطانيا وفرنسا على النفوذ في المنطقة العربية، “وكانت نقطة البداية في اجتماع سري بين السير “مارك سايكس” من بريطانيا، والسيد “إم فرانسوا جورج بيكو” من فرنسا”.

بدا هذا التفاوض الثنائي سهلا بالنظر إلى وجود خصم مشترك للدولتين الأوروبيتين هو روسيا القيصرية، حيث حرصا على إنهاء خلافاتهما بأسرع وقت لقطع الطريق أمام المحاولات الروسية للتسلل نحو المنطقة[6].

كانت بريطانيا حينها تسيطر على كل من مصر وفلسطين، وأجزاء من السعودية التي كان يطلق عليها اسم الحجاز، ومناطق من العراق ولم تكن قد أُعلنت دولة قائمة بذاتها. أما فرنسا فكانت تسيطر على سوريا، بينما تسيطر روسيا منذ أيام بطرس الأكبر على تركيا بما في ذلك القسطنطينية ومضيق الدردنيل[7]، أي تلك القناة الواصلة ما بين البحر الأسود إلى البحر المتوسط، والتي كانت تربط الأسطول الروسي بـ”المياه الدافئة”، أي مياه البحر الأبيض المتوسط التي تعتبر حلما تاريخيا لقياصرة روسيا.[8]

عنصرية ضد العرب

السيطرة الروسية على تركيا سرعان ما سقطت بقيام الثورة البلشفية في روسيا (1917)، وقيام الدولة العلمانية في تركيا على أنقاض الخلافة العثمانية التي لم يعد لها وجود. لكن أهم بصمات الشخصيتين اللتين أشرفتا على هذا الاتفاق، تتمثل في ما تصفه المصادر التاريخية بعنصرية الدبلوماسي البريطاني سايكس تجاه سكان المنطقة العربية[9].

فـ”السير سايكس” كان يهوى الرسم، ومنه تستشف نزعته العنصرية هذه، حيث كان يرسم كلا من اليهود والعرب بأنوف طويلة، ويصوّرهم في هيئة أشخاص متسخين لا يستحمون، بينما يصور الأتراك على أنهم أناس بدناء تعلو ملامحهم سمات المكر والخداع.

لم تكن “طبخة” كل من “سايكس” و”بيكو” لتستوي من دون وجود رجل ثالث، هو الشخصية الشهيرة باسم “لورنس العرب”، أي رجل المخابرات البريطانية الذي تسلل إلى المنطقة العربية وطاف بأرجائها، مركزا اهتمامها الاستخباراتي على مملكة الهاشميين التي كانت تسيطر على منطقة الخليج والعراق بالكامل خلال فترة الحكم العثماني[10].

لبس توماس إدوارد لورنس لباس العرب واندس بين القبائل العربية في كل من مكة والمدينة المنورة، منفذا مخططه بإثارة النفوس ضد الحكم العثماني بهدف الثورة عليه، وكان هذا الرجل بمثابة العين التي كان ينظر بها كل من “سايكس” و”بيكو” إلى التحولات الميدانية، ومن خلاله استشعرا قرب قيام الثورة العربية ضد العثمانيين، وذلك من خلال حرب الهاشميين على سلطة الخلافة.

العرب حطب الحرب على العثمانيين

كان “سايكس” حريصا على استباق جميع التطورات التي تم تحضير المنطقة العربية لتشهدها، ومن ذلك منع ظهور دولة عربية موحدة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. تمكنت الجيوش العربية فعليا -بمساعدة بريطانية- من طرد الأتراك من السعودية وفلسطين وسوريا، مستفيدة من نصائح وخطط توماس إدوارد لورنس العسكرية التي لم يكن العرب يعرفون بها بعد[11].

وجد “لورنس العرب” ضالته في الأمير فيصل، وهو واحد من أربعة أبناء للملك حسين الهاشمي. كان هذا الرجل الشخصية الأمثل لتجسيد قيادة رمزية للجيش العربي في معركته الأخيرة ضد العثمانيين في الشام، شريطة الانسحاب فور انتهاء المعركة وإفساح المجال للفرنسيين، على اعتبار أن العرب لن يكونوا قادرين على تدبير أمورهم بشكل ذاتي مباشرة بعد استقلالهم عن الأتراك، وأنهم سيحتاجون إلى “مشورة” الفرنسيين في الشمال والبريطانيين في الجنوب[12].

بحلول ديسمبر/كانون الأول 1917، سيطرت الجيوش العربية على القدس وانهارت الإمبراطورية العثمانية بالكامل، وبدأ فعليا تطبيق اتفاقية “سايكس بيكو” وتنفيذ الخريطة التي اعتمدها الأمير فيصل حينها، والتي سرعان ما حصلت على غطاء دولي من خلال مؤتمر باريس 1919 الذي عقده المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، حيث مُنح الهامشيون مملكة جديدة شرق الأردن مقابل إخلائهم سوريا لصالح الفرنسيين تنفيذا لاتفاق “سايكس بيكو”[13].

دهاء بريطاني

لم يكن اتفاق سايكس بيكو مجرد توافق عاجل بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم النفوذ في المنطقة العربية بعد سقوط الدولة العثمانية، بل كان في جزء منه تنفيذا لخطة بريطانيا التي تعد القوة الأكبر في المنطقة حينها، لوضع فرنسا كقوة عازلة بينها وبين روسيا القيصرية.

فبريطانيا التي كانت تعتبر نفسها سيدة العالم حينها، عمدت إلى تهدئة فرنسا وتأجيل أي اصطدام مباشر معها عبر هذا الاتفاق[14]، إلى جانب “شراء” هدنة مع روسيا القيصرية، في انتظار نهاية الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا باعتبارها أولى الأولويات.

ويرجِّح باحثون في بريطانيا أن وزير الحرب الفيلد مارشال هوراشيو هربرت كيتشنر الذي كان الشخصية الأقوى تأثيراً في قرارات حكومته، كان يرى أن روسيا لن تهدأ عن إثارة العوائق أمام بريطانيا كما أثبتت الوقائع في أكثر من مناسبة، وهو جزء من العداء المدفوع بأطماع اللعبة السياسية الكبرى بين بريطانيا من جهة وروسيا وفرنسا من جهة أخرى[15].

اقتسام الكعكة

نصّ هذا الاتفاق الذي سيحكم مصير المنطقة العربية في شقها الشرقي حتى اليوم، على استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أضنة (تقع في تركيا)، واستيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين، ثم استيلاء روسيا على الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان، مع حق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المقدسة في فلسطين[16].

نصّ الاتفاق على استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان، واستيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق

فالعنصر الديني كان شديد الحضور في هذا الاتفاق، وهو ما يفسّر استثناء فلسطين من تقسيم النفوذ. فالـ”فيتو” الروسي ضد سيطرة فرنسا على فلسطين ضمن القسم الشمالي للمنطقة العربية المراد تقسيمها؛ يعود إلى حرص روسيا القيصرية على منع سيطرة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية على مدينة القدس الإستراتيجية، على حساب الأرثوذوكس[17].

ظل الاتفاق سريا إلى أن جاءت الثورة التي حملت الشيوعيين إلى الحكم في روسيا عام 1917، وهو ما شكل صدمة للعرب، وخاصة السوريين، وأحرج القوتين الاستعماريتين المسيطرتين على المنطقة فرنسا وبريطانيا. فالثوار البلاشفة اعتبروا أنفسهم غير معنيين بأي اتفاق مبرم سلفا مع “القوى الإمبريالية” الأخرى، وعملوا على كشف كل تلك الاتفاقيات السرية[18].

سان ريمو.. ترسيم القسمة

كان اتفاق سايكس بيكو شبه مؤقت، وسرعان ما عوضته اتفاقية “سان ريمو” التي أقامت سلطة الانتداب البريطاني الفرنسي على المنطقة، لكن الأهم في ذلك أن الخريطة التي أقرتها سايكس بيكو ظلت قائمة.

مؤتمر “سان ريمو” الذي عقدته بريطانيا مع فرنسا في الـ26 من أبريل/نيسان 1920 بهدف تحديد مصير ولايات المشرق العربي المحتلة، جاء بعد سقوط الدولة العثمانية، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، فلم يبق من اتفاق سايكس بيكو عمليا سوى الترسيم المبدئي لحدود لبنان والعراق والأردن وفلسطين[19].

خاض بيكو مفاوضات طويلة مع البريطانيين آلت إلى تشكيل لجنة ثنائية بينه وبين سايكس

ففي أبريل/نيسان 2020، التأم مؤتمر سان ريمو (في إيطاليا)، والذي ضم ممثلين لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان واليابان وبلجيكا، من أجل الاتفاق على مصير الولايات العربية للإمبراطورية العثمانية التي خسرت الحرب. في المقابل، غابت عن المؤتمر كل من الولايات المتحدة الأمريكية التي عادت لتعتمد سياستها الانعزالية، وروسيا التي كانت حينها منشغلة في حربها الأهلية عقب الثورة البلشفية[20].

أسفر المؤتمر يوم 24 أبريل/نيسان 2020 عن منح بريطانيا حصة السيطرة على المنطقة الواقعة بين فلسطين والعراق، مع إضافة منطقة كركوك إليها إثر تنازل فرنسا عنها مقابل امتيازات بترولية في المنطقة. بينما حصلت فرنسا على سلطة الانتداب على كل من سوريا ولبنان، وتُركت منطقة أرمينيا لفائدة روسيا التي سرعان ما سحبتها منها جيوش مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة. وكرّس الاتفاق فلسطين منطقة دولية غير خاضعة لأي دولة، أي أن النتيجة النهائية للمؤتمر كانت تزكية خرائط اتفاقية “سايكس بيكو”[21].

واشنطن بوست: سايكس بيكو باق

قرأ البعض في اندلاع الحرب في سوريا بعد إفشال ثورة الربيع العربي، وطول أمدها مع تحولها إلى معركة إقليمية ودولية، إلى جانب الاضطرابات السياسية التي شملت جل دول المنطقة لأسباب طائفية أو دينية مثل لبنان والعراق؛ مؤشرا على قرب نهاية “الحدود المصطنعة” التي خلّفها اتفاق سايكس بيكو في المنطقة العربية، كما توقعت صحيفة “واشنطن بوست”[22].

ويستبعد خبراء أمثال أستاذ العلوم السياسية روبرت جاكسون ذلك بشكل شبه كلي، على اعتبار أن الحدود الفاصلة بين الدول القائمة هي آخر ما سيتم التفكير في تغييره، بما أن هذه الدول لا تمارس سيادتها الكاملة أصلا على حدودها الحالية[23].

ويستدل أنصار فكرة عدم تغيير الحدود القائمة بين دول الشرق الأوسط في المدى المنظور، على ذلك بأن الهدف الإستراتيجي الأول لهذه الحدود كان يرتبط بقيام دولة إسرائيل في المنطقة، وهو ما تم وترسخ بناء على الحدود الحالية، والفاصلة أساسا بين غرب وشرق نهر الأردن.

كما يستدل أنصار استمرار حدود سايكس بيكو في المنطقة العربية بفترة الحرب الأهلية في لبنان -والتي بدأت سنة 1975- من ظهور كيانات مختلفة وذات سيطرة كاملة على مناطق مختلفة من البلاد، دون أن يؤدي ذلك إلى اعتراف دولي بأي من تلك الكيانات كدولة مستقلة عن لبنان. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع الحرب الأخيرة في سوريا، والتي انتهت بها مقسمة فعليا على الأرض دون أن يتحوّل ذلك إلى بروز دول جديدة معترف بها دوليا[24].

نيويورك تايمز: حان وقت التغيير

الموقف الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، يقابله موقف آخر نشرته صحيفة أمريكية أخرى لا تقل قيمة هي “نيويورك تايمز”. فقد نشرت هذه الأخيرة أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السنوية شهر سبتمبر/أيلول 2013، مقالا تصدر صفحتها الأولى مرفقا بخريطة، تحدّثت فيه عن سيناريو تقسيم خمس دول عربية وتحويلها إلى14  دويلة، وذلك من خلال انفصال تسعة كيانات عرقية ومذهبية[25].

حمل المقال عنوان “لنتخيّل مراجعة خريطة الشرق الأوسط”، وتوقيع الباحث الأمريكي الشهير روبين رايت المتخصص في العالم الإسلامي ومؤلف كتاب “الغضب والتمرد في العالم الإسلامي”، وتصدرته خرائط توضّح كيفية احتمال تقسيم كل من ليبيا والسعودية وسوريا واليمن والعراق[26].

كاتب المقال قال إن الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة (كانت الحرب حينها تتصاعد في سوريا) قد تكون عاملا ممهدا لانشطار عدد من الدول وتقسيمها إلى دويلات، مضيفا أن الحرب التي تشهدها سوريا ستكون نقطة تحول في هذا المسار.

وجعل روبين رايت سوريا على رأس الدول العربية المرشحة للتقسيم إلى عدة دول، مبررا ذلك بتناقضاتها الداخلية وتعدديتها الدينية والمذهبية والعرقية، واستدل الباحث الأمريكي على هذه الإمكانية بالانقلابات التي شهدتها سوريا بعد استقلالها عن فرنسا[27].

خلص كاتب المقال الشهير الذي يحتفظ به موقع نيويورك تايمز في أرشيفه، إلى رسم حدود كل دولة من الدويلات التي قال إنها ستنجم عن انشطار سوريا، واحدة “علوية” على طول الشريط الساحلي المطل على البحر الأبيض المتوسط، وثانية سنية تضم العاصمة دمشق وجنوب سوريا، وثالثة في الشمال تخصص للأكراد وتتوحّد مع شمال العراق.

هذا الأخير بدوره مرشح -حسب الباحث الأمريكي- للتقسيم إلى عدة دول، حيث سينضم قسمه الغربي المحاذي لسوريا إلى دولة سنية تتوحّد مع القسم السني من سوريا، وينضم الشمال بعاصمته أربيل إلى الشمال السوري لتأسيس دولة الأكراد، بينما يخصص الجنوب لدولة “شيعيستان” الشيعية[28].

وأضاف روبين رايت أن الربيع العربي لم يأت فقط لإسقاط الحكام الديكتاتوريين، بل لأن مجموعات بشرية في المنطقة تتطلّع إلى التخلص من حكم مركزي لا ينسجم مع هويتها، والتمكن من استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل مباشر. ويذهب المقال إلى درجة افتراض ضرورة تقسيم السعودية نفسها، معتبرا أنها مجرد تجمّع لعدد من القبائل تم توحيدها بالقوة وتحت راية المذهب الوهابي [29].

“سايكس بيكو”.. هل انتهى؟

الفترة الوحيدة التي بات فيها اتفاق “سايكس بيكو” معلقا عمليا، هي التي كانت خلالها “الدولة الإسلامية” التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية قيامها في المنطقة عام 2014، تتجاهل الحدود الموروثة عن الاتفاق البريطاني الفرنسي، وتقيم حدودها الخاصة[30].

“الدولة الإسلامية، تجاهلت الحدود الموروثة عن الاتفاق البريطاني الفرنسي، وأقامت حدودها الخاصة

وفي الوقت الذي يجزم البعض بأن الاتفاق الذي يعود إلى قرن وثلاثة أعوام صمد طيلة هذه الفترة وسيستمر في المستقبل، يشكك آخرون في كون الاتفاق صمد بالفعل. ويدفع أصحاب هذا الرأي بأن أيا من مناطق الشرق الأوسط العربية لم تعد خاضعة للنفوذ الفرنسي أو البريطاني أو الروسي، كما لم تعد فلسطين منطقة دولية كما أرادها الاتفاق، علاوة على أن المناطق التركية خرجت مما رسمه لها اتفاق “سايكس بيكو” مبكرا[31].

 

المصادر: